أقلام وأراء

جواد بولس يكتب – التحية لشباب أم الفحم والعزاء لجلجولية

جواد بولس – 12/3/2021

نظمت في الخامس من آذار/مارس الجاري، مجموعة من أهالي مدينة أم الفحم، أطلقت على نفسها اسم «الحراك الفحماوي الموحد» مظاهرة حاشدة ضد تفشي مظاهر الجريمة في المدينة، وفي سائر المدن والقرى العربية، وضد تواطؤ الشرطة الإسرائيلية وتقاعسها في التصدي لهذه الآفة المستفحلة، وتناميها في مواقعنا من يوم إلى يوم.

استقطب الحدث اهتماماً جماهيرياً كبيراً، فاستعدّت شرطة إسرائيل لمواجهته بأسالييها المعهودة، وببذل كثير من الطاقات من أجل محاصرته والتشويش عليه، بما في ذلك عن طريق إغلاق العديد من الطرقات، وعرقلة وصول المواطنين إلى موقع التظاهرة.

من السابق لأوانه أن نحكم على «عظمة» هذا النشاط، كما حاول ويحاول بعض المتابعين والمعقبين أن يصفوه، وقد فعلوا ذلك وهم مدفوعون برغبات سياسية مبررة، وبتفاؤل مرتجى قد يعوّضهم عن مشاعر الإحباط السائدة لديهم من جراء حالة القصور، التي تعاني منها القيادات السياسية والاجتماعية، لاسيما في فشلها بمواجهة ظواهر العنف والتسيّب، الذي نعاني منه منذ سنوات متعاقبة؛ ومع ذلك ستبقى هذه التجربة جديرة بالتقدير وبالاهتمام وبالمتابعة، وسيسجل لصالح المبادرين إليها نجاحهم في تخطي الكثير من المعيقات المحلية، والمؤثرات السياسية القطرية وانطلاقهم كجسم متماسك ومتوازن وقادر على تحشيد قطاعات واسعة من الفحماويين، وإلى جانبهم طاقات جماهيرية شعبية من سائر المدن والقرى العربية.

شاهدنا في الآونة الأخيرة، ولادة بعض الحراكات الشبابية التي أطلق نشطاؤها في بعض المدن أعمالا احتجاجية محلية كانت لافتة أحياناً، وملتبسة خلافية في أحيان أخرى؛ رغم ما حظيت به هذه الظاهرة من اهتمامات ونقاشات وتأييد وانتقادات، فقد اتسمت بعض نشاطاتها بالمزاجية المندفعة، والفوضوية الحماسية، حيث لم ينجح محرّكوها ببلورة مفاهيم نضالية واضحة وجامعة، ولا أن يحوّلوها إلى حالة كاملة النضوج والشروط، مؤهلة للعب دور سياسي اجتماعي قيادي، إلى جانب سائر المؤسسات القيادية الموجودة على الساحة، أو حتى كبديلة لها أو لبعضها.

جاءت مظاهرة أم الفحم الأخيرة بعد سقوط عشرات الضحايا في عمليات القتل منذ مطلع العام الجاري، ودفعت المدينة منها حصة كييرة، مؤلمةً وموجعةً. وكان التجاوب الشعبي مع نداء «الحراك الفحماوي» تعبيراً عن الألم والسخط المتراكمين بين المواطنين، من ناحية، ورسالة للحكومة الإسرائيلية، من جهة، ولقيادات الأحزاب والحركات السياسية والدينية العربية من الجهة الأخرى. ولا يمكننا الحديث عمّا جرى في مظاهرة الخامس من مارس، المذكورة على أراضي أم الفحم من دون التطرق لما جرى مع النائب منصور عباس، وكيف تم التعامل مع الحدث بشكل عام، من قبله وقبل حركته الإسلامية بشكل خاص؛ أو كيف عالجته وسائل الإعلام العبرية والعربية. فمع وصول عباس إلى المكان، استقبلته مجموعة من المتظاهرين بهتافات غاضبة، وبصراخ احتجاجي على ما كان قد نشر على لسانه بخصوص مواقفه الحريرية، إزاء دور شرطة إسرائيل في مكافحة الجريمة وانتشارها بين المواطنين العرب، مع شيوع نبأ محاولة الاعتداء على النائب عباس، نشرت كل القيادات العربية بيانات شجب واضحة، واستنكارات حازمة لما جرى، من خلال تأكيد رفضهم القاطع للحادثة، خاصة أن الألوف جاءت إلى أم الفحم لتعبر عن رفضها لمظاهر العنف المستشري بيننا، وضد تقاعس الشرطة وتواطئها مع المجرمين.

لن يختلف اثنان على أن أهداف المظاهرة، كما أعلنها «الحراك الفحماوي» ونجاحه في تجنيد آلاف المواطنين، كانت يجب أن تبقى هي الأحداث والعناوين الأبرز والأهم في ذلك النهار، ومن غير منافس أو منازع، خاصة بعد أن تم شجب الحادثة من جميع الجهات والأحزاب والحركات، بشكل قاطع وصريح؛ ولكن الطريقة التي تصرف بها النائب عباس مباشرة، وهو في أرض «المعركة» وتبنتها من بعده قيادة حركته، دللت على عكس ذلك، وبرهنت على تعمدهم استغلال ما حصل معه وتضخيمه بشكل ممنهج، خدمة لدعايتهم الانتخابية، التي انبرت بعض المواقع العربية الإعلامية المتعاونة معهم إلى ترويجها، ومعظم وسائل الإعلام العبرية إلى استعراضها كالحدث الأهم، وكأن المظاهرة حدثت في ظلاله. ومن اللافت أن نقرأ اتهام عباس في تصريحه الأول، ومن الموقع مباشرة، بعد انتهاء الحادثة، وقبل التحقق من التفاصيل، على أن من تهجم عليه «هم قلة تنتمي للأحزاب السياسية المنافسة من خارج أم الفحم، ولا علاقة للحراك الفحماوي الشريف، ولا لأهل أم الفحم الشرفاء بالموضوع..» رغم أنه كان يجب أن يعرف من قام باعتراضه قبل أن يتهم ببيانه منافسيه من الأحزاب السياسية الأخرى؛ لكنه تصرف للأسف، كسياسي يسعى وراء مكاسب انتخابية، ولا تهمه الحقيقة والواقع وتداعيات المظاهرة المرجوة.

أتمنى أن تستمر النشاطات المناهضة للعنف ولسياسات الشرطة الإسرائيلية في أم الفحم، وفي جميع بلداتنا المنكوبة، رغم قناعتي أنها لن تكفي ما دامت أحوالنا ستراوح في بؤسها المزمن، وتواجه بضعفها من يحاولون تخثيرها، أو ترويضها، أو تجنيدها مزارعَ لمصالح أحزابهم وحركاتهم ووجاهاتهم الخرافية. لم نكن بحاجة إلى أكثر من ليل وحلم كي نصحو مجدداً على حافة الهاوية؛ فقد نامت أم الفحم، بعد المظاهرة، على وسائد من عزم وإصرار جميلين؛ لكنها أفاقت، مثلنا جميعاً، على صرخة اختها جلجولية، وهي تستعد لحفر قبر يليق بجسد يافع اسمه محمد عدس، أعدم بالرصاص وهو في عمر الورد فسقط على عتبة داره حين كان مع صديقه يأكلان، وثالثهما القدر. نحن بحاجة إلى ثورة تأخذنا إلى ما وراء الغيم والسراب، فبدونها لا يوجد حل لقضية العنف ولحالات القتل في واقعنا الحالي؛ لأنني، كما كنت كتبت مؤخرا؛ لا أرى من وكيف سيفعل ذلك، ولذا سننام ونصحو في حضن حالة «اجتماعية» مستديمة، كالتعلم والزواج أو كالترمل والمرض، وسيبقى القتل رفيق شوارعنا والعنف شرطي مدارسنا ومجالسنا وفراشنا، إلى أن نتغير نحن وتتغير أحوالنا.

قد ينتقد البعض تشاؤمي، لكنني مقتنع بأننا إن لم نقر بعجز مجتمعنا، وقصور مفاعيله السياسية والاجتماعية والدينية والتربوية، وفشلهم في مواجهة هذه الآفة، ستستمر أرواحنا بالتنفس في بقع الضوء الشاحبة، وسيُحكم من يسمون، مجازاً وخطأ، بخفافيش الظلام قبضاتهم على حناجرنا، ويمضون في تسيّدهم على حاراتنا الخائفة.

لا نقاش حول واجب الدولة ومؤسساتها في محاربة الجريمة المستفحلة بيننا، ولا حول دورها في معاقبة الجناة وضرورة ردعهم، ومسؤوليتها عن معالجة مسببات هذه الظاهرة الخطيرة، ولا جدال في أنها لم تفعل ذلك عن قصد، وتنفيذا لسياسات عنصرية تستهدف حصانة مجتمعنا، وأمن مواطنيه واستقرارهم السلمي؛ بيد أن ذلك، رغم صحته، لا يبرر فشلنا الداخلي في مواجهة ظواهر العنف، كما تتداعى في عدة أشكال، وفي مواقع تخضع لسيطرتنا بشكل مطلق؛ ولا يبرر أيضاً فشلنا في إيقاف نزيف الدم، وتحجيم عدد عمليات القتل التي تحصل مثلًا على خلفية ما يسمى بشرف العائلة، أو بسبب عادات الثأر القبلي البغيضة وما شابهها. ستبقى الحكومة الاسرائيلية المسؤولة الأولى والأخيرة، عن كل المجرمين والجرائم عندنا، خاصة عما تقترفه عصابات الجريمة المنظمة؛ ولكن سيبقى، في الوقت نفسه، التساؤل حول دور مؤسساتنا المحلية، مثل المجالس والبلديات، ضرورياً ومبرراً؛ والتساؤل حول مساهمة ودور المؤسسة التربوية موجعاً؛ والتساؤل حول تأثير المؤسسة الدينية مقلقاً ومستوجبا. فاذا فتشنا عن دور هذه المؤسسات سنجده، في أحسن الأحوال، هامشياً، وفي بعضها سنجد أنها تساعد، إما بصمتها وإما بفعلها، في ترسيخ ظواهر العنف وفي استفحالها.. فإلى متى؟

لأم الفحم تحية وسلام.. ولجلجولية ولكل بلدة مفجوعة العزاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى