أقلام وأراء

جواد بولس يكتب – ما المشترك بين عايدة ومنصور؟

جواد بولس – 4/12/2020

لا نستطيع التكهن إذا سيؤدي تصويت البرلمان الإسرائيلي على قانون لحل نفسه، كما جرى يوم الاربعاء الماضي، إلى نجاح التصويت عليه بقراءتين إضافيتين ضروريتين، كي يصبح قانونًا نافذًا وبابًا للذهاب إلى عملية انتخابات جديدة؛ فهنالك احتمال بأن يكون غانتس وحزبه في خضم مناورة سياسية خبيثة، تستهدف الضغط على نتنياهو وحزبه وإجبارهما على تحسين مواقع كاحول – لافان الحزبية، وتعزيز مصالح قادته الشخصية، والبقاء، بعدها، في هذه الحكومة؛ أو أن يتمكن أحد الحزبين من تركيب حكومة جديدة، من ضمن نواب هذه الكنيست؛ فعندها، وفي حالة نجاح أحد هذين الاحتمالين، لن يضطر المواطنون إلى خوض غمار معركة انتخابية والذهاب إلى صناديق الاقتراع للمرة الرابعة في غضون السنتين الأخيرتين .

وحتى نصل إلى نهاية المسرحية، أقترح أن نلتفت إلى بعض ما كشفته أحداثها في الاسابيع الاخيرة، خاصة في ما يتعلق بأداء القائمة المشتركة، التي بدت كالسمكة العالقة في شباك صياد ماكر وماهر؛ وليس أقل، الالتفات إلى أداء مؤسسات الأحزاب والحركات التي تتركب منها القائمة، وفي طليعتها الحركة الإسلامية ونجمها، النائب الدكتور منصور عباس.

من الواضح، وهذا ما قلته في الماضي، إن مواقف النائب عباس تنم عن نهج مدروس ومتكامل؛ ورغم أن البعض قد يحسب مناوراته ظاهرة جديدة، لكنها في الواقع ليست كذلك، فنحن إزاء فكر أيّدته في الماضي وتؤيده الآن مؤسسات الحركة الإسلامية، وتعلنه أمام جمهور ناخبيها وتدافع عنه أمام جميع المواطنين العرب، وتحاول استثماره بين المواطنين اليهود، وفي داخل المؤسسة الحاكمة، وعلى رأسها مكتب رئيس الوزراء نتنياهو. ولولا أن شعار القائمة المشتركة الانتخابي الأبرز والأهم سياسيًا، دعا جميع المواطنين إلى التصويت «من أجل إسقاط نتنياهو» ومنعه من إقامة الحكومة، فسيكون من الصعب لمن ليسوا من أتباع الحركة، مساءلتها على قرارها الأخير الذي ألزم نوابها بالتغيّب، ساعة التصويت، وبالامتناع عن دعم اقتراح إسقاط حكومة نتنياهو، الذي حظي، رغم تغيب النواب الإسلاميين الأربعة، على أكثرية واحد وستين صوتًا .ولأن الحركة الإسلامية نكثت ما أعلنته أمام ناخبي القائمة، فابقاؤها شريكة كاملة، بدون مساءلتها أو ضبط مسار تحركها المستقبلي، سيضر بمصداقية القائمة، كوسيلة نضالية جديرة بالاحترام، وبضرورة هذه الشراكة

وكي لا يساء فهمي، فأنا مع انتقاد قرارات النائب منصور عباس ومواقف حركته، لكنني ارفض التهجم عليهم وتخوينهم، فما يفعلونه سيبقى محسوبًا لهم وعليهم؛ وأدعو، بالمقابل، جميع من حاولوا المس بمصداقيتهم السياسية وتجريحهم، إلى مناقشة مواقفهم المعلنة وإلى العمل، في الوقت نفسه، على تغيير موازين القوى السياسية داخل مجتمعاتنا، وتعزيز أطرها الحزبية والحركية، وإكسابها القوة الكافية لتقف، بندّية متكافئة، مقابل الحركة الإسلامية، أو حتى التفوق عليها، اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا. وبكلام آخر فقد كشفت تداعيات الأحداث الأخيرة مدى الثقة الذاتية التي تتصرف بها الحركة الإسلامية وقناعتها برواج خطابها البراغماتي /الذرائعي المكشوف، ليس لكونه انعكاسًا حقيقيًا لمضامين ما تسميه الحركة، بتعميم مقصود، في أدبياتها التوعوية ونشراتها السياسية الحركية ودعاياتها الشعبية، بالثوابت الوطنية وحسب، إنما لتيقنها من ضعف مباني شركائها الفكرية والتنظيمية، نتيجة لما تعانيه أطرهم من ضمور تنظيمي، مثل الحركة العربية للتغيير، أو الاغتراب عن الواقع الحقيقي للمواطنين، مثل حزب التجمع، أو الهرم والتكلس التنظيميين داخل مؤسسات الحزب الشيوعي وتوأمه، الجبهة الديمقراطية للسلام، وما نعرفه من تفشّ للنزاعات الشخصية والمناكفات التي تملأ الجسدين جروحًا، وتنهكهما.

لا تنحصر علامات أزمة الأطر الحزبية والمؤسساتية القيادية الفاعلة بين المواطنين العرب على كيفية إدارة الأزمات المتوالدة بين مركبات القائمة المشتركة، وما اقتضته وتقتضيه هذه التجاذبات المكتومة أو الظاهرة من مراوحة بين صدامات معلنة، كما يحصل الان في قضية التصويت على إسقاط نتنياهو، أو بلجوء بعضهم إلى «نعمة الصمت» أو المسايرة الصاغرة، في مسائل خلافية، سياسية أو اجتماعية، لم ينجحوا بتجسيرها؛ مع أننا شهدنا أن هذا الخيار لم يكن مقبولًا على الحركة الإسلامية ولن يكون مقبولًا إذا كان الموقف المطلوب منها يندرج تحت ما يعتبرونه من الثوابت العقائدية، كما حصل في قضية التصويت على قانون منع إخضاع المثليين للعلاجات القسرية، الذي بسببه تحاسب النائبة توما، أو في معظم القضايا النسوية، أو في قضايا مهمة اخرى.

لقد دُعيت النائب عايدة توما سليمان إلى مدينة قلنسوة لإلقاء محاضرة عن العنف ضد النساء، حيث كان من المقرر أن تحل ضيفة على المركز الجماهيري في المدينة يوم الأحد المنصرم. ومع انتشار خبر الدعوة في قلنسوة خرجت عدة فعاليات دينية بمناشدة علنية لحظر دخول النائبة الشيوعية عايدة توما إلى المدينة، مع تأكيد هؤلاء على ضرورة منعها من مخاطبة الأهل في المدينة، وإفساد عقولهم، لأنها دعمت وتدعم حقوق المثليين. لن اتطرق هنا إلى مسألة الإكراه والاعتداء على حريات الغير/ المختلف، وهي من الظواهر المتنامية والمتسيّدة في معظم قرانا ومدننا العربية؛ ولن أسرد، في هذا المقام، كم من النشاطات الاجتماعية، الفنية، المسرحية، الرياضية والأدبية، حوربت وقمعت في قرانا ومدننا، وأهملتها القائمة المشتركة كنوافل هامشية؛ لكنني على قناعة بأن خنوع فعاليات مجتمعنا التقدمية المختلفة ومعظم قياداته السياسية في تلك الحالات، وتراجعهم أمام القوى الرجعية، أدى اليوم لأن تدفع النائبة عايدة سليمان وغيرها فواتير تلك الهزائم . لقد وقف في الماضي قادة الحزب الشيوعي والجبهويون مع قادة القوى الوطنية والتقدمية، وقاوموا الممارسات العنصرية الصهيونية وقمع الدولة بصلابة وبجدارة، لكنهم حافضوا، في الوقت نفسه، على قلاعهم من أي عبث أو تنمر أو فساد أو جنوح داخليين، فحافظوا على قيم مجتمعنا الموحدة، واحترموا حريات وحقوق كل الشرائح والفئات الأصيلة، حتى حفلت كل قرية ومدينة بقصص هؤلاء وبنوادرهم في تحصين الهوية الجامعة، وصيانة الانتماء الوطني والإنساني الحقيقي، ولكن.. بعد رحيل تلك الكوكبة العنيدة والواضحة، صارت المواقف الحزبية تفصّل على مقاسات البعض بانتهازية موجعة، وتنتقى بنخبوية مقيتة وتقر بشللية هدامة، وتمارس بتزمت بغيض، حتى عشنا وشفنا اليوم كيف يصبح منع ناشطة نسوية بارزة، فلسطينية شيوعية ومناضلة ميدانية مثابرة، ممكنًا من قبل ابناء جلدتها، ومتاحًا في مدينة عربية أنجبت الأحرار والشريفات والمناضلين.

لم تتخذ القائمة المشتركة موقفًا ازاء ما واجهته النائبة عايدة توما، لكننا، رغم ذلك، لمسنا في حالتها، بخلاف حالات سبقت، حراكًا لافتًا ضد محاولة قمعها، وقرأنا بيانات حازمة وشاجبة، كانت قد أصدرتها مؤسسات الحزب الشيوعي والجبهة وحزب التجمع وإدارات عدة جمعيات مدنية، حيث عبّر فيها جميعهم وبما لا يقبل الشك، عن معارضتهم للموقف الداعي إلى منع دخول عايدة توما والتحريض عليها بسبب مواقفها وانتماءاتها المعروفة. لم تستسلم قلنسوة، كما حصل في حالات سابقة في مواقع عديدة في البلاد، ومع أن المركز الجماهيري بقي موصدًا، كانت بعض بيوتها الدافئة مفتوحة؛ فاستقبلت الضيفة بحفاوة ومعها عشرات الناشطات والناشطين والقت محاضرتها في بيت الدكتور ثابت أبو راس، وهو الناشط والمناضل من أجل حقوق أبناء شعبه منذ اكثر من أربعين عامًا، والمعروف بمواقفه التقدمية والإنسانية الشجاعة من قبل ولادة عدة حركات وتنظيمات يدعي اليوم بعض ناشطيها اليافعين أنهم يريدون تعليمه وتعليم رفيقاته ورفاقه في الدرب، كيف تكون الثوابت الوطنية.

لقد كشفت الأزمة داخل المشتركة عن بواطن الخلافات الأساسية داخل مجتمعنا، وليس بين جدران القائمة وحسب، وهذا في حد ذاته وجه القضية الحسن، لكنها، وهذا وجه القناع الثاني، أوقفتنا أمام مرايانا الذكية، حيث ظهر في أعاليها سؤال المرحلة الصعب وهو: هل تستطيع هذه الاحزاب والحركات، ببناها الفكرية والتنظيمية القديمة الجديدة، أن تشكل الأداة الصحيحة وتعطي الرد المتوازن لمشكلة وجودنا في دولة ما زالت مؤسساتها لا تعرف إلا أن تعاملنا كغرباء، أو اعداء، أو مستأجرين غير محميين؟ وهل يستطيع قادة تلك الاحزاب والحركات أن يستدلوا على الوصفة الصحيحة، لوقف زحف شركائهم، النائب منصور وحركته، نحو تلك الحقول البعيدة والملغومة؟

من الصعب التكهن حول مستقبل الحكومة الحالية وحول نتائج الانتخابات المقبلة، إذا حصلت؛ ولكن، ليس من الصعب التوقع بان القائمة المشتركة ببنيتها الحالية الضعيفة، وبسبب تحديات الحركة الاسلامية لطريقة أدائها اليوم وفي المستقبل، لن تبقى خيار الناخبين التقدميين، العرب واليهود، الوحيد؛ فأنا وكثيرون مثلي نطالب بمعرفة ماذا يجمع بين فكر عايدة توما المرأة المتحررة والشيوعية، ونصيرة حقوق المستضعفين والمستضعفات، والمسيحية المولد، وابنة الثقافة العالمية، وشريكة في المنصات الشعبية والمظاهرات الكفاحية، وثوابت الحركة الإسلامية العقائدية المعروفة والوطنية الغامضة؟ ونطالب أن نعرف ماذا يجمعها مع من يرفض، بسبب هويتها ومواقفها ومبادئها، أن يدخلها آمنة إلى بلده والى بيته؟ وهل سيحميها زملاؤها وأحزابهم عندما تُعلن حرب عليها؟ فما لم يحمها ويحمي غيرها بيت «المشتركة» فما الداعي لمثل هذه القائمة؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى