أقلام وأراء

جواد بولس  يكتب ماذا بعد أن استردت الهوية روحها؟

جواد بولس  *- 21/5/2021

مرّت علينا أيام صدامات صعبة وخطيرة للغاية؛ وهي وإن بدت شبيهة بما سبقها من مواجهات خاضتها مجتمعاتنا ضد سياسات حكومات إسرائيل المتعاقبة، فإنها تختلف عنها جوهرياً، لا في حدتها أو في حجمها فحسب. ليس من الحكمة أن نستبق النهايات وأن نتحدّث عن الخلاصات والنتائج، بينما مازالت ماكينات الدمار الإسرائيلية تسقط حمم صواريخها، وتخلف القتلى والدمار داخل قطاع غزة؛ ونشاهد، في الوقت نفسه، استعار الاحتجاجات الشعبية الضخمة والمواجهات في جميع المناطق الفلسطينية المحتلة.

سننتظر إلى أن تهدأ النيران، وتُدفن جثامين القتلى، وتُزال الأنقاض، وتستوعب الضحايا حجم خسائرها وعمق نزيفها، ويبدأ الناس باستعادة توازناتهم؛ فعندها سيُجري كل طرف حساباته، ويملأ اهراءاته من جديد، ويستأنف مسيرته، على إيقاع البارود وبهدي الفرج المشتهى والخرافات، نحو ذلك المستحيل.

نحن أيضا، المواطنين العرب في إسرائيل، بحاجة إلى استراحة المحاربين، وإلى تقييم تجربتنا الحالية؛ فمَن لم يشعر كم كنا قريبين من فوهة الجحيم، قد لا ينجو منها في المرة المقبلة؛ ومَن سيكتفي بالنوم على وسائد انتصارنا، كما يشعر البعض، قد يفيق على أصوات العويل، أو قد لا يفيق. لقد استهدفت ميليشيات اليمين الإرهابية وسوائب المستوطنين، معظم المدن الساحلية المختلطة، بدءاً من اللد والرملة ومن ثم يافا وحيفا وعكا؛ في مسعى منها لطرد أو لعزل سكان هذه المدن الفلسطينيين، حسب ما خططه، منذ سنوات طويلة، بعض راسمي سياسات الدولة العنصريين، حين بدأوا باستيراد تلك المجموعات اليمينية الهمجية وتوطينها في أحياء قريبة من بيوت العرب. وبعيداً عن التفاصيل الدقيقة التي رافقت الأحداث في جميع هذه المدن، وما دار حولها من نقاشات، ورغم الحاجة والأهمية للوقوف عليها ودراستها، سيبقى صمود أهلها العرب في وجه الهجمات الوحشية، وصدّهم لغارات المجموعات الفاشية الفالتة، علامة فارقة وراسخة في مسيرة النضال من أجل بقائنا الكريم والحر في الوطن. لم تكن تلك الوقفات الحازمة مفهومة ضمنيا، خاصة بعد أن وضع مخططو إسرائيل استراتيجيات خبيثة وواضحة لسلخ مجتمعات تلك المدن عن عمقها الفلسطيني الطبيعي، وإتباعها إلى هويات مشظّية أخرى، وبذلوا جهوداً متواصلة وجبارة لتحقيق تلك الغايات، سواء عن طريق سياسات الإفقار المتعمد، أو زرع الفتن، وفق قواعد فرّق تسُد، أو عن طريق إفشاء الجريمة والعنف، وتشجيعها عمليا، من خلال تسهيل انتشار الأسلحة والمخدرات، وغض النظر عمن يقفون وراءها وعدم ملاحقتهم، وغير ذلك من وسائل. حاولت قطعان اليمين «ضبع» المواطنين العرب وإرغامهم على الاستسلام والإقرار بالهزيمة ؛ فأعدّوا هجماتهم على غرار ما تقوم به فرق الجيش النظامية المدرّبة، وهم من خريجيها، ونفذوها بالتواطؤ الظاهر مع عناصر الشرطة الإسرائيلية التي لم تمنعهم من تنفيذ جرائمهم، بل سهلت عليهم غزواتهم وساعدتهم في كثير من المواقع التي شاهدنا فيها كيف اعتدت الشرطة نفسها بوحشية سافرة على المواطنين وعلى ممتلكاتهم.

لم ينجحوا، رغم مستوى بطشهم وقمعهم الرهيبين ؛ فبعد هجماتهم المباغتة التي نفذوها في اليوم الأول، استوعب أبناء الأحياء العربية، في معظم المدن المختلطة، حقيقة ما يواجهون، واستشعروا، بحدس كفاحي، أن المعركة، هذه المرة، ليست من أجل التضامن مع أبناء شعبهم، هناك في غزة وفي رام الله «البعيدتين» ولا من أجل الكرامة العربية بمعناها المطلق فحسب، بل هي معركة كل فرد وفرد منهم على بيته الشخصي، الذي من حجر وعرق وذكريات وعبق الأحباب، وأحسّوا، بسبب ذلك، في لحظة صحوة وطنية، بضرورة الذود عن آخر الحصون، وعن أدفأ الحضون وعن أأمن الشواطئ؛ فإمّا الصمود في أحيائهم والبقاء، وإمّا الهزيمة والجلاء.

لقد اختاروا الصمود والمواجهة؛ فتبيّن لهم ولجميعنا كم كان الشعار «لا لنكبة أخرى» رغم خطورته، شعاراً دقيقاً وواقعياً ومحرّكاً لكل فرد، كان قد أحسّ، بدوافع هوياتية صادقة، معنى انتمائه «للكل» وكيف يصير «الكل» مظلة واقية ومستوثقة للفرد. لم ينتشر ذلك الشعور داخل أبناء المجتمعات العربية في المدن المختلطة لوحدها، بل تغلغل، ببطء ولكن بوضوح، إلى جميع المدن والقرى العربية، من النقب جنوبا، حتى أعالي جبال الجليل؛ فبدأنا نشاهد أعمال الاحتجاج التي اتسمت في بعض تجلياتها الأولية بعفوية شاردة، أو بردّات فعل عنيفة، أُفرغت، أحيانا، بغضب وبشطط ضد الأفراد والممتلكات؛ لكنها سرعان ما تحوّلت إلى أنشطة كفاحية حية، كشفت، في بعض مشاهدها، حقيقة نمو قوى اجتماعية سياسية جديدة، كانت على الأغلب من فئات الشباب الذين تصرفوا كأصحاب الريادة، وكضباط لإيقاعات الساحات والميادين والشوارع في معظم البلدات والمدن. لن نسهب بتحليل هذه الظاهرة، التي بدأت تظهر مؤشرات وجودها قبل سنوات عديدة، ولا بدورها المتنامي، مقابل دور الأحزاب والحركات السياسية والدينية والمؤسسات المدنية التقليدية؛ لكنني سأكتفي، هنا والآن، بالتأكيد على أن الثقة بجماهير شعبنا يجب أن تبقى منارة لكل قائد مخلص وحقيقي، فهذه الجموع المحتقنة والمتأهبة، كما رأينا، قد تيأس ساعةً وتتعب وتنأى عن النضال، إذا تقاعست قياداتها أو نفَدت خزائنهم، لكنها لا ترضى أن تنام دهراً على ضيم حتى إذا غطّت نواطير مقاثيهم المتعبة في نومها، أو اذا أفلست وتاهت.

لا أعرف مَن من قياداتنا، التقليدية أو الناشئة، سيتّعظ مما حصل، والى أين سيمضي من حيث وصلنا؛ فعلينا أن نراجع دروس الهبة الحالية، ونستمع للأصوات التي رددتها الحناجر الغاضبة، وأن نعرف لماذا أشهرت السواعد السمراء قبضاتها لتسطر بعنفوان معالم نجاة تلامس المعجزة؛ وعلينا أيضا أن نتوقع كيف سيتصرف وكلاء الدولة الرسميين، والشرطة في طليعتهم، الذين ادعوا كذبًا، هذه المرة، وقوفهم في الوسط بيننا، نحن المواطنين العرب، وسوائب اليمينيين. إنهم في الجولة المقبلة، سوف يُسقطون جميع ما تبقى من الأقنعة، كما فعل أمثالهم في الأنظمة الفاشية كاملة الاختمار. وبالمقابل، لا أعرف كيف سيقيّم قادة إسرائيل حقيقة ما جرى في المدن والقرى العربية، وهل ربحت سياساتهم أم فشلت، لكنني اعتقد أنهم لن يجمعوا على الخلاصات والنتائج ذاتها، فهنالك قلة ستطالب بإعادة النظر في سياسات الحكومة تجاه مواطنيها العرب، وعن هؤلاء سنتحدث في المستقبل القريب، بينما سيبدأ اليمين المستوحش على تفرعاته، الرسمية وغير الرسمية، بالإعداد لمعركتهم الطاحنة المقبلة مستفيدين من عِبر المواجهات التي جرت، ومن إخفاقاتهم الواضحة بتحقيق ما خططوا له. فلن يختلف اثنان على أن محاولات البطش والترهيب التي مارسوها، هم والشرطة وما يسمى حرس الحدود، في اللد مثلا وفي حيفا ويافا والرملة وعكا، لم تنل من عزيمة الشباب، وعزيمة معظم المواطنين العرب، بل على العكس تماما فقد ازدادت أسهم العمل الوحدوي، وارتفع منسوبها كحاجة ضرورية في ميزان الردع العام؛ كما ساعدت الوقفات الشعبية في وجه «الغزاة» على استعادة لون وروح هوية المجتمعات الفلسطينية الأصيلة، وذلك بعد ما أصابها الكلح والتصدع خلال السنوات العجاف الماضية.

من الصعب أن يُكتب بمداد العقل وباسم الرجاحة عن قضايا هويتنا المركبة، ببعديها الفلسطيني والمواطني، في زمن تلهث فيه فرق الموت الفاشية وراء فرائسها من المواطنين العرب؛ فعند احتدام القدر على عتبات بيتها، تقول الضحية، فتش عن إرادتك ولا تني؛ وإن قهقهت ساعة الخطر، يقول الفتى وهو ينتظر طلة القمر، ذد عن شرفتك ولا تنحني؛ وإن هاجمك «الضبع» في مخدعك، يقول صاحب البيت، لا ترمش أمامه، واوقد، من نار عينيك، نهارك، ولا تنثني. إنها غريزة البقاء السرمدية؛ فحكايتنا مع تلك القطعان السائبة، لم تبدأ اليوم، ولا على درجات باب العمود في القدس، ولا في حواكير حي الشيخ جراح؛ إنها تغريبة الجرح الذي كلما أراد أصحابه أن يلفوه بطرابين الأمل، ينكأه عُصاة الحقب الذين لم يفيقوا من سكرة عنجهيتهم، وما انفكوا يلاحقوننا، مؤمنين بأننا أحفاد من بنوا أعشاشهم على بالات من الخوف، حيث يعز نومنا فيها؛ ويعتقدون أننا ورثة ذلك الجهل ومثل أصحابه سنكون كما كانوا حطبا يشعلون فينا مواقدهم، حتى يرحل من بيوتنا الدوري، ونموت نحن، أو نحيا عبيداً عندهم أو قرابينَ على مذابحهم. سوف ترحل العاصفة، كما يبدو، بعد أيام قليلة عن مواقعنا، وسيبقى «القبان» من دون «بيضته» مكسورا، وسيظل صاحبه باطشا ومخمورا؛ ولسوف يعود الهدوء إلى مطارحنا، فنجاح الإضراب العام الذي دعت إليه لجنة المتابعة العليا توّج هذه الهبة وشكّل، من دون شك، خطوة لافتة وضرورية في طريق استعادة مكانة لجنة المتابعة كعنوان شرعي وجدير وموحّد، وكصاحبة الدور الأهم، وليس الوحيد، في قيادة النضالات ضد سياسات القمع والاضطهاد بحق المواطنين العرب. لقد أصدرت اللجنة بيانها الختامي حيث تطرقت فيه لأحداث الأيام الماضية، وأكدت فيه على «أن الإضراب كان بمثابة محطة فارقة لها ما بعدها، ونضالنا متواصل ومستمر ولجنة المتابعة ستعلن عن الخطوات المقبلة وفق التطورات والمستجدات»؛ فمن الواضح أن الصدامات التي جرت على ضفتنا القومية، كشفت من جديد عن تعقيدات وجودنا كفلسطينيين وكمواطنين في دولة لا تريد أغلبية سكانها اليهود أن نعيش بين ظهرانيها، ما سيضطرنا، بعد استعادة أنفاسنا، إلى العودة إلى ضفتي حياتنا، كجزء من شعب فلسطين وكمواطنين في إسرائيل؛ ونحسب، بعقولنا وبحكمتنا، كيف نبعد أشباح الترحيل التي تنقر خواصرنا.

 * كاتب فلسطيني .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى