أقلام وأراء

جواد بولس يكتب – الأسرلة

جواد بولس *- 6/11/2020

«الأسرلة» وصف شاع في السنوات الأخيرة كمذمّة يطلقها البعض في وصف فعل، أو دعوة، أو مبادرة اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو ثقافية، بهدف تشويه سمعة الفاعل/الداعي/ المبادر ومهاجمته، ووأد فعله لكونه «غير وطني» ولا يخدم مصالح المواطنين العرب في إسرائيل، كما يراها ويعرّفها ويؤمن بها أولئك المهاجمون والمنتقدون. فما الأسرلة إذن؟

يغيب عن بال معظم المنشغلين في هذه القضية، موقف قادة الحركة الصهيونية والمؤسسة الحاكمة بكل أجنحتها، الذين حسموا هذه المسألة منذ البدايات وأجهضوا إمكانية نشوء حالة «الأسرلة» الرسمية، حين قمعوا كل محاولة فردية أو جمعية للمطالبة بها. قد يكون قضاة المحكمة العليا في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم هم السباقون، و»أبطال» هذه المهمة، فقراراتهم المبكرة والمثابرة حالت عمليًا دون امكانية نشوء «هوية مدنيةإسرائيلية» لجميع مواطني الدولة، تشمل بداخلها مركبات ثانوية أخرى مثل الديانة وغيرها.

جاءت قرارات المحاكم الإسرائيلية قبل تشريع قانون القومية بخمسين عامًا، في عدة قضايا، حاول من خلالها بعض المواطنين اليهود وغير اليهود تسجيل أنفسهم في هوياتهم كـ»إسرائيليين» وليس يهودا، إلا أن صهيونية القضاء وعنصريته وتحيّزه، منع قوننة «الأسرلة» لإبقاء اليهود، حسب هذه القرارات، أسياد البلاد، والآخرين ضيوفًا يجلسون على الريح. لقد ثبّت القضاة عبر تلك السنين «إسرائيل» اسماً لدولة كانت وستبقى دولة يهودية لا يسكنها «إسرائيليون» بل يهود، لأنها كما كتبوا في قراراتهم، كيان قام «كدولة يهودية في أرض اسرائيل، وكحق طبيعي للشعب اليهودي، كي يعيش مثل باقي الشعوب في دولته اليهودية السيادية». فلا يوجد انفصام بين اليهود والإسرائيليين، ولن يكون. إذن، ما بين أسرلة مستحيلة وغيرها من الحالات، بعضها مستكره وبعضها طبيعي، تضيع الطاسة وتذوب الفوارق وتنتعش الفطريات.

يساورني شعور بأنّ الغالبية العظمى من المواطنين العرب لا تولي هذه الحالة اهتمامًا جدّيًا، ولا تتوقف عند ما يعنيه حقيقةً مُطلق التقريع؛ فأكثرية الناس تسمع هذه «المسبة» بحق فلان، أو تلك المجموعة المتهمة بذلك الفعل المدان، ويمضون إلى مواقع عملهم، وإلى مصادر أرزاقهم المرتبطة بطبيعة الحال بأسواق الإنتاج والعمل والاستهلاك الإسرائيلية. لا يمكن أن تغطي مقالة أسبوعية واحدة كل جوانب هذه القضية الملتبسة؛ ولذلك سأكتفي اليوم بالتطرق إلى مهاجمة بعض الأفكار السياسية الخارجة عن نطاق المألوف، والانتقاص من محاولات بعض الأشخاص أو المجموعات اقتحام المستقبل بأدوات وبطروحات سياسية جديدة؛ وقد شهدنا الموجة الاخيرة من هذه الهجمات ضد مجموعات من الأشخاص البارزين، والمشهود لهم بانتمائهم الحقيقي لقضايا شعبهم ولمصالح مجتمعاتهم، كان بضمنهم النائب أيمن عودة. بعض من الذاكرة لن يضر.. فعندما كنا طلابًا جامعيين في أواسط سبعينيات القرن الماضي، عشنا مخاضات سياسية ثلاثية الأضلاع؛ كطلاب عرب وقفنا معًا في وجه القوى اليمينية التي كان يقودها في حينه من أصبحوا اليوم وزراء في الدولة كيسرائيل كاتس وتساحي هنجبي وأيفيت ليبرمان وغيرهم، ممن يتحكمون في أجهزة الدولة وسياساتها؛ أما داخليًا فكانت المواجهة محتدمة بين «جبهة الطلاب العرب» وفي طليعتهم وقف رفاق الحزب الشيوعي الإسرائيلي، و»حركة أبناء البلد» التي دأبت على رفع شعارات قومية، وعلى نعت الحزب الشيوعي بالأداة الإسرائيلية وعلى مهاجمة تاريخ نشاطاته قبل إقامة اسرائيل وبعدها.

“أحداث يوم الأرض كانت عتبة مهمة لتجذير مفهوم المواطنة الكاملة ووضوحها كرافد للبقاء السليم، وكونها استحقاقًا طبيعيًا لنا “.

لا أعرف من يذكر اليوم تفاصيل تلك الصدامات، فالمواجهات تعدت رفض «حركة ابناء البلد» لشعارات «الحزب الشيوعي» السياسية ورؤيته للحل، من خلال إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وإقامة دولتين لشعبين، بل وصلت إلى حالات من التخوين السافر، والاشتباكات الجسدية العنيفة، إذ أن شعار القوميين في تلك السنوات أكد على أن تحرير القدس سيمر أولا بتحرير جزيرتي «سبتة ومليلة» المغربيتين من براثن الاحتلال الإسباني، وعلى أن حل القضية الفلسطينية لا يكون إلا بالمقاومة، وإقامة دولة ديمقراطية واحدة على جميع أرض فلسطين؛ ومن لا يؤمن بذلك فهو خائن ومفرّط. كانت الأسرلة، إذن، وقتئذ «الوصمة» الكبرى التي ألصقها ناشطون قوميون، أو بعضهم ادّعى القومية، بأهم تنظيم سياسي عمل على بعث روح البقاء والصمود بين الأقلية الفلسطينية، الناجية من مزايدات القوميين، وبعد أن هندس قياديّوه، برؤى حكيمة وكفاحية واقعية، ضفتي نجاتها في الوطن: هوية فلسطينية جامعة، ومواطنة إسرائيلية متساوية بالحقوق. في تلك السنوات لم يكن مصطلح «الأسرلة» شائعًا كمسبة، كما في أيامنا هذه، وقد يكون جديرًا دراسة أسباب ذلك؛ لكنني أجزم أن من بين تفسيرات تلك الحالة، سنجد وضوح تعريف «العمالة» ومضامينها والإجماع شبه البديهي على من يكون العميل أو «الذنب» كما درجت العامة على تسميتهم.

وإلى جانب ذلك سنجد، كذلك، أن عدم نضوج فكرة المواطنة داخل مجتمعاتنا التي واجهت حتى عام 1966 قمع الحكم العسكري الإسرائيلي، لم يدفع المواطنين إلى الاهتمام بماهية «الأسرلة» لاسيما وقد عاش معظمهم تحت رهبة ونفسية النكبة، التي لم يخرجوا منها، إلا إبان أحداث يوم الأرض، الذي من دون شك كان عتبة مهمة لتجذير مفهوم المواطنة الكاملة ووضوحها كرافد للبقاء السليم، علاوة عن كونها استحقاقًا طبيعيًا لنا.

لقد رافق تلك التطورات وعي قيادات ذلك الزمن بضرورة إنشاء شبكة من الأطر المساندة والكفيلة برسم السياسات المرغوبة والضرورية من جهة، وبمواجهة ممارسات الدولة العنصرية من جهة أخرى، فكانت ولادة «اللجنة القطرية لرؤساء المجالس المحلية والبلديه العربية» ومعها مجموعة من الجمعيات الأهلية والشعبية والنقابية، عناوين مكلفة بمتابعة البعد المدني واستحقاقاته المواطنية، أما «اللجنة العليا لمتابعة شؤون الجماهير العربية» فجاءت لتداري الرافد القومي، وما يتفرع عنه من ضرورات وموجبات ومهام؛ وبقيت الأحزاب والحركات السياسية المشاركة في الكنيست عناوين لإدارة المعركتين، وفق ما يراه كل حزب وحسب عقائده وأولوياته.

من دون أن نستعرض جميع المحطات السياسية والتحولات الاجتماعية التي مرت بها مجتمعاتنا المحلية بعد تلك المرحلة، من المهم أن نلحظ أن أهم المتغيرات التي طرأت عليها، لم تكن بالزيادة العددية وحسب، بل بنشوء شرائح جديدة وطبقات اجتماعية حديثة، أفضت ولادتها إلى نمو شبكة من المصالح، الفردية والجمعية، مع الدولة، وفرضت، بالتالي، أنماط اشتباك واندماج مع مؤسساتها لم نعهدها من قبل.

استمرت المحاولات لخلق التوازن داخل المعادلة الثنائية، حيث بقيت الجبهة الديمقراطية وأدواتها المجرّبة والعريقة رأس الحربة في هذه المهمة، إلا أنها، لأسباب كثيرة، لم تعد قادرة على أداء هذا الدور، ودخلت مؤسساتها في حالة من التكلس والجمود، وراح بعض قادتها ينافسون زملاءهم من الأحزاب الاخرى في الجري والتودّد لزعماء العرب ولطغاتهم، والتراخي أمام تنامي مدّ حركات الإسلام السياسي، حتى ضاعت بوصلة الجماهير المجرَّبة، واختلّ قاموس المعاني، فلم يعد للعميل تعريف يجمع عليه، ولا كل وطني مأمول، واستحضر كل حاو «إسرائيله» حتى غدت «الأسرلة» هوى وموالا يغنيه كل «ثائر» على هواه.

في ظل «فوضى القيادة» ومع جنوح المجتمع الإسرائيلي إلى يمينيّة عنصرية وفاشية سافرة، وبسبب عوامل خارجية ومحلية أخرى، ازدادت قوة الأصوات المطالبة بعملية الإقصاء الذاتي، ومقاطعة مؤسسات الدولة، فسادت حالة من العدمية الخطيرة، التي أوصلت مجتمعاتنا إلى حالة من «السيلان الهوياتي» والتدحرج نحو قاع الهاوية، وإلى عبثية لم تعد محتملة؛ فصار أهون على بعض المتعاطين بالسياسة، والخائفين على مواقعهم الحزبية، مهاجمة الأنقياء والمجتهدين ورميهم بتهمة الأسرلة حينًا والصهينة أحيانًا، بينما نراهم يصمتون ويخنعون امام العابثين في خيرات بلداتهم والمفتنين والمتطاولين والفاسدين والبلطجيين.

ما الأسرلة إذن، ومن يقرر ما هي وما بينها وبين أحكام المنفعة أو «العثمنة» أو «البلشفة» أو «القطرنة» أو «البوتنة» أو «السعدنة» أو «البشرنة»؟ ومتى تكون مذمومة ومرفوضة، حتى يستحق من يمارسها تهمة الخروج عن الصف الوطني أو المتصهين أو الجاسوس؟

يتبع ..

* كاتب فلسطيني .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى