أقلام وأراء

جميل مطر: ما وراء المبادرة الصينية وما بعدها

جميل مطر 2-3-2023: ما وراء المبادرة الصينية وما بعدها

كتبوا الكثير عن المبادرة التي عرضتها الصين على معظم دبلوماسيات العالم، متضمنة اقتراحات وشروطاً لوقف الحرب الناشبة بين روسيا وأوكرانيا. كتبوا عن الموقف الصيني المتميز من هذه الحرب، وعن ردود الفعل على المبادرة، وعن فرص نجاحها، وفرص فشلها. ولاحظت، كما لا شك لاحظ آخرون، أن معظم ردود الفعل عكست، أو لعلها كشفت حقيقة نوايا الدول صاحبة هذه الردود. واتضح أكثر من ذي قبل، أن لبعض الدول مصالح في فشل هذه المبادرة، أي في استمرار الحرب. واتضح أيضاً أن دولاً غير قليلة العدد، رحبت بالمبادرة وتفاءلت خيراً، هذه الدول تستحق أن أطلق عليها دول الرأي الثالث، تمييزاً لها عن دول الرأي الأول، وأقصد الولايات المتحدة وأكثرية أعضاء الحلف الأطلسي، وهي الدول المشتركة فعلياً في الحرب في صف أوكرانيا، بمعنى انغماسها في دعم أوكرانيا بالسلاح والمال. اليوم، فكرت أن أعرض بالإيجاز الممكن بعض ما تسرب من أفكار وتعليقات وآراء حول مبادرة الصين.

* أولاً: الصين، بتقديمها هذه المبادرة، نجحت في أن تثير الاهتمام بقضية هي، حسب اعتقادي، القضية الأهم في جدول اهتمامات القيادة الراهنة للحزب الشيوعي الصيني. هذه القضية هي الحاجة الماسة لصياغة مفهوم ومحتوى وشكل نظام دولي جديد، تروّج لقيامه الصين وروسيا، ويتحمس له عدد من دول آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. وانضمت إليها دول أوروبية كشفت مؤخراً، وبالتحديد خلال الأزمة الأوكرانية الحالية، عن مظاهر تململ وعدم ارتياح إزاء النظام الدولي الراهن، وتسمّيه الصين نظام هيمنة القطب الواحد.

* ثانياً: صدر عن مسؤول كبير في البيت الأبيض ما معناه أن العقد المقبل حاسم بالنسبة إلى إقرار شروط المنافسة بين الولايات المتحدة والصين. صدور مثل هذا التصريح في الظروف الراهنة يوحي بوجود رابطة تربط الحرب الناشبة بين أوكرانيا وروسيا بالحملة الفريدة في نوعها التي تشنها الولايات المتحدة ضد الصين. توحي أيضاً بأن للصين دوراً في هذه الحرب إلى جانب روسيا، إن لم تلعبه حتى الآن ولو في الخفاء، فسوف تلعبه جهاراً في أقرب وقت. الأمر الذي يجد تفسيره في الحملة الشرسة التي نظمتها واشنطن وسيّرتها ضد المبادرة الصينية، في وقت كان رد الفعل الأوكراني عليها معتدلاً، بل لعله بدا لنا في أيامه الأولى مرحّباً، كما بدا الرأي الأوروبي منقسماً، وفي أغلبه بارداً، بينما ركز الإعلام الأمريكي وإعلام الحلف منذ اللحظة الأولى على إدانة المبادرة لأنها حسب الرأي الرسمي الأمريكي صدرت لتخدم مصالح روسيا.

* ثالثاً: قيل في تقويم المبادرة الصينية إن توقيتها مناسب، ولكن الوقت غير مناسب. لعل القصد من التوقيت المناسب هو مرور عام على حرب باهظة الكلفة والضحايا والدمار، هو أيضاً الإنهاك الذي أصاب العالم بأسره، والصعوبات اليومية التي صارت تواجه الشعوب كافة. أما الوقت غير المناسب فالقصد منه أن أمريكا لا تزال على إصرارها أن تستمر الحرب حتى تنهزم روسيا هزيمة ماحقة، بينما تظل أمريكا الدولة الكبيرة الوحيدة التي لم يصبها أذى خطر.

* رابعاً: قيل إن الصين بعرضها مبادرة سلمية أرادت أن تبعد عن نفسها أي شك في أنها يمكن أن تغير موقفها من الحرب، فتتحول تحت الضغط الأمريكي حليفاً لروسيا. وسمعت من شخص عالم بشؤون الشرق الأقصى ومتابع جيد لتحركات استخباراتية ودبلوماسية، أن الصين شعرت في الآونة الأخيرة بزيادة ملحوظة في محاولات جرها إلى حرب أخرى في شرق آسيا، سواء باستفزازها بتدخل شبه عسكري في تايوان، أو بوقيعة بينها وبين اليابان، أو كوريا الجنوبية، إذا هي استمرت ترفض التدخل مع روسيا شريكاً في الحرب، أو بالدعم الصريح.

* خامساً: تدرك الصين أن للحرب الأوكرانية خلفية طويلة ومعقدة. وتدرك بالتالي أنه من غير المفيد مسايرة هذا الطرف، أو ذاك، أو الاقتناع من دون مناقشة بدعاوى كل الأطراف. كان الأجدى من البداية أن يبقى الخلاف أو العلاقة محصورة بين حكومتي أوكرانيا وروسيا، خصوصاً في ما يتعلق بحقوق روسيا التاريخية في شبه جزيرة القرم. وكان من الضروري أيضاً، أن تحترم الولايات المتحدة ما التزمت به في اتفاقيات دولية بعدم التمدد بالحلف الأطلسي في شرق أوروبا، أو الاقتراب من حدود روسيا. كان الأفضل لكل الأطراف أن يقدم قادة الحلف ضمانات أمنية لروسيا بدلاً من التهديد المستمر لأمنها ووحدة كيانها بالتمدد نحو حدودها. وتعتقد موسكو الآن، أن واشنطن تخطط لتقسيم روسيا وتفكيك الاتحاد، وأن الحرب الناشبة حالياً هدفها التمهيد للتقسيم، أو التفكيك.

* سادساً: أنا شخصياً لا أستبعد أن تكون الصين أقدمت على طرح هذه المبادرة أملاً في تحريك الموقف نحو تفاهم، أو برهة من الوقت تسمح لكل الأطراف بإعادة النظر في تحركاتها، وإعادة صياغة أهدافها من هذه الحرب. وأكاد أكون واثقاً من أن روسيا، وإن كانت غير نادمة على قرارها مهاجمة أوكرانيا، إلا أنها صارت خلال عام واحد من الحرب في وضع عسكري حرج بالنظر إلى الإمكانات الهائلة التي وضعت رهن مشيئة أوكرانيا. من ناحية أخرى، لا يجوز أن نقلل من شأن الدور الذي لعبته معظم دول إفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط بامتناعها عن تأييد رد فعل الحلف الأطلسي، بالرغم من الضغوط الأمريكية. ولا شك في أن الهند ودولًا عربية بعينها، وإيران، جسدت أمثله بارزة على قسوة بعض هذه الضغوط والتهديدات.

الغريب في هذه الحرب أنها خلقت مصالح لها صارت تعمل بذاتها لضمان استمرار الحرب. بعض هذه المصالح قوي ومتشعب وقادر على إبطال مفعول مبادرات السلم العديدة التي طرحت خلال العام. والأغرب، من وجهة نظري، هو ما سوف نكون ضحايا له، أو شهوداً عليه في الشهور، وربما السنوات المقبلة، أقصد المراحل التالية في سباق الصعود إلى القمة في عالم الغد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى