أقلام وأراء

جواد العناني يكتب – تجربة نجاح أردنية

جواد العناني  – 26/3/2020

خروجاً عن المألوف، سأكتب اليوم عن شخصٍ كان له تأثير على حياتي ومجراها. وكثير من الناس يتساءل عن دوره في التنمية الاقتصادية في الأردن، والغالبية تتوق للأيام التي عهد فيها الملك الحسين بن طلال له بملف التنمية الاقتصادية في الأردن، خصوصا أن الرضا عن السياسات الاقتصادية في السنوات العشر الأخيرة في الأردن ضعيف، ولا يحظى بثقة غالبية الأردنيين.

وسيكون المقال تحليلياً، لا مدحاً ولا قدحاً، ولكنني عملت في معية الأمير الحسن بن طلال أكثر من أربعة عقود، تراوحت بين العمل معه، أو بالتنسيق والسفر معه، أو بالعمل تحت إمرته.

وقد بدأت معرفتنا عام 1972/1971، حين كان منهمكاً مع وزراء الاقتصاد والأعمال في الأردن بوضع خطة السنوات الثلاث 1973 – 1975 من أجل إنعاش الاقتصاد الأردني بعد حرب عام 1967 واحتلال الضفة الغربية وهجرة ما يقارب 350 ألف شخص إلى الضفة الشرقية، ثم حرب الاستنزاف، ثم أحداث سبتمبر/أيلول عام 1970 وحتى اغتيال رئيس الوزراء الأردني وصفي التل في القاهرة في نهايات عام 1971.

انحصر دوري آنذاك في توفير المعلومات، حيث كنت رئيساً لقسم المالية والنقدية في دائرة الأبحاث في البنك المركزي الأردني، ونجحت الخطة نجاحاً كبيراً في تحقيق أهدافها. وَدَفع هذا بالأمير الحسن ليعمل على الخطة الخمسية الأولى لتغطي الفترة 1976 – 1980.

وكنت أيامها قد أنهيت دراسة الدكتوراه في الولايات المتحدة، وعدت لأترأس دائرة البحوث الاقتصادية في البنك المركزي. وكنت في الصف الثاني من المسؤولين. وعهد إليّ بإعداد وتقديم ورقتين خلال المؤتمر الاقتصادي الدولي الذي عقد في عمّان في شهر فبراير/ شباط عام 1976.
وقد كانت همة الأمير وسعيه الدؤوب، واتصالاته الدولية، وحضوره الدائم، من الأسباب الرئيسيّة التي مكّنت الأردن من أن يحصل على التمويل المطلوب لتنفيذ الخطة، والتي ساهم ارتفاع أسعار النفط عام 1974 في إنجاحها. ولكن الأردن عانى خلالها من التضخم، ومن الخوف على سوء توزيع الدخل. وطلب مني أن أكتب ورقتين عن الموضوعين، وأسلوب تعامل السياسات المالية والنقدية والاستثمارية في الأردن مع هذين التحديين.

وقد تعمقت علاقتي معه بسبب ما لقيت الورقتان من استحسان من الخبراء والحاضرين للمؤتمر. وصار يأخذني معه في رحلاتٍ إلى معسكرات القوات المسلحة، لأساعده في شرح الخطة التي كنت أحفظها عن ظهر قلب.

ولمّا شكا العاملون في القطاعات الاجتماعية من تنكر الاقتصاديين لهم، قال لهم الأمير “أحسن طريقة هو أن تعينوا اقتصادياً يتفاهم مع هؤلاء الاقتصاديين”. ووقع الخيار علي لأصبح أمين عام وزارة العمل. وكان أول تكليف لي، بعد استلامي ذلك المنصب، من الملك الراحل الحسين هو “بدء الإعداد لإنشاء مؤسسة الضمان الاجتماعي”، والفكرة التي كان رائدها وزير العمل المرحوم عصام العجلوني، وبدعم وتشجيع من الأمير الحسن، ومباركة من المرحوم الملك الحسين.

وصرت بعدها مديراً للضمان الاجتماعي، إلى أن كلّف المرحوم الشريف عبدالحميد شرف بتشكيل الحكومة، فاختارني لأكون وزيراً للتموين. وذكر الشريف، في أول جلسة لمجلس الوزراء، أن الوزراء ممنوعون من الاتصال بأي مسؤولين كبار إلا إذا طلبهم الملك الحسين، ولا يحق لأحد غير الملك فعل ذلك. ولكنه قال إن المنسق للعلاقة بين الحكومة وولي العهد آنذاك (الأمير الحسن) هو جواد العناني فقط. واستمر العمل بهذا الأمر.

ولما توفي الشريف عبد الحميد مبكراً، وبقيت حكومة برئاسة الراحل قاسم الريماوي شهرين، عاد مضر بدران رئيساً للحكومة، حيث أصبحت وزيراً للعمل، علماً أنه كان يريدني للزراعة، وطبق بدران سياسة الشريف عبدالحميد شرف نفسها. وقد سافرت مع الأمير حسن عدة مرات إلى تركيا وأوروبا، وعدد من دول الخليج، وقد كنت أرى إنجازه الهائل ومقدرته الفذّة على الإقناع.

ويذكر أنه في عام 1980، عقد مؤتمر القمة العربي الاقتصادي الأول في عمّان، وبمشاركة فاعلة من الأمير الحسن قُدمت فيه وثيقتان أساسيتان: عقد التنمية العربية واستراتيجية التنمية العربية. وفِي نهاية المؤتمر، تأسس منتدى الفكر العربي الذي ما زال الأمير الحسن يترأسه، وأنا عضو مؤسس فيه.

وقد قابلت معه أعداداً كبيرة من رؤساء الدول، أمثال مارغريت تاتشر، ورئيس فرنسا جورج بومبيدو، والرئيس التركي كنعان إيفرن، والرئيس تورغوت أوزال، ومستشار ألمانيا هلموت شميت، وأمناء عامين الأمم المتحدة (بطرس غالي، كوفي أنان، بان كي مون).

وقابلت مستشار النمسا والرئيس حسني مبارك، والرئيس عبد العزيز بوتفليقه، ورئيس وزراء ماليزيا مهاتير محمد، والراحل ضياء الحق والراحلة بينظير بوتو، والراحل راجيف غاندي، وإمبراطور اليابان، واثنين من رؤساء وزراء اليابان، ورئيس تايوان، وغيرهم كثيرين.

وسافرت مع الأمير الحسن إلى الأمم المتحدة في نيويورك، وجنيف، وفيينا، وحضرت الاحتفالات بمنحه الدكتوراه الفخرية في عدد من الجامعات، وسافرت معه إلى الولايات المتحدة، وقابلنا كبار المسؤولين أيام الرئيس بيل كلينتون، وسافرت معه إلى القدس وتل أبيب، ورام الله وروسيا وكندا.

وعملت تحت إمرته بعد خروجي من الحكومة أول مرة عام 1985، رئيساً للجمعية العلمية الملكية، وأميناً عاماً للمجلس الأعلى للعلوم والتكنولوجيا. ولمّا مرض الراحل الملك الحسين وسافر إلى مايو كلينيك للعلاج، كنت رئيساً للديوان الملكي، وهو نائب الملك مدة استمرت حوالي ثمانية أشهر، عملت بعدها مع الملك عبدالله الثاني شهرين.

يحق لي وقد بلغ الأمير الحسن يوم 20/3 سن الثالثة والسبعين، وقد تعافى حديثاً من وعكة صحية، أن أقول إن هذا الرجل الفذ الرائع كان يَطوّق على ألف عمل وعمل، وذاكرته الخارقة لم تسمح له بنسيان أمرٍ كلّف به أحداً، وأنه وإن كان مستقيماً وصريحاً كالسهم إلا أن قلبه صافٍ لا يحقد على أحد. وأنه يعرف أرض الأردن شبرًا شبرًا، وقطعت معه مئات الكيلومترات مشياً في بواديها وسهولها ووديانها وجبالها. وأنه يعرف الناس ويتذكّر أسماءهم، وأنه ربّ أسرة رائع يحب أولاده، ولا يدللهم إلى حد الإفراط، وجميعهم تخرّجوا من جامعة أكسفورد أو كامبريدج.

ويغضب ويحن، ولكنه يبقى دائماً الأخ والصديق والرفيق …. أقول له أبدعت، وستبقى دائماً رمزاً وإنساناً ومنجزاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى