أقلام وأراء

جواد بولس يكتب – شركاء في القلق حلفاء في العمل

جواد بولس – 20/3/2020

أخرجتني محادثة صديقي حچاي أول أمس من رمادية أجواء العزلة القسرية التي أعيشها في البيت، وأدخلَت إلى قلبي جرعة فرح شفيف.

تعرّفت إلى حچاي قبل خمسة وأربعين عامًا، عندما تزاملنا طالبين في كلية الحقوق في الجامعة العبرية في القدس. قصتي معه طويلة وفيها من التفاصيل ما يثبت كيف يمكن أن يحوّل عدوّان تعاليم الدم الموروثة عن “توراة ملوكهم” إلى بذور أمل واعدة، وإلى قناعة بأنّ مستقبلنا على هذه الأرض ليس سوى احتمالين مقلقين؛ لكننا، إذا أردنا، فنحن قادرون على أن نعيش حياة أقل وجعًا وأكثر سعادة واستقرارًا.

“لقد صوّت يوڤال للقائمة المشتركة، وأعرف أن آخرين من أبناء جيله فعلوا الأمر نفسه”. هكذا أخبرني حچاي بعفوية عن تصويت ابنه في الانتخابات الأخيرة؛ وكنا نتحدث عن محاولات نتنياهو الأخيرة في البقاء ملكًا على شعب من المسوخ البشرية؛ فكان يصف لي خوفه من المستقبل، ويأسه من وجود فرص للتغيير.

لن أسترسل في تفاصيل المحادثة، لكنني سأعود إلى قصتي مع هذه العائلة وإلى محطات علاقتنا الطويلة، التي كشفت لكلينا أن “للحقيقة وجهين”، وأننا نستطيع أن نصبح أصدقاء حقيقيين، حتى يغيّر شاب، سليل عائلة يهودية صهيونية عريقة فخورة، قناعاته السياسية التقليدية، ويختار أن يصبح شريكي وحليفي، ويسعى مثلي وراء مستقبلنا الإنساني المشترك.

يحاول بنيامين نتنياهو استغلال تداعيات أزمة فيروس كورونا ليبقى، في نهاية المطاف، حرًا ورئيس حكومة إسرائيل؛ أو على الأقل شريكًا كاملًا في هذا المنصب، وفي قيادة الدولة في الحقبة التي ستلي هذا الزمن الأصفر البغيض.

لم تنقذ نتائج الانتخابات الأخيرة معسكر بنيامين نتنياهو، كما كان تمنّى وخطط، مستشعرًا بحدسه المتطور، أن المواطنين العرب قد يحرزون إنجازًا انتخابيًا غير مسبوق، سرعان ما سيتحول إلى عثرة كأداء أمام تحقيق أحلامه السوداء، وإلى كاسر أمواج نزواته الأخير. ستبقى مواقف نتنياهو العنصرية تجاهنا، عنصرًا يهمنا بكل تأكيد؛ بيد أن الأخطر منها، في هذه الأيام، هو شغفه المرَضيّ بالتفرّد بالحكم والسلطة، وبإصراره على البقاء واقفًا على رأسها. لقد لاحظ العديدون من أصحاب الرأي والممسكين بالقلم، خلال السنوات القليلة الماضية، مقدار الخطورة الكامنة في تصرفات، وفي شخصية نتنياهو وزبانيته؛ وحذّر بعض هؤلاء من مغبة ما يمكن أن يفعله، وإلى أي وجهة قد يأخذ الدولة، والى أي هاوية سيقود شعبها.

“كثيرون من خارج قطيع نتنياهو، بدأوا يستوعبون، أن ما تقوم به الحكومة الانتقالية هو أقرب إلى كونه انقلابًا ومحاولة لسرقة الدولة “.

جاءت تحذيرات هؤلاء متأخرة؛ فمعظم المتنبهين للخطر “النتنياهوي” كانوا، عمليًا، جزءًا من الإجماع الصهيوني “الحميد”، كما اصطلحت على تسميته الأكثرية اليهودية في الدولة وخارجها. لقد شكّل هذا الإجماع دفيئة لنتنياهو ولحلفائه الحاليين، وسهّل عليهم مهمة التقدم نحو أهدافهم، التي لم تتغير مذ رضعوا، في بيوتهم ونواديهم الحزبية وكنسهم، معنى أن تكون صهيونيًا، وصاحب الأرض التي تنافسك عليها مجموعة من “الأغراب” الأعداء المعتدين، يُدعون عرباً فلسطينيين .يستطيع من يرغب أن يقتفي بيسر طريق هذه الجماعات، كأفراد أو أحزاب أو حركات، نحو “قمم الهاوية”؛ ومن يتعمق قليلًا في تاريخ إسرائيل الحديثة سيهتدي إلى كيفية نجاح هذه القوى الظلامية، باكتساح الساحات ومعظم مرافق الدولة، بعد أن كانت تعتبرها قطاعات واسعة من ذلك الإجماع الوطني الصهيوني، مجرد “طفح خفيف عابر” على صفحة الليل، ولا أكثر من بضعة “أشواك ضارة” تنمو بعشوائية على هضاب السامرة، وداخل هياكل يهودا البعيدة.

لا أعرف إذا كانت أزمة كورونا ستفضي إلى كشف حجم الورم المنتشر في عروق هذه الدولة؛ فكثيرون، من خارج قطيع نتنياهو، بدأوا، في الأيام الاخيرة، يستوعبون، أن ما تقوم به الحكومة الانتقالية هو في الحقيقة أقرب إلى كونه انقلابًا على الحكم ومحاولة لسرقة الدولة. لم تبدأ هذه العملية بعد الانتخابات الاخيرة، فمعسكر نتنياهو يستعدّ الآن لقطف ثمار ما زرع في السنوات الماضية، ولإنزال ضربته القاضية بواسطة شل عمل الكنيست، بشتى الحجج والأحابيل، وبتعطيل دور السلطة القضائية، إلى جانب تخويل أعضاء الحكومة الحالية، باسم محاربة الوباء- الجائحة، تصريف شؤون الناس، بواسطة مجموعة من القوانين وأنظمة الطوارئ، التي ستقوّض مكانة القانون السائد، وتحدّ من حريات الأفراد وتكبل حقوقهم الاساسية. برز رئيس جهاز الشاباك السابق كرمي جيلون كواحد من أشد المنتقدين لسياسات بنيامين نتنياهو، وأوضحهم معارضة لفكر التيار القومي الديني الصهيوني وللمخاطر القاتلة الكامنة في مبادئهم وتعليماتهم. لم يخفِ كرمي جيلون امتعاضه من سياسات نتنياهو، ولا تخوّفه من إمكانية تنفيذ سيناريوهات “ابوكليبسية” كارثية، ستدفع باتجاهها مجموعة التيارات العقائدية الحاكمة.

لقد سمعناه يحذر المرة تلو المرة من هذه الاحتمالات. وجاء آخر تصريحاته في الثاني من مارس الجاري، عندما قابلته صحيفة “هآرتس” ليعبّر مجددًا عن تخوّفه من قدرة هذه الجماعات على جرّ المنطقة إلى حمامات دم مرعبة، لأنها كما أكد، ليست “هوامش، ولا أعشابًا ضارة”؛ وأضاف معترفًا: “لقد أخطأنا حين سميناهم هكذا. فعندما اكتشفت العصابة الإرهابية اليهودية في الضفة كان تعداد هؤلاء 12 الفًا، أما اليوم فعددهم أكثر من نصف مليون. إنهم ينمون على أرضية أيديولوجية واضحة وصارمة وشعبوية.. لا يوجد أحد منهم لم يقرأ كتاب “توراة الملك”*، ولم يجرؤ اي مستشار قانوني على التحقيق مع حاخاماتهم المتطرفين، وبالتالي لم يحاكَم أحد منهم. لقد اخطأنا بذلك أيضًا”.

ورغم أهمية مواقف جيلون المعلنة منذ أكثر من عقدين، لم تولها المؤسسات القيادية العربية والقيّمون عليها اهتمامًا يذكر، بل أغفلوها كما حصل مع مواقف عشرات الشخصيات الاعتبارية والأكاديمية الصهيونية، التي كانت أو مازالت، تتبوّأ مناصب رفيعة وحساسة، في ترسيم سياسات الدولة، أو في إنتاج المعرفة السلطوية والتأثير على الرأي العام فيها. “كل السياسيين عندنا انشغلوا وما انفكوا منشغلين ببقائهم في مراكزهم، لذا فأمامنا الآن خياران: واحد سيئ والثاني أسوأ”! هكذا بصراحة أكد من كان رئيس جهاز المخابرات العامة الإسرائيلية. وعندما سألته الصحيفة، ما إذا كان علينا أن نرفع أيادينا وأن نستسلم، أجابها: “أنا لا أستطيع. ما زلت مؤمنًا بهذه الفكرة الكبيرة، بدولة إسرائيل، وبقدرتها وحاجتها أن تعود إلى “سلامة العقل” وإلى العودة إلى حدود عام 1967، والعمل على بناء مجتمع مختلف وأفضل”.

كان كرمي جيلون من أتراب بنيامين نتنياهو، وجاره في حي رحافيا في القدس الغربية. وهو حين يتذكر تلك الأيام، يستعيد التفاصيل المتعلقة بشخصية نتنياهو، والبيئة التي نشأ فيها، ويستذكر طرفة لافتة حدثت معهما في معسكر عمل للشبيبة، شاركا فيه وهما يافعان، في إحدى إجازاتهما الصيفية؛ فحين جلسا في إحدى الليالي وسأل كل واحد منهما عما سيصيره عندما يكبر، لم يعرف كرمي جيلون أن يختار مهنته، بينما أجاب نتنياهو بحزم وإصرار المؤمنين الدنفين: “سأصير رئيس حكومة” على ما تُضمره هذه الإجابة من معان. بعيدًا عن عواطفنا المفهومة تجاه أفراد تلك الفئة، أو عن ضرورة محاسبتهم، الأخلاقية أو حتى الجنائية، عما جنت أياديهم، ستبقى الحاجة الآنية لاستمالتهم إلى معسكرنا حية وضرورية؛ ولستُ بحاجة لأحد أن يذكرني من كان كرمي جيلون، وماذا فعل خلال حياته المهنية، ولا أن يعرّفني إلى سيرة رئيس الموساد السابق تمير بيدرو، وكثيرين من أمثالهما؛ لكنني أنصح، رغم مواضيهم، أو ربما بسببها، من يفتّشون مثلي عن خلاص ويلهثون وراء مستقبل آمن، أن يقرأوا ما يكتبه هؤلاء وما يفعلونه الآن، فقد نجِدُ بينهم حلفاء أو شركاء في الدرب أو في القلق.

ستبقى هذه إحدى مهام القائمة المشتركة، التي تتحمل اليوم مسؤوليات جسام، خاصة بعد أن فرضت نفسها، على المشهد الإسرائيلي، كعامل سياسي لا يمكن تجاوزه؛ فشعار إسقاط نتنياهو يتعدّى حدود تعريفات اليمين واليسار والوسط، إذ أنه ترجمة لأُمنية كل من يخشى أن يواجه أحفاد ذلك “الملك” الذي توصي “توراته” بضرورة التخلص من جميع الأغيار، إلا إذا هم رضوا أن يبقوا عبيدًا خانعين لعَصاته ولنزواته.

كان صديقي حچاي، مثل كرمي جيلون وإسرائيليين كثر، متشائما في محادثته الاخيرة معي، لكنه غير مستسلم على الإطلاق. لقد اتفقنا أن ننتظر حتى ينتصر العقل على جنون كورونا، لنعود ونلتقي على موائد الفرح والقلق، ونتبع بوصلتنا الصحيحة وحدسنا الأبويّ الطاهر، كما يليق بشركاء في القلق وحلفاء في الأمل وفي العمل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى