أقلام وأراء

جواد بولس يكتب – الأسرلة والتأسرل والعالم المقلوب!

جواد بولس *– 13/11/2020

رأينا في المقالة السابقة كيف تعمّدت جميع أجنحة الحركة الصهيونية، وبضمنها نظام إسرائيل القضائي، بمختلف درجات محاكمه، إجهاض إمكانية تشكّل «هوية إسرائيلية» واحدة، لو قيّض لها النمو لصهرت بداخلها، مع مرور السنين، كل المواطنين، اليهود والعرب وغيرهم، الذين عاشوا ويعيشون في الدولة، ولاحتوتهم كأفراد وكمجموعات، وجعلتهم يمارسون حياتهم بشكل طبيعي، وفق ما تمليه عليهم منظومة القوانين، وتخطه حدودها من حقوق وواجبات، على اختلاف منابعها وأصولها ومرجعياتها، كما هو الحال في معظم الدول الحديثة.

لم تولد تلك الهوية المدنية الجامعة لسبب أساسي وهو، موقف وعنصرية الحركة الصهيونية، التي خططت منذ البدايات لإقامة دولة يهودية خالية من العرب، رغم كونهم سكان البلاد الأصليين.

فشلت الصهيونية بتحقيق مرادها، فقامت إسرائيل وبداخلها بضع عشرات الآلاف من الفلسطينيين، الذين رفضوا ابتلاع «الطُعم» فنجوا وبقوا، في بيوتهم/حصونهم، تذكاراتٍ نازفة لعمق الفاجعة من جهة، وتحدياتٍ صارخة لقمع وممارسات حكومات صهيونية عنصرية، شرع قادتها، منذ اليوم الاول لإعلان نصرهم، بالتفتيش عن بدائل أشرس، بعد فشل مخطط حركتهم الأم. حُسم مصير الأسرلة؛ مع أنها كحالة متخيّلة، هي عدوة الدولة اليهودية ونقيضها؛ ورغم ذلك، تحوّلت «الأسرلة» على ألسن بعض المواطنين العرب إلى مسبة شعبوية تطلق في جميع الاتجاهات، من دون رقابة حقيقية، أو تكال كمزايدات أو كتعبير عن جهل متسيّد في مجتمعاتنا؛ وكانت تختلط أحيانًا مع تهمة «التأسرل» رغم وجود اختلافات جوهرية بين الحالتين، أو هكذا يجب أن يكون. قد يكون أول من رفع شعار «الأسرلة» بمعنى المساواة المواطنية التامة، هو الحزب الشيوعي الإسرائيلي، فرفاقه الأوائل وضعوا اللبنة الاولى لما أصبح فيما بعد مطلب الجماهير العريضة: «دولة لجميع مواطنيها».

«التأسرل» في المقابل، ورغم استحالة تشكل الأسرلة، هو ممارسة جائزة ، لكنها لا تأخذ في حياتنا شكلًا واحدًا، بل قد تنعكس في عدّة سلوكيات ويعبّر عنها بعدة مضامين ليست جميعها، بالضرورة، سلبية ومرفوضة، كما يحاول البعض إيهامنا.

هنالك خلط بين الحالات التي يسمّونها، هكذا على وجه التعويم والتعميم، بالتأسرل المشبوه؛ وأجزم أن هذا الخلط مقصود، ففي ثناياه يضيع العميل الحقيقي والمُخبر والمفسد والمثبط للعزائم؛ وتختلط حدود الاندماج وممارسات المواطنة وما إلى ذلك من حلقات يصرّ البعض على ضبطها في الحزمة نفسها تحت اسم «التأسرل» ومساواتها بشكل مغرض. صار العميل في لغة العامة مثله مثل من يربح مناقصة لرئاسة مستشفى، أو من أصبح عميدًا في جامعة إسرائيلية، أو رئيسًا لمجلس إدارة شركة كبيرة، أو مديرًا لعيادات صندوق مرضى «مكابي» أو «مئوحيدت» أو مفتش معارف، أو قاضيًا أو قائدًا لكتيبة في جيش الاحتلال، أو مشاركا في مظاهرة عربية يهودية ضد الفاشية، وضد الاحتلال، أو رئيس بلدية متعاونا، أو كابتن منتخب إسرائيل، أو مضيء شعلة «المجد» الإسرائيلي، أو عاملًا يبني جدار الفصل العنصري، أو مهندسًا في شركة إسرائيلية، تستغل المناجم في نيجيريا؛ ومثلها من حالات لا عد لها ولا حصر، قد يعتبرها البعض وفق قاموس «الفوضى الوطنية» كلها تأسرلًا ؛ والبقية عند من غابوا ونسوا أن يضعوا الحدود ويصححوا الخرائط ويصلحوا البوصلات ويلقوا اليواطر. فهل كل ما ينعت بالتأسرل هو حقًا خروج عن «الصف الوطني» أو وفق بعض «القضاة « يعدّ عمالة أو كفراً؟

“الهوية، كما قال محمود درويش: «دفاع عن الذات، إن الهوية بنت الولادة، لكنها في النهاية إبداع صاحبها، لا وراثة ماض.» .

لن نعالج لماذا ومتى شاعت هذه السهولة في إطلاق الاتهامات للغير المختلف،ومتى ضاع قاموس الكفاح الشعبي ومفرداته؛ لكنني أعرف أن حكومات إسرائيل وأعوانها كانوا من أوائل المستفيدين من هذه البلبلة، وهم من ساهموا في زرع مناخات الالتباس ودق الأسافين، ووسعوا الشروخات وأقاموا، في سبيل تعزيزها «هوائيات» التشويش البشرية، الحركية والحزبية.ليس كل ما يُذمّ كتأسرل يجب أن يكون محظورًا! فبعض حالاته قد تعني الإصرار على ممارسة حقوق المواطنة الإسرائيلية، التي ننادي بها ونناضل من أجل فرضها على الدولة وعلى مؤسساتها، وهو في هذه الحالات فعل محمود؛ وبعضه قد يعني السعي وراء الاندماج في عروق الدولة، ورفضإصرار ساستها العنصريين على إقصائنا واعتبارنا مشاريع تهجير مخزّنة في ادراجهم. والتأسرل، وليس العمالة مثلًا، قد يطلق بالقصد على من يخدم في جيش الاحتلال، أو على من يتبنى الرواية الصهيونية ويقبل بنشرها في وجه رواية شعبه، و«المتأسرل» قد يكون صحافيًا يعمل في تلفزيون «مكان» أو في منصة إعلامية صهيونية أخرى مع أنه ينشر، بإصرار وبجرأة، مواقفه الإنسانية والتقدمية؛ بينما، لا يكون متأسرلًا، بالمقابل، من يعمل في فضائيات العرب، التي تتغنى بإسرائيل، وتخدم حكام تلك الدول المستبدين، ولا تنشر إلا الفتنة والفرقة والعصبية. والتأسرل يمكن أن يكون قبول صانع أفلام فلسطيني، أو فنان محلي لدعم مادي من صندوق إسرائيلي معدّ لدعم مواطني الدولة، ولا يكون منكراً إذا كان المال قطريًا أو تركيًا أو فرنسيًا أو أمريكياً.

إننا نعيش اليوم في عالم مقلوب، حيث يهاجم فيه، مثلًا، النائب منصور عباس، رئيس الحركة الإسلامية الجنوبية، من قبل إخوانه في الحركة الإسلامية الشمالية ومن الشيوعيين والقوميين في الوقت نفسه، وينعت من قبل جميعهم بالمتأسرل والمتصهين، وأنا لا أفهم كيف ومتى توحّدت مصالح تياراتهم على هذه الجبهة؟ وفي الوقت نفسه تطرد اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الإسرائيلي من صفوفها عضوين يهوديين فاعلين بتهمة مشاركتهما في نشاط لمجموعة اسمها «نقف معًا» علمًا بأن آلاف منتسبيها يناضلون ضد الاحتلال الإسرائيلي، ومن أجل العدالة الاجتماعية والمساواة التامة للمواطنين العرب. إنه عالم مقلوب، لاننا نرى فيه قيادات الحزب الشيوعي الإسرائيلي، الذين دعوا في أنظمة حزبهم «إلى إنشاء جبهة يسار يهودية عربية تكون قادرة على أن تقترح لشعبينا برنامجًا مقنعًا من أجل الخروج من الأزمة الراهنة والسير على طريق السلام والمساواة. الحزب الشيوعي الإسرائيلي يسعى إلى عمل مشترك واسع يقوم على قاعدة متفق عليها، مع أحزاب وأوساط وشخصيات ذوي رؤى مختلفة» – يجهضون محاولات توسيع الصفوف من أجل مصلحة «شعبيهم» ويتسابقون، مثل الاخرين، بإطلاق شتائم التأسرل والتصهين والعمالة بحق رفاقهم وقادة من حزبهم وجبهتهم. إنه عالم مقلوب حيث نرى فيه قادة اسلاميين فاخروا مرة بقربهم من خيمة ملك العربية السعودية، لكنهم هجروها ولجأوا إلى عباءة السلطان أردوغان، وفي كلتا الحالتين لم يترددوا بالصاق تهم «التأسرل» والتهكم على قادة القائمة المشتركة المنتخبين من أبناء شعبهم. إنه عالم مقلوب حين نرى رفاقًا شيوعيين بعد أن تخرّجوا من الجامعات الأممية، وعادوا منائر علم إلى اسرائيل، واستوعبوا في شرايينها الصهيونية ودخلوها آمنين وغانمين بنعمة المواطنة، وهم غير متأسرلين، لكنهم يحاربون رفاقهم بتهم المتأسرلين والمتصهينيين والامبرياليين.

ما الأسرلة إذن وما التأسرل ؟

لن نتوصل إلى تعريف واحد تجمع عليه الاحزاب والحركات السياسية بيننا؛ لكنني لم أفهم، كما قلت، كيف يتوحد الشيوعيون الاسرائيليون، عربًا ويهودًا، مع الإسلاميين ومع القوميين على تعريف بعض حالات التأسرل؛ وقد كنت أتخيّل أن هذه الامكانيات مستحيلة؛ وذلك ببساطة لأن الحزب الشيوعي الاسرائيلي آمن ويؤمن، لا عن طريق التكتيك السياسي، بحل الدولتين للشعبين، وبخلاف ما يؤمن به الإسلاميون، مثلًا، الذين لا يقرّون بحق اليهود في إقامة دولة على أي جزء من أرض فلسطين، التي يعتبرونها وقفًا إسلاميًا معدّاً لاستقبال دولة الخلافة الإسلامية عن قريب؛ وكذلك لأن خلاف الشيوعيين مع القوميين، ما زال كما كان قائمًا حول شرعية إسرائيل وكونها تجسيدًا لحق اليهود بتقرير مصيرهم، وما يترتب على هذا الخلاف من شعارات سياسية ووسائل كفاحية. لا أنكر وجود قواسم مشتركة بين هذه التيارات الثلاثة، لكنني أخصّ هنا قضية «التأسرل» ومضامينها كما نواجهها في حياتنا اليومية؛ فهنالك فروق جوهرية ازاءها، إن لم تحدّدها قيادات الحزب الشيوعي والجبهة الديمقراطية، فستبقى «الفوضى الهوياتية» طاغية، والتيه السياسي مستمراً، وسيبقى كل هاو أو حاو أو مغرض قادرًا على سحب «جوكره» وإطلاق تعريفه لفعل «التأسرل» وكأننا في لعبة ورق عبثية !

لا فراغ في السياسة؛ فإن غبتَ عن موقع سيزرع غيرك فيه؛ وإسرائيل لا تغفو ومثلها من يؤمن أن مشروعه صار قاب قوس وأدنى، وأنّ الفرج يقهقه على أدراج القدر؛ والهوية، إن نسيتم يا رفاق، هي كما قال الدرويش في طباقه: «دفاع عن الذات، ن الهوية بنت الولادة، لكنها في النهاية إبداع صاحبها، لا وراثة ماض ..»

*كاتب فلسطيني .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى