أقلام وأراء

جمال زقوت: ‎الانقلاب على المجتمع وثقافته التنويرية

بقلم: جمال زقوت 16-7-2022l

الاهتمام الذي لم يتجاوز الطبقة السياسية، بما سيتفوه به بايدن في زيارته الخاطفة، والتي تعكس تدني مستوى اهتمام إدارته ‏بالملف الفلسطيني، والذي يبدو أنه لن يتغير في المدى المنظور ما لم نقوم نحن بما علينا من مسؤوليات في صلبها احترام مكانة ‏المواطن وحقوقه المدنية وتوفير كل ما يُمكِّنه من الصمود وتعزيز قدرته على مجابهة محاولات تهميش وتصفية حقوقه الوطنية، ‏وللأسف فإن طرفي الانقسام المهيمنان على المشهد العام يشيحان بنظرهما عن هذا الممكن والمتاح حتى لتحسين صورتهما، غير ‏مكترثين بهذه الضرورة الوطنية.‏

في كل الاحوال لن يتمخض عن زيارة بايدن أكثر مما قاله هو قبل وصوله للبلاد، عن ما بات يسمى ب “حل الدولتين”، والذي ‏أصبح كما يبدو متقادماً. فالزيارة ستمر بلا جديد يذكر لصالح شعبنا، وهو ما سأتناوله في مقالي القادم.‏

لشديد الأسف سيظل ما هو أساسي ينتظر دون إجابة من المهيمنين على المشهد العام، وهو ما يُملي على المجتمع أن يواصل ‏طرق الخزان لاستعادة زمام المبادرة واستنهاض القدرة لإعادة الأطراف إلى رشدها أو أن يخرجها من سكة الهيمنة على ‏مصيرنا الوطني و لوقف الكارثة المحدقة بنا.‏‎”‎فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ‎ ‎وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ‎”‎

إن الجوهري والذي ينفع الناس هو تركيز الاهتمام، بما في ذلك من خلال مقال كهذا، وهو أضعف الايمان، على ما يُمكِّننا من ‏البقاء على هذه الأرض، ويجعل من مقولة الصمود وحماية النسيج الوطني المتنوع والتعددي حالة حقيقية، وليس مجرد شعار ‏فارغ من أي مضمون، وهنا بيت القصيد كما يقولون، سيما أن الممارسة الرسمية اليومية باتت تتناقض مع أبسط متطلبات هذا ‏الاستحقاق. الأمر الذي يستدعي وقفة مراجعة حقيقية لأولوياتنا الوطنية، وفي مقدمتها خدمة المواطن والمجتمع، والتصدي لما ‏يجري من تقويض غير مسبوق لوحدة النسيج المجتمع، ولقدرة مجتمعنا على الصمود، وللأسف بأيدي بعضنا، بدل أن يكون ‏تماسكه بمثابة الركيزة الأهم في الصراع الراهن بين الرواية الوطنية الأصلانية، في مواجهة روايتهم التوراتية المخترعة على ‏أنقاض تاريخ وتراث وثقافة شعبنا وجذوره الضاربة في أرض هذه البلاد وروحها الثقافية الإبداعية عبر التاريخ، وجوهر هذه ‏الرواية هو التنوع والتعددية لموزاييك الثقافة والفنون وحتى المعتقد الفكري والديني في فلسطين، والتي كانت دوماً بمجملها رافعة ‏أساسية في معركة استعادة مكونات الهوية الوطنية الجامعة في مواجهة الطمس والتبديد الذي يواجهه شعبنا منذ النكبة.‏

‎الاعتداء الأسود وصمة عار

إن الاعتداء الهمجي الأسود على مسيرة مهرجان مسرح الشباب الذي نظمه مسرح عشتار عشية عيد الأضحى شكل ليس مجرد ‏وصمة عار تتطلب جهوداً جبارة لمعالجتها وإزالتها، بل كانت بمثابة طعنة في الظهر، وإنقلاباً غير مسبوق على المشروع ‏الوطني التحرري الذي سبق وحملته منظمة التحرير، وهذه المرة من صلب مكوناتها، الأمر الذي يستدعي إشعال الضوء الأحمر ‏الفوسفوري لمن لا يريد أن يرى، حيث مشروعنا الثقافي التقدمي والديمقراطي يعتبر الركيزة الأساسية لمشروع تجسيد الكيانية ‏وصون الهوية الوطنية الجامعة. إلا أن الأخطر في هذا الاعتداء الدموي على الثقافة الوطنية حد الانقلاب على الموروث التقدمي ‏الذي تميز به مجتمعنا هو “أن مهادنة مؤسسات السلطة المفترض بأنها مكلفة بإنفاذ القانون وحماية الحريات العامة وحياة الناس، ‏وصون السلم الأهلي، وتخليها عن وظيفتها الأساسية في التصدي لهذه البلطجة، يأتي في إطار شعور السلطة بحالة الضعف ‏الشديد جراء عزلتها عن قضايا واحتياجات المجتمع، واختزال حاجة هذا المجتمع والناس للأمن والطمأنينة، بحاجة الخلية الحاكمة ‏لحماية مستبديها والمريدين لها وحصرها في خدمتهم. فتكرار مثل هذه البلطجة الدموية، والتي سبق وأن أشرت لها في مقالات ‏سابقة، دون أي تدخل للمساءلة، تكشف وتؤكد أن جهات في السلطة، باتت متواطئة مع هؤلاء، معتقدة أنها بذلك، أي بترك الناس ‏والمجتمع رهينة للإرهاب الفكري والعنف الدموي من قبل هؤلاء الذين يأخذون القانون بيدهم، سيجنب هذه السلطة مواجهتهم، ‏ولكن في الحقيقة، أن هذا التواطؤ يعتبر أهم وأخطر مؤشر على أن هذه السلطة المتحالفة مع هؤلاء الزعران، والواهمة بشراء ‏صمتهم، إنما تقوض كامل سلطتها بأيديها، وهي تتخلى عن المجتمع بدلاً من معالجة مسألة عدم الثقة التي تتعمق يومياً معها، وهذا ‏تماماً ما سبق وجرى في قطاع غزة عشية الانقلاب الأسود فيه.‏

‎دم ادوارد معلم ‏‎… ‎نزف لمشروعنا الثقافي

إن مشهد خيط الدم النازف من وجه إدوارد معلم أحد رواد الحركة المسرحية في فلسطين، هو بمثابة رمزية النزف الذي يعيشه ‏مشروعنا الوطني وممكنات وقف انهياره، وهو بالنسبة لكل من تبقى لديه ضمير وطني حي، بمثابة الصرخة والنداء الأخير ‏لمواجهة الانهيار الذي يسيطر على أركان المجتمع. فقد يغفر الناس عدم قدرة السلطة على مواجهة مسلحة ضد الاجتياحات ‏الاحتلالية للمدن والبلدات الفلسطينية، رغم أن الوقت قد حان لمعالجة هذه الاستباحة، إلا أنه لن يغفر تواطؤ السلطة ومؤسستها ‏الأمنية مع من يهدد السلم الأهلي، وتماسك المجتمع وتنوعه وحماية تعدديته. كما أنه قد يسامح بعض المثقفين الذين لا يتحملوا ‏مسؤولياتهم في النهوض بمتطلبات مراجعة المشروع الوطني وركيزته الثقافية، ولكنهم لن يتسامحوا مع صمت وزير الثقافة ‏ولعثمة بلدية رام الله، أو محاولات بعض الطارئين على الثقافة التقليل من خطر مثل هذا العدوان، بزعم أنه يخص فئة تعمل على ‏فرض حقوقها الثانوية على حساب الحق العام، فهذه المواقف أخطر من البلطجة ذاتها. لأن من يفرط بحقوق أي فئة أو أي أمر ‏مهما كان يبدو صغيراً، فلا شئ سيمنعه من التفريط بما هو أكبر وأعم وأشمل، سيما أن رأس مالنا الوطني هو الإنسان وكرامته ‏وشعوره المطلق بالندية إزاء كل من يحاول الانتقاص من حقوقه الوطنية وكرامته الشخصية وانتماءه الحقيقي للوطن والإنسانية.‏

‎سَتذهبُ ريحنا إن لم نُقَلِّع شوكنا بأيدينا

لقد آن الأوان أن ينظم المجتمع نفسه ويجد السبل لحماية نسيجه الوطني في معركته مع هذا الانحدار الداخلي، ومع الاحتلال على ‏حد سواء. وعلينا أن نتذكر أن معركة استعادة الهوية بعد النكبة والتصدي لمحاولات تمزيق تلك الهوية بدأت على يد رواد الثقافة ‏الوطنية والديمقراطية والانفتاح المعرفي على ثقافات و حضارات شعوب العالم الذين شكلوا وما زالوا يشكلون حاضنة التضامن ‏والتفاعل مع مكانة فلسطين التاريخية وثقافة شعبها و روايته في مواجهة الرواية الصهيونية الإحلالية، والبعد الثقافي والفني ‏التاريخي والراهن هو جوهر تلك الرواية. فالإيمان بالتنوع والتعددية التي لازمت الوجود الفلسطيني في هذه الأرض منذ ‏البدايات، هو القاعدة والمدخل لاستعادة وحدتنا الوطنية، وهي جوهر مشروعنا الثقافي الذي يتحمل مسؤلية التغيير أو على الأقل ‏الإصلاح الجذري لواقع الحال، وهذه مسؤوليتنا وليس مسؤولية بايدن وإدارته وأحلافه. الأمر خطير ويستحق أكثر من إدانةٍ ‏عابرة وهو وجودي ويستدعي استنفار أقصى أشكال الدفاع الذاتي عن النفس. فشعب تغتصب ثقافته وتستهدف تعدديته وينتهك ‏تنوعه لن يستطيع أن يصمد في معركته الطويلة والمعقدة ضد المحتلين لاسترداد حقوقه الوطنية ومكانته بين الأمم.‏

وستظل ثقافتنا الوطنية التنويرية وفنونها الإبداعية جدارنا الأهم الذي نتكىء عليه.‏

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى