أقلام وأراء

جواد بولس يكتب – من أجل إقامة جبهة : «مواطنون ضد الفاشية»

جواد بولس 16/4/2021

لا أعرف كم من المشاهدين نجحوا، أو حاولوا استيعاب مشهد اعتداء عناصر شرطة إسرائيل الوحشي على النائب عن الجبهة الديمقراطية في الكنيست، الدكتور عوفر كسيف، ومن ثم ترجموه كتجسيد لسياسة الدولة الرسمية الجديدة، وأساليب جهاز شرطتها، التي باتت اعتداءاتها المتكررة على المواطنين المسالمين، من عرب ويهود، مؤشرا واضحا على خطورة التغيير العنصري الفاشي الجوهري الذي حصل داخل المجتع اليهودي، وعلى مفاهيم دهاقنة الحكم تجاه جميع «الآخرين» الخارجين عن إجماعهم.

لقد شارك النائب كسيف مع مجموعة من المحتجين، العرب واليهود، في مظاهرة سلمية ضد اعتداءات المستوطنين المتطرفين على السكان العرب، وعلى ممتلكاتهم في حي الشيخ جراح في القدس المحتلة، لكن رد الشرطة، التي صارت عصيها أطول من أنفاسها، جاء عنيفا بشكل غير مبرر على الإطلاق، وإصابة كسيف كانت متعمدة، خاصة أنهم كانوا يعرفون أنه يهودي، وأنه نائب في البرلمان ويحظى بحصانة تامة.

لا يمكن، في هذا المقام، ألا نستحضر مشاهد اعتداء هذه الشرطة نفسها على كرمي جيلون الرئيس السابق لجهاز المخابرات العامة في إسرائيل، وإصابته بجراح طفيفة عندما شارك، قبل حوالي نصف عام مع آلاف المحتجين اليهود، أمام بيت رئيس الوزراء في شارع بلفور في القدس الغربية، في مظاهرة سلمية، كانت قد انتهت بالاعتداء عليها، وبمشهد عرّى قبح واقع إسرائيل، وأثبت أننا نقف، كما صرخت حينها، عند «باب جهنم» فسألت: «من يوقف السقوط به وكيف؟». لم يكن الاعتداء على المتظاهرين في حي الشيخ جراح، وإصابة النائب كسيف، هو النذير الوحيد الذي أصابنا في الأسابيع القليلة الماضية، وذكّرنا بما يتربص بمستقبلنا، فقبل أيام رفض ثلاثة من قضاة محكمة «العدل» العليا الإسرائيلية التماس «لجنة اختيار الفائزين في جائزة إسرائيل» ضد وزير التربية والتعليم يوآف غالنت. قدمت اللجنة التماسها في أعقاب رفض الوزير لقرارها القاضي بمنح البروفيسور عوديد غولدرايخ، وهو باحث معروف في معهد «وايزمن» في مدينة رحوبوت، الجائزة لهذا العام، تقديرا له على أبحاثه في علوم الرياضيات والحاسوب. وعلل الوزير غالانت رفضه لقرار منح الفائز جائزته على خلفية مواقف البروفيسور غولدرايخ في مناهضة الاحتلال الإسرائيلي للمناطق الفلسطينية، وتأييده لحركة المقاطعة العالمية (BDS) وتوقيعه على عريضة كانت قد نادت بمقاطعة جامعة «أريئيل» المقامة على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967.

لم يلفت قرار المحكمة العليا انتباه قادة مجتمعنا، ولم تستفز خلاصته ومسوّغاتها الخبيثة معشر الأكاديميين، ولا المحامين والقانونيين العرب، باستثناء التفاتة من قبل الصحافي الكاتب سليم سلامة، الذي نشر مقالًا بعنوان «السقوط في شرعنة العقاب على الآراء السياسية» شرّح فيه مضامين قرار المحكمة العليا وتناول أبعاده بمهنية، وأشار إلى تداعياته، في فضاء عدل كسيح، ومنظومة قضاء ما انفكت تهرول نحو الهاوية والخراب. لقد تعوّدنا على ألا يعير معظم المواطنين العرب، على جميع انتماءاتهم وشرائحهم، هذه الأخبار «الصغيرة» والمشاهد السامة المستفزة أي اهتمام، فمجتمعاتنا تعيش حالة إدمان على تعاطي الخبر برتابة منهكة، وتحترف، ببردوة، طقوس النفاق والكذب الاجتماعيين القاتلين، حتى إن معظم الناس تعلموا كيف يكيّفون شروط سلامتهم والنجاة بين صلاة ورصاصة ووجبة، وكيف يتقنون مدائح الدم في جنازات القتلى، ويستمطرون، بدموع من زجاج، رحمة السماوات كلما اغتيلت سوسنة في المساء.

كتبت قبل مدة قصيرة أنني لا أعرف متى سنستوعب، بسطاء «ونبلاء» أننا نقف على «عتبة جهنم»؛ وأننا لا نملك ترف التناسي والتغافل عمّا يحصل في شوارع الدولة وفي أروقتها، وأنه من الحماقة أن يفرح بعضنا كلما سقطت هراوة شرطي يهودي فاشي على رأس يهودي عاص، أو أن يغني جاهل متحذلق بشماتة حمقاء ويعلن من على المنصات: ها قد دنت ساعة خلاصنا، فإن بعضهم يأكلون بعضهم، فدعوهم يسيرون ببطء نحو نهايتهم القريبة. هنالك هوة كبيرة بين ما يجري من تفاعلات سياسية داخل المجتمع اليهودي، وما يوازيها من ركود مقلق مسيطر على وعي جماهيرنا وقياديينا، وما يرافقة من انهيارات في القيم الاجتماعية والسياسية، فبين الأكثرية اليهودية تتنامى وتكتمل معالم «جهنم» وفي مواجهتها تتسع حلقات المعارضين الذين بدأوا يستشعرون بحتمية ذلك التطور، الذي سيفضي إلى تشكل نظام ديكتاتوري شبيه بجميع الأنظمة السوداء التي عرفها التاريخ، لاسيما في الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين.

أما في المقابل، وعلى الرغم من اقتناع معظم طلائعيي النخب العربية، المزودة بأدوات علمية والمنكشفة على تجارب الشعوب الأخرى، بأن ممارسات النظام الإسرائيلي الجديد ستختلف جوهريا عمّا عاشه المجتمع الإسرائيلي وعشناه نحن في العقود السبعة الماضية. وعلى الرغم من معرفة هذه الحقيقة، لم تبادر هذه النخب في مجتمعاتنا إلى أيّ محاولة لمنع وقوع الأسوأ المتوقع، أو للبحث عن وسائل لمقاومته.

سيدّعي الكثيرون، حتى بعد حالة الاعتداء السافر على النائب كسيف وعلى المتظاهرين معه، كما أتوقع، أن لا جديد في المشهد الإسرائيلي؛ فهذه الشرطة هي شرطة الدولة القديمة الجديدة، ولطالما شاهدنا عصيّها وهي تهوي على رؤوس وأجساد المتظاهرين العرب، وبنادقها تطلق عليهم قنابل الغاز المسيل للدموع، أو حتى الرصاص المطاطي والحي، كما جرى في أحداث يوم الأرض، أو خلال احتجاجات ومواجهات شهر اكتوبر عام 2000 وفي غيرها من حالات الانفلات الشرطية العنصرية القمعية، التي خلّفت وراءها بين المواطنين العرب الضحايا والمصابين والأحزان.

لكنني، هكذا كتبت قبل إجراء جولة الانتخابات الأخيرة، وإن كنت أوافق على صحة هذا الادعاء بمنظوره التاريخي، أؤكد مرة أخرى، على أن ممارسات عناصر الشرطة الأخيرة وثبوت عملية سقوط المحكمة العليا الإسرائيلية الأخلاقي والمهني، ستبقى، بعد احتلال اليمين بأطيافه لأغلبية مقاعد الكنيست، علامات فارقة وتاريخية، وبراهين على انتقال نظام الحكم من نظام عنصري، كان يقمع ويضطهد مواطني الدولة العرب ولم يزل، إلى نظام مستبد لا ديمقراطي بالمطلق. هذا النظام لا يقبل بأي نوع من المعارضة السياسية، حتى لو كانت آتية من داخل المجتمع اليهودي، وتمارسها قطاعات صهيونية عرفت في الماضي بدعمها للحكومات الصهيونية اليمينية، على أصنافها، أو من قبل أجسام وجهات وشخصيات يهودية، أو يهودية صهيونية بارزة، وصاحبة تاريخ مشهود في تضحياتها من أجل بناء إسرائيل القوية، مثل ما حصل مع كرمي جيلون وآخرين قبله.

ان من لا يقرّ بالفوارق بين النظامين لن يأمن، بعد انتشار الذئاب في الطرقات، على مستقبل أولاده في هذه البلاد. كم هتفنا، حين كانت حناجرنا واثقة مثل حجارة الصوان، بأن الفاشية لن تمرّ؛ وحاولنا صدّها، وصمدنا وعشنا.. ولكن، كما نسمع ونرى، لم يعد هذا الهتاف شافيا ولا كافيا. لقد تمنيت على أحزابنا وحركاتنا السياسية والدينية والمدنية أن تتصدر مواجهة هذه القوى، قبل أن تستقوي وتستحكم في رقاب الدولة وفي مفاصلها؛ وكان الأمل أن يتم ذلك من خلال نضال حقيقي، لا بإطلاق الشعارات ونشر بيانات الشجب والاستنكار فحسب، وعوّلنا كثيرا على «الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة» لأنها كانت صاحبة هذا الشعار التاريخي والمؤمنة فكريا بضرورة بناء الجبهات العريضة في مواجهة الفاشية، وكانت هي المبادرة لإنشائها في البدايات؛ إلا أنها، يبدو، لم تعد مهيئة، بتركيبتها الحالية، لحمل عبء هذه المسؤولية. وبما أنني مؤمن بأننا كمواطنين عرب كنا وسنكون أول الضحايا، فعلينا تقع مسؤولية المبادرة لبناء أوسع جبهة تتوافق مركباتها على ضرورة العمل النضالي الموحّد؛ والأمل معقود على أن تضم هذه الجبهة كل جهة أو جسم أو مجموعة أو حركة أو شخصية، عربية ويهودية، تقر مثلنا بخطورة تنامي قوة منظومة القوى الفاشية وبضرورة التصدي لها.

ولأنني أعرف أن الكثيرين بيننا يؤمنون مثلي، فعلى مجموعة مبادرين أن يلتقوا، لا على أسس الانتماءات الحزبية المؤطرة، بل في عروة الفكرة وبهدف تشخيص أعراض المرحلة والاتفاق كيف يكون الانطلاق وما هي الخطوة التالية في التوجه نحو جميع الحلفاء الممكنين. فلنقم، إذن، رابطة أو جبهة «مواطنون ضد الفاشية».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى