أقلام وأراء

جواد بولس يكتب –  رسالتان إلى الصحافي جدعون ليفي

 جواد بولس 19/11/2021 

من لا يعرف من قرّاء الصحافة العبرية، بلغتها الأصلية أو المترجمة، مقالات الصحافي جدعون ليفي، التي دأب على نشرها أسبوعيا، في صحيفة «هآرتس»؛ تناول فيها، ولمّا يزل، ممارسات وقمع جنود الاحتلال الإسرائيلي واعتداءات قطعان المستوطنين على أبناء الشعب الفلسطيني وضد ممتلكاتهم؟

لقد عدّ الفلسطينيون والإسرائيليون، على حد سواء، جدعون ليفي، جراء ثباته على الكتابة من ضفة المعتدى عليهم، نصيرا مستوثَقا لضحايا الاحتلال، وشاهد حق على ما يعانون؛ وسكن، بسبب ذلك، قلوب معظمهم كواحد «معنا» وليس مع «أعدائنا». لقد دخل القلوب إذ كانت مطمئنة له، من أبواب الوجع، فهل سيبقى فيها بعد المودة التي أبداها تجاه بنيامين نتنياهو وعائلته، كما قرأنا وكما نشر وأفاد؟

لقد لبّى الصحافي جدعون ليفي دعوة زميله في صحيفة «هآرتس» العبرية، بيني تسيبر، وشارك في احتفال أقامه صاحبه بمناسبة عيد ميلاد سارة نتنياهو عقيلة رئيس الحكومة السابق بنيامين نتنياهو. لم يكتف ليفي بحضور الاحتفال الخاص في بيت زميله، الذي يعمل، منذ سنوات طوال، محررا للملحق الثقافي في الجريدة، بل خصّ تلك الليلة بمقال نشره في «هآرتس» يوم 11/11/2021 تحت عنوان «مع عائلة نتنياهو لدى عائلة تسيبر في الصالون». لقد صدمت مشاركة جدعون ليفي الاحتفالَ معظم قرّائه، واستثار مضمون مقالته دهشة متابعيه؛ حيث اعتبره معظم «معجبيه» من العرب واليساريين خيانة لما عهدوه في مواقفه الإنسانية من صدق أخلاقي، وتراجع عن دعمه السياسي للحق ولأصحابه؛ بينما اتهمته، في المقابل، أوساط اليمين على أطيافها بالتلوّن وبالمداهنة، مدّعية أنّه سيبقى، رغم مغازلته لنتنياهو ولزوجته، عدوّ اسرائيل وصديقا للفلسطينيين. ليس من الصعب أن نتفهم غضب جميع من هاجم أو لوّم أو انتقد أو خوّن أو خطّأ خطوة جدعون ليفي، خاصة أنه لم يكتف بالمجاهرة بها، بل أضاف على «إبّالته أضغاثا» من الاستفزاز حين افتتح مقالته واصفا، بتودد واضح، عائلة نتنياهو بلغة حليفة ودافئة، فقال: «لقد جلس اليوم الشخص الذي يحظى بكراهية كبيرة وبإعجاب كبير مع زوجته وأولاده على أريكة قديمة في صالون صغير.. وربّت على يد زوجته وسحر كلّ محدّثيه». لقد كان جدعون ليفي نفسه، هكذا يفهم من النص، واحدا من بين أولئك المسحورين بحضور عائلة نتنياهو، التي كانت، كما وصفها «العكس المطلق تقريبا لما يقولونه عنهما وعكس ما يعتقدونه عنهما، ولم يظهر، في ذاك المساء، أي شيء مما قيل عنهما من قبل المنتقدين لهما المليئين بالاشمئزاز». هكذا كتب واستفز، وهيّج أرواحا كانت تؤمن به أكثر من إيمانها بهيئة الأمم المتحدة وبالجامعة العربية، وبكثيرين من أبناء شعبها. لن أسرد جميع ما جاء في هذه المقالة المستهجنة؛ فما أفصح عنه فيها من رفق وود تجاه نتنياهو وأسرته، سيبقى من حقه كصحافي، ومحسوبا له وعليه؛ لكنني، ومن باب إنصاف ماضيه الصحافي ومواقفه الحاسمة ضد الاحتلال وموبقاته، وفضح سياسات حكومات اسرائيل خاصة بقيادة نتنياهو، ومن أجل الحقيقة، أود أن استذكر مقالا بعنوان «استعراض نتنياهو» كان جدعون ليفي نفسه قد كتبه ونشره يوم 17/8/2016 بعد مشاركته وأعضاء هيئة تحرير جريدة «هآرتس» اجتماعا مغلقا دعاهم إليه نتنياهو، فكتب حينها هكذا: «استضاف أمس نتنياهو أعضاء تحرير هآرتس للقاء مغلق دام أربع ساعات تحدث فيها بدون توقف.. نتنياهو شخص غاضب، هائج، صاخب، صلب، حاد، مغرور، ومقتنع بصدق دربه، ويؤمن بالقوة فقط، وعنده ميول نرجسية، وحب للعظمة، متعال، ثرثار، ويعاني من شعور بأنه ملاحق». ثم وصف جدعون ليفي أيديولوجية نتنياهو على أنها متشددة ومتطرفة؛ فهو، أي نتنياهو، شخص لا يؤمن «بأي سلام مع الفلسطينيين، ولا يعنيه قدرهم قيد أنملة. وهو سيلحق الكارثة بإسرائيل، لأنه صبي لم ينضج وخياله ما زال عالقا في عالم الكتيبة». هكذا إذن، رأى جدعون ليفي نتنياهو قبل خمسة أعوام، فكيف لن يغضب من يقرؤه اليوم وهو يصفه «بالشخص الذي يملأ الفضاء بحضوره؛ فحتى، وهو في خريف حياته السياسية، يبقى مثيرا للفضول أكثر من أي سياسي إسرائيلي. وستبقى إمكانية أن نفهم دوافع الإعجاب به أسهل من أن نفهم مصادر الكراهية العميقة التي يثيرها تجاهه». لم يكتف ليفي بهذا القدر من الشهادة والمديح، بل مضى فبقّ حصوة «الراسي» الكبيرة، وأعلن أن دور نتنياهو «في صناعة دولة الأبرتهايد لم يكن أسوأ من أسلافه، ولا كان تأثيره على انهيار الديمقراطية مميزا، لأن ساحات إسرائيل الخلفية مسيطر عليها من قبل ديكتاتورية عسكرية». أقوال، وإن كانت تحتوي على بعض من الواقع السياسي والحقيقة، إلا أنها، حين تقال من شخص في مكانة جدعون ليفي سيكون وقعها موجعا، وتأثيرها في المجتمع ككل، خاصة على رعاع اليمينيين، أخطر.

لقد تابعت ردة فعل جدعون ليفي على منتقديه اليهود، لاسيما على أولئك الذين يعرّفون أنفسهم يساريين؛ فلم يسكت أمامهم، بل دافع عن حضوره الحفلة، وكذلك عمّا كتبه في أعقابها؛ وقد فعل ذلك متذرعا بادّعائين أساسيين، جنّدهما على طريقة من يقول كلام حق يراد به باطل؛ فادعاؤه بأن جميع القادة السياسيين اليهود، خاصة من وصفهم باليساريين، سواسية، فيه من الإجحاف للواقع قسط، ومن التمويه والمغالطة والتضليل أقساط؛ ثم أن محاولته تبرير شرور نتنياهو بكون الآخرين أشرارا أيضا هي اجتهاد بائس وخطير، ولا يمكن تسويغه سياسيا ولا قبوله أخلاقيا.

لقد قبل جدعون ليفي الدعوة لحضور حفل عيد ميلاد سارة نتنياهو، وهو يعلم، بالطبع، تعاطف زميله في الجريدة المعلن مع سارة ودفاعه عنها وعن عائلتها وعمق صداقته معهم منذ سنوات طوال؛ ويعرف أيضا مواقف زميله من الاستيطان والمستوطنين، ومواقفه المستهترة من اليسار الإسرائيلي؛ وهو، لجميع ذلك، وبسبب تجربته الطويلة، ولحساسية الأوضاع السياسية التي يمر بها المجتمع الإسرائيلي ونية نتنياهو المعلنة بالعودة إلى رئاسة الحكومة، كان قادرا أن يقيّم مدى تأثير مشاركته وما كتبه بعدها في المشهد الإسرائيلي العام وفي مشاعر أصدقائه الفلسطينيين وفي الاحرار في العالم تحديدا.

على الرغم مما ذكرته وعلى الرغم من فحش ما قام به لن تكون مهمة الدفاع عن جدعون ليفي مستحيلة؛ فإذا ما راجعنا تاريخ ما كتبه عن الاحتلال الإسرائيلي، وعن ضحاياه الفلسطينيين، وإذا ما تذكرنا مواقفه الصارمة ضد الحروب التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة وعملياتها في الضفة المحتلة، فقد نشفع له، ونأمل بثقة من يفتشون عن حلفاء، أن يعود في الغد ويقف على حافة الجرح الفلسطيني ويتوجع ويكتب كي يعرف الإسرائيليون والعالم من هو القاتل ومن هي الضحية.

لو كنت قاضيا لطالبت جدعون ليفي بأن يراجع نفسه ويتراجع عما قاله في وصف تلك الليلة التي قضاها في صالون عائلة تسيبر، ولذكّرته، أيضا، بأن حياة الفلسطينيين، كما وثّقها بحدقات أقلامه الدامعة طيلة سنوات طويلة، لا تقايض بحفلة ميلاد ولا بجلسة سمر مع «ساحر» كان يصغي بهدوء، ويربت على يد زوجته التي لم تحتس الكحول في تلك الليلة. لكنني لست قاضيا، بل أنا محام سيصفح، على طريقة المتشائلين، لجدعون ليفي خطيئته لأنه، هكذا أشعر، كما كان هو باق هناك ولم يتغيّر.

وقبل أن ترجموني أنا بحجارتكم أتمنى أن نستوعب معا أن جدعون ليفي يكتب كما يكتب ليس لأنه فلسطيني، ولا لكونه مجرد إنسان بلا هوية، بل يكتب من موقعه «كوطني إسرائيلي» أو كما صرّح هو بنفسه ذات يوم فقال: «أنا أكتب في جريدة إسرائيلية، للإسرائيليين، وليس للفلسطينيين. أنا اكتب للإسرائيليين الذين يريدون أن يقرأوا ما يجري مع الشعب الفلسطيني الذي يقبع تحت الاحتلال الإسرائيلي. اكتب من وجهة نظر إسرائيلية، أو ربما من وجهة نظر وطنيّ حسبما أراها. أكتب بالأساس عما نفعل بهم، وليس كي نساعدهم، ولا كي نساعد اي أحد آخر؛ بل من أجل أن نعرف». فلنقبله بحجم صديق، هكذا كما هو، ولنترك رصيده الأخلاقي مفتوحا على جهات الريح.

والرسالة الثانية: كن، يا جدعون، كما تريد، وابق حرا، وتذكر أوجاع قلبك، ولا تخذل أنفاس الحقيقة التي باسمها كتبت وشمخت؛ وتذكر، كذلك، أطفالا ينامون خائفين أمام فوهات البنادق ويحلمون بأمثالك، رجالا، يكتبون من أجل أن يمتلأ فجرهم بالزنابق .

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى