أقلام وأراء

جواد بولس يكتب –  إسراطينيات… جولة الباطل زفرة

 جواد بولس *- 18/12/2020 

وكأنني مخلوق من كوكب آخر؛ دخلت مجمع المحاكم، أو كما يسمونه «قصر العدل» في لغة العبث. دفعت بجبهتي نحو عين مجسّ يقيس حرارة الجسم معلق في مدخل المبنى. أشهرت بطاقة المحامي، فأذن لي الحارس بالتقدم والدخول. بدا المكان مهجورًا. في فضائه عتمة ناعسة وبرودة تذكّر بأجواء مباني البانثيونات الأوروبية. لاحظت في إحدى زواياه تجمعًا لعدد قليل من الأشخاص الذين كانوا يتحركون بثقل، بلباسهم الأسود والأبيض، وكأنهم رهط من طيور البطريق الفزعة؛ وإلى جانبهم وقف رجل أمام مقصف مغلق وهو لا يعرف أن القهوة في زمن كورونا صارت في الأماكن العامة أمنية بعيدة.

كانت معرفتي بالمكان سطحية، فتوجهت نحو مقعد ارتفعت فوقه يافطة كتب عليها في «خدمة الجمهور». كنت مكممًا، وكذلك كانت الموظفة التي استقبلتني، من وراء الزجاج، بفتور صباحي، أحسست به ولم أر علاماته على وجهها. سألتها بصوت مخنوق: لديّ جلسة استئناف على قرار لجنة الثلث، ولا أعرف أين ستنعقد في الساعة التاسعة، أي بعد نصف ساعة. لم تصدقني في البداية، هكذا شعرت، فقد وقفت أمامها «عاريًا» إذ لم أحمل حقيبة، كما يفعل المحامون، ولا ملفًا، كما يليق بالمحاكم، ولم أتسربل عباءة سوداء، أو كما كنت أصفها لاصحابي «لباس الغربان».

شعرت بترددها في مساعدتي، فسارعت وزوّدتها باسم موكلي وبرقم قضيته؛ فلاحظت كمّامتها تنشفط على مهل، حتى ظهر أمامي شكل فمها كقارب ورقي صغير، ثم ما لبث أن غاب الشكل داخل قبة زرقاء صغيرة، ملأت نصف وجهها فكادت تغطي عينيها. «فرجت» تمتمت بدون أن تراني أو تسمعني. ألقت نظرة سريعة على ورقة كانت ملقاة أمامها، وأجابتني بهدوء فرضه ربما، بياض شعري: إصعد إلى الطابق الثالث وتوجه إلى الغرفة رقم ثلاثين. شكرتها واستفسرت عن إمكانية حصولي على عباءة سوداء، فلبسها الزامي حسب قواعد وأنظمة النقابة. نصحتني الفتاة بالتوجه إلى الطابق السفلي، فهناك قد أجد واحدة عند الموظفة الرئيسية، ثم قالت: وإذا لم تجد، فلا أظن أن القضاة سيعترضون على ظهور شخص في مكانتك أمامهم بدون عباءة.. وقدّرت انها تقصد في عمرك، قررت ألا أنزل وأن أبقى كما جئت.

لا أعرف ما دفعني مجددًا للمثول أمام «لجنة الثلث»؛ فقد فقدت إيماني بنجاعتها وبنزاهتها في فحص ملفات الأسرى الأمنيين الفلسطينيين، منذ سنوات طويلة. فهذه اللجان تملك صلاحيات قانونية واسعة لفحص ملفات جميع الأسرى المحكومين لدى المحاكم الإسرائيلية، أو المحجوزين في سجون إسرائيل، بعد قضاء الأسير لثلثي مدة محكوميته. وتستطيع اللجنة الإقرار بالإفراج عن أي أسير قبل انتهاء مدة محكوميته، وفقًا لمعايير ومساطر قانونية استثنت، عمليًا، الغالبية الساحقة من الأسرى الفلسطينيين، بالاعتماد على موقف جهاز المخابرات العامة الإسرائيلي (الشاباك) الذي يعتبر تقريره السرّي المقدم للجنة أحد أهم العناصر الحاسمة في اعتباراتها وقراراتها. في الماضي قاطع الأسرى الأمنيون الفلسطينيون هذه اللجان بشكل مبدئي ورفضوا المثول أمامها؛ ببساطة، لأنها أقيمت في الأساس لفحص مدى عودة الأسير إلى «طريق الصواب» وكانت وظيفة اللجنة، المكونة من قاض متقاعد، وعامل اجتماعي، وممثل عن الجمهور، تتطلب سبرها لحقيقة إقرار الأسير بخطورة أفعاله التي أدين بسببها، وصدق تعبيره عن ندمه، واستعداده المعلن للعودة والانصهار في المجتمع كعنصر مستقيم وإيجابي وفعال.

“لجنة الثلث تفرج عن أي أسير قبل انتهاء مدة محكوميته، وفقًا لمعايير ومساطر قانونية استثنت الغالبية الساحقة من الأسرى الفلسطينيين “.

لن أرهق القراء بتفاصيل هذه المسألة، لكنها ستبقى شاهدًا آخر على اختلال المفاهيم النضالية الفلسطينية الأصيلة، وعلى تغيير واضح في استراتيجيات الحركة الأسيرة الفلسطينية، وكيف عدّلت هي في معاني نضالها وتراجعت عن رفضها التاريخي لقبول مفهوم «الندم» وزجه في هذا السياق وربطه كثمن للحرية؛ خاصة بعد أن يكون الأسير قد أمضى ثلثي محكوميته وراء القضبان. أدين موكلي، وهو مواطن عربي من إحدى قرى الجليل، بعدة تهم أمنية كان أهمها استعداده للانتماء إلى جيش أمة الإسلام وموافقته المبدئية للهجرة من بلده كي يلتحق بفلول هذا الجيش ويشارك في إقامة دولة الخلافة الإسلامية. تفاصيل التهم، في هذا المقام، ليست ذات أهمية؛ فموكلي شاب في مقتبل العمر خطط ليتعلم ويصبح، كما تشتهي معظم الأمهات والآباء، مفخرة لعائلته الهادئة والسعيدة، ولمجتمعه وللإنسانية جمعاء. لكنه، هكذا تبين، كان قد صيد، وهو بعيد عن أعين أهل بيته، من قبل صيادي أرواح مهرة فنجحوا بإيقاعه، وهو الحدث الغض، في شباكهم، وإقناعه، وهو المؤمن الصادق، بأن الإسلام الذي يحبه، بحاجة إلى نفيره وإلى انضمامه مع سائر «المجاهدين» الساعين لاستعادة العزّة، وبعث سنة الرسول، وإقامة دولته، في سوريا والعراق.. والبقية ستلحق. حين قابلته في السجن أول مرة صارت وجنتاه بلون الورد؛ أما عيناي فوشتا بعتبي عليه وبدهشتي منه، وهو ابن أبيه وعائلة عرفناها «قبل تفتح الحقب» وحين كان العلم صمغًا يوطد الصداقات الصافية، والوفاء بين الناس، كان شرايين للحياة الآمنة والرغيدة. نظرت نحو عينيه الجميلتين فأطرق بعفوية خجولة، لكنه سمع قلبي وهو يسأله: منذ متى تركَتك الوداعة، وكيف تحوّلت البراءة فيك إلى صواعق كادت تختصر الزمن وتحرق جميع الجسور وعرائش الود والأمل العتيقين.

توالت لقاءاتي معه في السجون، وطالت أحاديثنا التي بدأت، بعد كل زيارة، تكتسي بخضرة السهول التي نحبها، وبعطر الوعود المنثورة في حدائقنا أفراحًا وحيوات. دافعت عنه أمام المحكمة، وأنا مصر على ضرورة إخراجه من ذلك «الكهف» وإرجاعه إلى حضن عائلته، وإلى إيمان يرفض إهدار الدم ويُرضي الرب وعباده. أدانته المحكمة، فانتظرت ميعاد انعقاد لجنة الثلث. حضرنا، أنا وهو، أمامها ولم نفاجأ بقرارها، فقد كان أعضاؤها ثلاثة مفطومين على عنصرية موروثة، ينامون على زند عدل أجرب، فسمعونا بآذان مسدودة بطين تاريخ لم يجف.. واستأنفت على قرارهم.
دخلت قاعة المحكمة.. كانت برودتها شديدة، ورائحة الحسرة تملأ جوّها. زاد اغترابي، وشعرت في حلقي غصة حامضة، كان يجلس إلى يساري ممثل النيابة مصففًا شعره بعناية محارب، أو كشاب مغرم. لم يكن هادئًا، فتحتَ كمامته، التي غطت وجهه، كان واضحًا أنه يتأهب ويتقلى على فوهة الغضب.

بدأت المحكمة بسماع ملف آخر قبلي. كان عبارة عن استئناف قدمته الدولة ضد قرار لجنة الثلث بالإفراج عن أسير متّهم بأعمال جنائية، وصاحب سوابق في إحدى مجموعات الجريمة المنظمة؛ لكنه، هكذا فهمنا، قطع علاقاته معهم وقرر العودة إلى جادّة الصواب، فقبلت اللجنة إعطاءه الفرصة والإفراج عنه. سمع القضاة موقف الدولة، لكنهم أقنعوا ممثلها بصحة قرار لجنة الثلث، فقرروا إعادة الملف إليها لتقرر في تغيير شروط الإفراج عن الأسير. لم يشجعني قرار القضاة الثلاثة؛ ورغم أن بينهم قاضيا عربيا، كنت على يقين أنه عندما سيأتي دور الفلسطيني ستتغير كل المعايير وسيلبس «العدل» أقنعة من نار.

سردت أمامهم بموضوعية صريحة موقفي إزاء ما أدين به موكلي، وعبرت عن اعتراضي وامتعاضي من ذلك؛ لكنني أكدت، في الوقت نفسه، أنه لم يقم في النهاية، بأي فعل حقيقي، ولم يتسبب بأي ضرر للمجتمع، ويستحق أن يُعطى، وفق معطيات وظروف الحالة، الفرصة ليعود إلى مجتمعه كعنصر إيجابي، عساه يكمل تعليمه ويحقق أحلامه الحقيقية وأحلام عائلته. كنت في خضمّ مرافعتي حين سمعت خبطة قوية آتية من جهة مقعد ممثل النيابة؛ فتبيّن أن «المحارب» القلق، لم يستطع تحمّل ما كنت أقوله، فوقف وهو يصرخ ويردد «لكنه داعش ، لكنه داعش». اعترضت على مقاطعته وعلى تصرفه الذي لامس التهديد، وتوجهت للقضاة وقلت لهم، قبل رفضهم لاستئنافي، هذا هو واقعنا وواقعكم المخيف، فأي عدل سأتوقع منكم؟ وتابعت: لو كان مع هذا الشاب شاكوش لشجّ به رأسي. فكيف تسمحون له بأن يتصرف في قاعتكم بمثل تصرف «شبّان الهضاب» أولئك الذين يلاحقون ويعتدون على الفلسطينيين يوميًا؟  إلا أنه يمثل الدولة! كنت حزينًا ومتعبًا، لكنني حاولت دفن غضبي، أو ربما دمعتي، في صدري، تمامًا مثلما أوصى ذلك الأسير الفلسطيني أمه أمامي ذات يوم في إحدى قاعات المحاكم العسكرية، بعد إدانته بالسجن المؤبد، ورجاها ألا تبكي «أمامهم» فبكاؤها، هكذا قال لها، هو الذي سيفرحهم، بل، زغردي وابتسمي ودعيهم يتحرقون بنار ظلمهم وعنصريتهم.   كنت أغلي. تركت «القصر» فصارت برودته أشد من برودة مقصلة، وكنت واثقًا أن وسائد ليلي ستبقى محشوّة بالعواصف وبالزنبق، وستبقى جولة الباطل مجرد زفرة.

 *كاتب فلسطيني .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى