أقلام وأراء

جواد بولس يكتب في «الشيخ جراح» يبكون فيصل الحسيني

جواد بولس 4/6/2021

ما زلت أذكر ذلك الصباح الموجع قبل عشرين عاماً؛ كانت القدس تصحو بكسل من نومها القلق؛ وأنا في سيارتي، أراجع بهدوء برنامج عملي في ذلك النهار. قطعت منطقة حي الشيخ جراح، وبعدها دوار فندق أميريكان- كولوني، وحين وصلت بمحاذاة عمارة سينما النزهة، تلقيت اتصالاً هاتفياً من أحد حراس «بيت الشرق» وسمعته بصعوبة وهو يسألني: «وينك أستاذ؟» كان صوته متهدجاً ومخنوقاً، فبلع ريقه، وأكمل، دون أن يسمع إجابتي «أبو العبد توفي في الكويت هذا الصباح» قالها فغصّ واختفى. لم أستوعب لوهلة كلامه وبقيت واجمًا. كان عقلي يحاول، بخفية، أن يمتص الصدمة وأن يجد لها مكاناً، فقلبي بدأ يغرق بدمائه وفكري يشلّ. وصلت ساحة بيت الشرق، حيث كان بعض العاملين يقفون، بدون حراك، في الزوايا كجذوع الشجر، ونحيبهم يملأ الفضاء. بدأت الناس تتقاطر كأسراب نمل، بعضهم بتثاقل خائفا وآخرون بهرولة، حتى فاض المكان دموعاً ووجوهاً بيضاء وصمتاً كسيرا.

سافر فيصل الحسيني إلى الكويت، بعد العاصفة، ليصلح التباساً وقع بينها وبين فلسطين في ظرف تاريخي استثنائي؛ لأنه آمن بضرورة «إزالة غبار الهفوة» في وقت كانت فيه فلسطين محاصرة وبحاجة لكل «رئة» ودعم لاسيما من قبل أشقائها العرب، ودولة الكويت في مقدمتهم. كان فيصل «مرمماً للجسور» وسفيراً فلسطينياً حاذقاً ومرغوباً، ليس عند جميع الدول العربية وحسب، بل في معظم دول المعمورة. لن نخوض في ملابسات تلك الأيام، ولكن عسانا نتذكر كيف كانت القدس الشرقية مستهدفة من قبل حكومة إسرائيل، وكان بيت الشرق خارجا من معركة ظافرة ضد محاولة إغلاقه. كان فيصل للقدس حارساً أميناً ودرعاً صلباً ومدافعاً عنيدا وحكيماً؛ وكان، في الوقت ذاته، قائداً فلسطينياً وطنياً جامعاً، دانت له باحترام وقبلته جميع الفصائل والحركات والمؤسسات والشخصيات الفلسطينية على مختلف مشاربها وعقائدها وانتماءاتها السياسية.

عشرون عاما، من عمر الخسارة، مضت وما زال جرح القدس مفتوحاً، والدمع رفيقي؛ عقدان واجهت فيهما المدينة المكائد وإصرار دولة الاحتلال على ابتلاعها وتدجين أهلها أو ترحيلهم؛ ورغم ما حصل لها، أشعر بأن فيصلًا باق فيها كأحلام الياسمين، التي تتعمشق في الأزقة وبين القناطر؛ وكالحنين يتجدد كلما ولد في القدس طفل أو طفلة؛ فبعض البشر، لمن لا يعرف، يرحلون بالجسد، وتبقى أنفاسهم إكسيرا لحياة الناس وللشرف. لذكرى رحيله، في هذه الأيام، طعم مرّ وحاد؛ فنحن نتذكره ونشاهد اعتداءات المستوطنين وقوات الشرطة على المواطنين المقدسيين، وعلى ممتلكاتهم في عدد من أحياء المدينة، وأشدّها ما يجري منذ سنوات في رحاب المسجد الأقصى، ومنذ أسابيع في حي الشيخ جراح، اللذين كانت أحداثهما بمثابة الشرارة التي دفعت بحركة حماس إلى إطلاق صواريخ غزة نحو المدن الإسرائيلية، واشتعال موجة المواجهات الأخيرة. لقد خفنا، مع إطلاق أول الصواريخ، أن يُنسى الشيخ جراح، أو أن يصبح مجرد عروة هامشية في خريطة جسد كبير ينتفض، ولكن المطمئنين كانوا كثرا، والرافضين لهذه النبوءة السوداء كانواأكثر؛ ومع ذلك؛ ورغم ما قيل ويقال، ستبقى الأمور محكومة بخواتيمها وسيبقى ظهر الغد أصدق.

لقد قاوم فيصل الحسيني محاولات الاستيطان الإسرائيلية في جميع أحياء القدس بدون استثناء، وأذكر في هذه المناسبة صولته الأخيرة في حي الشيخ جراح، قبل سفره إلى الكويت بأيام معدودة، حين وقف، كعادته، وواجه بجسده، مع عدد قليل من رفاقه المقدسيين، عصابات المستوطنين، وعناصر الشرطة، التي حضرت لحمايتهم في محاولات سيطرتهم على هذه البيوت نفسها. ثم سافر وقال لنا: «انتظروني، فالقدس عندي كالنفس».

لم يعد فيصل إلى قدسه كما تمنى، لكنه ترك وراءه إرثاً نضالياً غنياً ومهاماً وبوصلة أثبتت نجاعتها في معظم المعارك التي خاضتها المدينة في عهده. لقد كانت إسرائيل أكبر الرابحين من رحيله، فبعده صارت القدس تبكي، وكل شيء تغير. وللتذكير أقول مجددا: لقد نجحت قيادات القدس، بعد نكسة 1967 وبقاء أهلها، بترميم بنى المدينة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ما أفضى إلى إعادة تأهيل مجتمع مقدسي متماسك، تجمعه عرى هوية فلسطينية واضحة، سهّلت على نخبها القيادية استرجاع موقع المدينة تدريجياً ورمزيتها كعاصمة للمشروع الوطني الفلسطيني، وكعنوان مهم تواصلت معه دول العالم ومؤسساتها، وكذلك فعل جميع الفلسطينيين. لقد استمرت عملية بناء الهوية الوطنية على مراحل، حتى وصلت ذروتها في ما أسمّيه «عصر بيت الشرق الذهبي» وخلاله استطاع فيصل الحسيني ومعه كوكبة من قيادي المدينة وفلسطين، تحويل القدس الشرقية إلى كيان سياسي واجتماعي شبه مستقل عن السيادة الإسرائيلية، وفرضوه ، بحنكة فريدة، كواقع مقبول وكحقيقة معيشة وملموسة. لقد بنى فيصل سياسته على توازنات ميدانية دقيقة وخيارات حكيمة وشجاعة، من خلال نظافة قلب ويد ولسان، واستعداد خرافي لمواجهات العدو، بعيدًا عن المزايدات والمراهنات غير المحسوبة. وهو، برؤيته الكفاحية الواقعية ووقفاته الميدانية الصارمة، نجح في خلق حالة من «الردع الإيجابي المتبادل» مع إسرائيل التي أُجبر زعماؤها على إبداء احترامهم له، خشية ردات فعله وقدرته المجربة على زعزعة «السلامة العامة» والمس بحالة « الهدوء العام». أما موقفه بخصوص الأماكن المقدسة فكان يعتمد على اتباع مبدأ المحافظة على «الستاتوس كوو» ، الوضع القائم؛ ونجاحه في هذه الجبهة يُعدّ إنجازًا بالغ الأهمية؛ إذ حرص، لسنين عديدة، على تحييد جميع هذه الأماكن، وفي طليعتها المسجد الأقصى، عن بؤر التنازع والاحتكاك مع العناصر اليهودية، الحكومية والشعبوية، مدركا أن زعامات إسرائيل اليمينية والصهيونية المتدينة، تسعى لإسقاط بعدي الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي الأبرزين، السياسي والقومي، وحصر النزاع في بعده الديني وحسب؛ إيماناً منها بأن اللجوء إلى المرجعيات الدينية، وإلى أحكام السماء ستتيح لهم فتح طاقاتها كي يمطروا الناس بفتاواها، وعندها سيسود الالتباس وتغمط الحقوق ويكثر الاجتهاد وستنافس العبرية العربيةَ والأرض ستتكلم، حسب توراتهم، العبرية، والحرب ستصبح مقدسة.

لقد وافقت معظم القوى السياسية، الوطنية والإسلامية، في تلك السنوات على معظم المبادئ التي حملها فيصل ورفاقه، حتى صار العمل وفقاً لها إجماعاً فلسطينياً وبوصلة القدس المتوافقة.

لم تتغير قواعد اللعبة إلا بعد رحيل فيصل، وبعد إغلاق بيت الشرق، ومعه إغلاق عشرات المؤسسات الفلسطينية. لا أنوي هنا الاسترسال في ما أصاب المدينة بعد عقدين من ذاك الرحيل الموجع، ولكن من السهل أن نرى كيف تراجع أداء أهلها النضالي، وارتبطت مصالح قطاعات واسعة من سكانها بإسرائيل، وجنحت أقسام كبيرة منهم نحو المؤسسة الصهيونية الحاكمة. ما زالت رحى معركة الشيخ جراح دائرة، وستصبح، من دون شك، أشرس وأخطر؛ فنحن نرى محاولات الشرطة الإسرائيلية وناشطي المستوطنين حسمها ميدانيا، وذلك عن طريق مضاعفة التنكيل اليومي بالمتظاهرين من جهة، وترهيب أصحاب البيوت من جهة أخرى؛ وما حصل مع عائلة المواطنة جنان الكسواني ابنة السادسة عشر ربيعاً، وإصابتها مع والدها، وهم داخل منزلهم، بعيارت نارية أطلقتها عليهم عناصر الشرطة عن عمد، ومن غير وجود أي سبب، يشكل دليلاً على ما يخطط له المستوطنون، وعلى موقف الشرطة الإسرائيلية الداعم لهم. كذلك فإن قيام الشرطة باستغلال الحادثة التي هاجم فيها سائق عربي بعضاً من عناصرها الذين تواجدوا على حاجز هناك، من أجل إغلاق المنطقة والسماح لسكانها فقط بدخولها، يدل على مخططها لعزل المنطقة وسكانها، وإبعاد المتظاهرين عن المكان بهدف تيئيسهم وإرهاقهم.

لقد خاضت مجموعات من المقدسيين مواجهات لافتة في دفاعهم عن المسجد الأقصى وحققوا فيها إنجازات نسبية ومحصورة في تلك الجبهة الوحيدة؛ وفي المقابل لم نرَ مثل تلك الوقفات في بؤر التماس الأخرى، وهي كثيرة جداً، حيث ما زال الاستيطان اليهودي ينتشر ويتغول في أحياء كثيرة من المدينة؛ وما زالت إسرائيل تسجل، بالتوازي مع عملية التهويد، نقاطا كبيرة في إحكام سيطرتها على عدد كبير من قطاعات حياة المقدسيين، ما كانت لتسجل في عهد فيصل..

القدس تبكيك أيها الباقي فيها، ومعها تبكيك فلسطين..

فالسلام لروحك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى