#شوؤن دولية

تفشّي فيروس كورونا وتفكّك الروابط العالمية

ماهر لطيف * 18/4/2020

ملخص

يدرس هذا البحث انتشار فيروس كورونا الذي تحوّل إلى جائحة عالمية ألقت بظلالها على كافة الدول دون استثناء، ويحاول دراسة تداعياته على الاقتصاد العالمي ـ الذي يتخبط في أزمة خانقة منذ بداية العام الحالي ـ من خلال فرض قيود السفر وخسائر سوق المال وشركات الطيران والسياحة وهبوط أسعار البورصات العالمية وأزمة المبادلات التجارية الناتجة عن إغلاق الحدود ووقف الصادرات والواردات مقابل انخفاض أسعار البترول.

حيث كشف هذا الفيروس عن هشاشة هذا النظام المعولم الذي نعيش فيه من خلال نقص الانتاج وتبعية الدول المستهلكة للدول الكبرى المُصنعة (من خلال أزمة الكمامات وضعف المخزون الطبي) وتضارب المصالح الدولية. وإن تخيرنا لهذا المبحث يسعى إلى بلوغ جملة من الأهداف:

§  دراسة مقارنية لسلوك وتصرفات ثلاث أقوى موازين متحكمة في العالم (الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي) وطرق معالجتها للأزمة الراهنة.

§   تناول قضايا وثيقة الصلة بإشكاليتنا كالعلاقات الدولية وأزمة الأخلاق والقيم الكونية التي يتغنى بها الغرب من قبيل التضامن والتكافل والاتحاد بين الدول خاصة وقت الأزمات والمحن.

ولمُعالجة هذه القضايا اعتمدنا المنهج التّاريخي والنقدي لدراسة الأفكار وتشكّلها وتطوّرها تاريخيّا، قصد ربط الفكر بالواقع. وقد اعتمدنا ثلاثة عناصر فضلاً عن مُقدّمة وخاتمة:

1ـ سُرعة انتشار فيروس كورونا:

2ـ تداعيات فيروس كورونا على الاقتصاد العالمي:

أـ فرض قيود على السفر:

ب ـ أزمة التجارة:

ج ـ ارتفاع الأسعار العالمية والمحليّة مقابل انخفاض أسعار البترول بشكل حاد:

3ـ تداعيات فيروس كورونا على العلاقات الدولية:

أـ  الانقسام العالمي وتضارب المصالح:

ب ـ استغلال فيروس كورونا لمواصلة الهيمنة الأمريكية:

تقديم

يواجه العالم اليوم أزمة خانقة لعلّها من أكبر الأزمات التّي تُهدّد استقراره وتُقوّض ترابطه منذ قرن وتدفع به نحو المُواجهة. جوهر هذه الأزمة هو بدون مُنازع وباء العصر فيروس كورونا الذّي يُعتبر من أخطر الأوبئة العالمية ومن أشدّها فتكا بالإنسان نظرا لسرعة انتشاره طبقيا ومناطقيا مع غياب دواء ناجع لمقاومته والقضاء عليه.

بداية ظُهور هذا المرض كانت في الصين وبالتّحديد في مدينة “يوهان” في أواخر ديسمبر 2019 ليضرب إيران ثم القارة الأوروبية والولايات المتحدةالأمريكية ويحطّ رحاله في القارة الإفريقية.

ومع اختراق الفيروس جميع دول العالم المُتقدّمة والنامية على حدّ السواء، ومع ارتفاع مُعدّل الإصابات والوفيات به تحوّل إلى كارثة عالمية.سيكون لها دون شكّ تداعيات كبيرة على السلم الدولي وعلى استقراره وعلى مستقبل الاقتصاد العالمي الذّي سيتحمّل أعباء ثقيلة ربما يحتاج إلى سنوات وسنوات لتعويضها فضلا عن الخسائر البشرية الكبيرة.

لكن لا أحد بإمكانه التكهّن بمُستوى انتشار الجائحة ولا بحجم الخسائر الناجمة عنها في البلد الذّي يُقيم فيه ناهيكم عن العالم بأسره، لكن ممّا لا شك فيه أنّ الأيام الأخيرة شهدت انتشارا أوسع ووتيرة أسرع لفيروس كورونا وأنّ عبارات من قبيل “رقم قياسي” أو “مستوى غير مسبوق” لم تعد ذات دلالة تُذكر، فكلّ يوم يتجاوز عدّاد الوفيات والإصابات ما سُجّل في الأيام التّي سبقته إلاّ في حالات نادرة مع ما يُرافق ذلك من انتقادات داخلية لسياسة هذا البلد أو ذاك ومن دعوات للتضامن والاتّحاد حقنا للدماء.

فهل يُراجع العالم أولوياته على ضوء الانتشار المُتسارع لجائحة كورونا؟

وماهي تداعيات فيروس كورونا على الاقتصاد العالمي وعلى العلاقات الدولية؟

وهل سيغير هذا الوباء خريطة العالم من جديد على ضوء تزايد الخلافات والصراعات بين الدول والاتهامات المتبادلة بينها بالقرصنة وسرقة المساعدات الطبية كما هو الحال بين تركيا واسبانيا والولايات المتحدة وكندا وفرنسا؟

1ـ سُرعة انتشار فيروس كورونا

كورونا هي فصيلة كبيرة من الفيروسات تُصيب الحيوان والإنسان على حدّ السواء، وقد تسبّب نوعان من فيروس كورونا في أوبئة خطيرة على مرّ التاريخ أوّلها مُتلازمة الالتهاب التنفّسي الحادsars (2002ـ2003) وأوقع 8000 مُصاب وتُوفي 10بالمائة منهم من بينهم 350 شخص في الصين.

أمّا النوع الثاني فهو مُتلازمة الشرق الأوسط التنفسية أو ما يُعرف بmers والذّي اُكتشف للمرّة الأولى عام 2012 في منطقة الشرق الأوسط.

وفي ديسمبر 2019 ظهرت حالات التهاب رئوي حاد في الصين ورُصد كورونا في سوق في مدينة يوهان”” وهي عاصمة مقاطعة “”خوباي ، جعل من هذه المدينة البُؤرة الأولى للمرض.

“قُوبل انتشار الفيروس في الصين بما وُصف بأنّه أكبر حالة استنفار طبّي في التاريخ على مُستوى دولة واحدة. وقد تضمّن ذلك إجراءات غير مسبوقة، منها وضع سُكّان مدينة ووهان (بؤرة انتشار الوباء) البالغ عددهم 11 مليونًا، تحت إجراءات صارمة من العزل، وحظر التنقل. وطُبّقت تلك الإجراءات أيضًا بدرجات مُختلفة في مناطق متعدّدة من الصين، ما أدّى إلى النجاح في حصر أسوأ مظاهر الوباء في منطقة البؤرة، ومنعه من الانتشار بشكل واسع في تجمّعات أكبر وأكثر مركزية مثل العاصمة بكين.

وقد تعاملت الدولُ الأخرى التي امتدّ إليها الفيروس، والدول المُجاورة لها التّي تحاول منع امتداده إليها، مع هذه الأزمة بإجراءات مشابهة، والتّي تضمّنت غلق الحدود، ووقف رحلات الطيران، والعزل الصحي، وإلغاء التجمّعات والفعاليات العامّة، وحتّى الشعائر الدينية.”(1)

وتجدر الإشارة إلى أنّ السُلالة الجديدة من الفيروس تنتمي إلى العائلة المُوسّعة من كورونا وعددها 6، وهي من أخطرها وأشدّها فتكا تستهدف الإنسان مباشرة، وهي من الفيروسات التاجية التّي تُهاجم الجهاز التنفسي وتفتك بفاقدي المناعة وكبار السنّ والرُضّع. وقد كانت المُجتمعات التّي تُعاني تهرّما سُكّانيا فريسة سهلة لهذا الفيروس “وبينما كانت الصين هى من شهدت أول إصابة بالمرض، ثم صدّرته إلى العالم، توقّفت فيها الأعداد عند 81 ألف مصاب، ونحو 3,300 حالة وفاة، في حين تجاوزتها الولايات المتحدة في عدد المصابين، بأكثر من 123 ألف مصاب، وتفوّقت عليها إيطاليا وإسبانيا في عدد الوفيات، بأكثر من 10 آلاف ضحية و6 آلاف ضحية على الترتيب، وذلك حتى صباح الأحد 29 مارس.

وعالمياً، تظهر بيانات الإصابات تزايداً ملحوظاً خلال الأيام الماضية، فبعد أن احتاج العالم 12 يوماً لكى يسجل أول 100 ألف إصابة بالفيروس، فإنّ عدد الإصابات اليومية الجديدة بات يتخطى الـ 100 ألف هذه الأيام”.(2 مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة الاثنين 30مارس2020)

2 ـ تداعيات فيروس كورونا على الاقتصاد العالمي

تسبّبت درجة الانتشار السريع لفيروس كورونا في حالة تأهب قُصوى وفي قلق سيطرا على الاقتصاد العالمي بأكمله، وقد نتج عنها هبوط حاد في البُورصة وتهاوي أسواق المال إلى مُستويات قياسية وغير مسبوقة  ممّا اضطر المستثمرون وأصحاب رؤوس الأموال إلى بيع أسهمهم وتسييل أصولهم المالية إضافة إلى شراء الذهب كإجراء احتياطي إلى حين مرور الأزمة.

لقد أوضح مُؤتمر الأمم المُتّحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) في دراسة تحليلية أنّ الصدمة التّي تسبب بها كورونا ستُؤدّي إلى رُكود في الاقتصاد العالمي وستُخفّض النمو السنوي العالمي هذا العام بحوالي 2.5 بالمائة وربّما تسوء الأمور أكثر إلى درجة تسجيل عجز في الدخل العالمي بقيمة 2000 مليار دولار، مما يعني انهيار الاقتصاد العالمي بصفة كُلّية، فيما يشبه الكساد الكبير الذّي أعقب الأزمة الاقتصادية لسنة 1929 من القرن الماضي حيث كان تأثير تلك الأزمة مُدمّرا على تلك الدول تقريبا الفقيرة منها والغنية، وانخفضت التجارة العالمية ما بين النصف والثُلثين”(3)

وهو ما دفع بريتشارد كوزيل رئيس قسم العولمة والاستراتيجيات التنموية بهذه المُنظمة بالقول بأنّ كورونا قد عمّقت الأزمة المالية العالمية الموجودة منذ 2008. ورغم كلّ ما قيل لازالت هذه الأزمة في بدايتها وسوف تتعزّز يوما بعد يوم بحُكم فقدان ثقة المواطنين والمستثمرين في حكوماتهم خاصّة على مستوى إدارتها للأزمة التّي إن تواصلت سوف تُدخل المجتمع الدولي في دوامة من التراجع الاقتصادي تجعل الأوضاع أكثر سوء وقتامة،  خاصّة مع تراجع قيمة الأصول المالية وحجم الاستثمارات يُقابلها تزايد أزمة الديون والقروض والعجز عن تسديدها بسبب تراجع تدفق السلع وتوقف المبادلات التجارية بين الدول(الصادرات والواردات) وقلّة الانتاج مما سيُؤدّي إلى ارتفاع نسبة الافلاس الاقتصادي وانهيار مفاجئ لأصول العديد من البورصات العالمية بسبب تزايد المخاوف وصعوبة التنبؤ بحركة الأسواق خُصوصا مع تزايد انتشار الفيروس وارتفاع مُعدّل الاصابات والوفيات وعجز الدول عن ايجاد لقاح للقضاء عليه.

أ ـ فرض قيود على السفر

بعد تفاقم الأوضاع وخروجها عن السيطرة اتّجهت مُختلف الحكومات والدول إلى تقييد حركة التنقل والسفر سواء على المستوى الداخلي لكلّ دولة(فرض حظر التجوّل وعدم السماح للمواطنين بالتنقل بين المدن) أو على المستوى الدولي في مُحاولة لمحاصرة المرض والحدّ من انتشاره. وبعد تحوّل الوباء من الصين وإيران إلى أوروبا فرضت دول الاتحاد الأوروبي قيودا صارمة على السفر وأغلقت حدودها أمام المسافرين والطائرات، وهو ما عطّل حركة التجارة.

وطبقاً لبيانات الاتحاد الدولي للنقل الجوّي، فقد وضعت أكثر من 50 حكومة حظراً شاملاً على المسافرين الوافدين إليها، وحظرت أكثر من 80 حكومة أخرى السفر إليها من دول مُحدّدة، يُنظر إليها على أنّها نقاط ساخنة لانتشار الفيروس. وتُشير بيانات موقع Flightradar24 إلى أن ّحركة الطيران العالمية تراجعت بأكثر من 50% خلال الشهر الماضي، وأنّ مُعظم رحلات طيران الركاب تم إيقافها، ولم يعد يطير في السماء الآن سوى طائرات الشحن، وعدد محدود من طائرات الرُكّاب التّي تُسيّرها بعض الدول لإجلاء رعاياها من الدول الأخرى.(4) مما سيُكبّل شركات الطيران خسائر فادحة .

ويُمكن اعتبار هذه الخُطوات سابقة أولى من نوعها في تاريخ الاتحاد قد تضعه في أزمة جديدة بعد خروج بريطانيا من شأنها أنّ تعمق الخلاف بين زعمائه وتُشكّك في مستقبل الاتحاد.

ب. أزمة التجارة

في إطار السيناريوهات المُتعدّدة والمفتوحة لأزمة كورونا، لا يمكن لأحد أن يتوقع مدى قُدرة الدول على السيطرة على هذا الوباء واستعادة نشاطها الاقتصادي، فقد ألقت القيود المفروضة على السفر ومنع الطيران بظلالهما على حركة التجارة العالمية وعلى الوضع الغذائي في العالم.

ومن بين هذه الإجراءات اتخذت الدولة المصرية قرارا بوقف صادراتها من البقول وسارت على خُطاها الفيتنام ـ ثالث أكبر مُنتج للأرز في العالم ـ بالحدّ من صادرات الأرز.واتخذت كازاخستان ـتاسع أكبر مُصدّر للقمح ـ الخُطوات نفسها فيما يتعلّق بصادراتها من القمح.

ربما يمكن اعتبار هذه الاجراءات تدابير مُتوقّعة وطبيعية في ظلّ هذه الأزمة ولكن نتائجها ستكون وخيمة على الدول الغير مُنتجة والفقيرة التّي ستكون عُرضة لمواجهة المرض والجوع معا.”وإذا ما تصاعدت هذه الموجة من القرارات، خاصّة فيما يتعلق بالسلع الغذائية، فإنّ المنطقة العربية ستكون من أكثر المناطق تضررا، حيث إنها تعتمد على استيراد الغذاء بنسبة كبيرة.

وبحسب إحصاءات التقرير الاقتصادي العربي المُوحّد لعام 2019، فإنّ الفجوة الغذائية للعالم العربي بلغت نحو 35 مليار دولار. ورُبّما يكون موقف الدول العربية غير النفطية أكثر سوءا، لأنّها تفتقد للموارد المالية لتلبية احتياجاتها بالشكل الكافي، مما يعني أنها قد تكتفي بكميات أقلّ من احتياجاتها، أو أنها ستضطرّ للاستدانة من أجل توفير الغذاء.وفي هذا الإطار يُتوقع أن تتراجع قيمة التجارة الخارجية للدول العربية في 2020 بنسبة كبيرة، بسبب الانهيار الحاصل في أسعار النفط قرابة 64 بالمائة من إجمالي الصادرات العربية، وسيكون لذلك أثره على أداء التجارة البينية العربية”(5)

ج ـ ارتفاع الأسعار العالمية والمحليّة مقابل انخفاض أسعار البترول بشكل حاد:

ساهم تفشّي فيروس كورونا في تعطيل الاتفاقيات التجارية العالمية وفي إيقاف العديد من الصناعات خصوصا مع اعتماد السياسات الاقتصادية والتجارية على ما يُعرف بسلاسل الانتاج التّي خلقت نوعا من التبعية للدول الكبرى المُصنّعة مما أربك حركة التصنيع وأوقف سير العمل وأدّى إلى اغلاق عديد المصانع، نذكر على سبيل المثال توقّف انتاج السيارات في اليابان بسبب اعتماده على القطع الغيار الصينية كما “انخفض الإنتاج العالمي لأجهزة الكمبيوتر المحمولة بنسبة تصل إلى 50%، في شهر فبراير الماضي، ويمكن أن ينخفض إنتاج الهواتف الذكية بنسبة 12% في الربع القادم، وذلك لأنّ كلا المُنْتَجَيْن يعتمدان على مُكوّنات تُنتجها شركات آسيوية مُتخصّصة في دول تعاني من الفيروس”.(6)

وقد انخفض نسق المشتريات التصنيعية الذّي يشمل الأدوات الدقيقة والأجهزة الكهربائية والمواد الطبية والآلات وقطع غيار السيارات وأجهزة الاتصالات، ما يعني أن هذه المواد ستشهد ارتفاعا في أسعارها بفعل حجم الطلب ونُقص الانتاج.

ولا يمكن لنا أن نستثنى المجال الطاقي من تداعيات تفشّي فيروس كورونا “حيث تراجعت أسعار النفط العالمية إلى مُستويات لم تشهدها منذ حرب الخليج الثانية في عام 1991، حيث انخفضت الأسعار إلى مستويات ما دون 25 دولار للبرميل، وهناك توقّعات تُشير إلى إمكانية تراجعها إلى ما دون ذلك بكثير. وإذا لم تكن تبعات “كورونا” فقط هى من دفعت الأسعار إلى هذا المنحى، باعتبار أن حرب الأسعار بين المنتجين لها دور أساسي في ذلك، لكن ّحرب الأسعار ذاتها كانت إحدى نتائج الهلع الاقتصادي الذّي أصاب بعض الحكومات، بسبب “كورونا”، لاسيما وأن هناك توقعات تُشير إلى أنّ توقف الأنشطة الاقتصادية بسبب الفيروس يقود الطلب على النفط إلى تراجعات قد تصل إلى 20%، بفقدانه نحو 20 مليون برميل يومياً، وذلك وفق وكالة الطاقة الدولية”(7)

3 ـ تداعيات فيروس كورونا على العلاقات الدولية :

أ ـ الانقسام العالمي وتضارب المصالح :

استخدم الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” الفيروس كذريعة للتراجع عن التضامن والتكامل العالمي، في حين تستخدم الصين الأزمة لإظهار استعدادها للقيادة بصفتها الدولة الأولى التّي عانت من الفيروس وتعافت منه. هذه القُدرة على التعافي منحتها فرصة كبيرة للتأثير على سلوك الدول الأخرى بفضل طريقتها الجيّدة في مُعالجة الأزمات وبفضل مخزونها الكبير من المعدات الطبية. تُكثّف الحكومة الصينية لفتات التضامن الطبي تجاه أوروبا، التّي أصبحت مركزاً لوباء كورونا بعد مدينة”ووهان” في مقاطعة “هوبي” الصينية، ويقع هذا الكرم الصيني في قلب عملية علاقات عامّة واسعة النطاق، قام بها الرئيس الصيني “شي جين بينغ” والحزب الشيوعي، لتحويل الانتقادات ضدّ مسؤوليتهم في انتشار وباء مُميت (8)

واستغلّت الصين الانقسام العالمي وتضارب المصالح الدولية لطرح اسمها كبديل مُنقذ، وللمسك بزمام المبادرة من جديد بعد رفض دول الاتحاد الأوروبي مدّ يد العون لبعضها البعض وتخفيف الضغط عن الدول المنكوبة. إضافة إلى ذلك حظرت كل من روسيا وتركيا تصدير الأقنعة الطبية وأجهزة التنفس وكذلك فعلت ألمانيا بالرغم من أنّها عُضو بارز في الاتحاد الأوروبي التّي تقضي قوانينه بفتح الأسواق الأوروبية والتجارة الحرّة، كما قامت فرنسا بالاستيلاء على جميع الأقنعة المُتاحة.

أمام انقسام وعجز دول الاتحاد الأوروبي في حربها ضدّ فيروس كورونا وتصاعد الشعبوية تأييدا لسياسة الانكفاء على الداخل، تدخّلت الصين بإرسال مليون قناع طبّي إلى فرنسا وبلجيكا وإسبانيا، كما أوفدت أطنانا من المعدات الطبية وفرقا من خُبرائها لنقل تجربتها في مُجابهة الفيروس إلى عدّة دول من بينها إيطاليا “ففي أوائل مارس، دعت إيطاليا دول الاتحاد الأوروبي إلى مُساعدتها في توفير مُعدّات طبية، ولم تستجب أي دولة للطلب الأوروبي، لكنّ الصين فعلت ذلك، وعرضت بيع أجهزة التهوئة والأقنعة الطبية والملابس الواقية والقطن، وذلك في إطار سعي بكين إلى تصوير نفسها على أنها رائدة الكفاح العالمي ضدّ فيروس كورونا، من أجل تعزيز نفوذها. ويُعد ذلك أمرًا مُحرجًا بالنسبة لإدارة “ترامب”، التّي اتسمت ببطء الاستجابة للفيروس، واختزلت خُطوات مواجهته في حظر السفر من أوروبا. وبعيدًا عن كونها تُعتبر مزوّدًا عالميًّا للسلع العامّة؛ فإنّ الولايات المتحدة لديها القليل من الموارد التّي يمكن أن تُقدّمها للدول الأخرى، بل إنّها قد تجد نفسها قريبًا تتلقى الدعم من مُؤسّسة خيرية صينية”(9).

كما أرسلت الصين في الأيام الأخيرة مُساعدات وإمدادات طبية إلى كلّ من اليونان وصربيا وجمهورية التشيك وبولندا وبعض الدول الإفريقية.

لكنّ قلة المساعدات ونقص الإمدادات الطبية من شأنهما أن يشعلا فتيل أزمة دبلوماسية بين الدول يصعب توقع مآلاتها ونتائجها، فقد اجتاحت العالم مُؤخّرا موجة من الهستيريا والقرصنة أسقطت شعارات العولمة الكاذبة وقيم التضامن العالمي، حيث أعلن وزير الخارجية التونسي “محمد المسليني” عن قيام السُلطات الإيطالية بقرصنة باخرة مُحمّلة بشحنة كُحول طبية كانت في طريقها إلى تونس كما اتّهمت إسبانيا السلطات التركية بسرقة شُحنة مُعدّات طبية اشترتها من الصين قبل أن تُفرج عنها تركيا، كما واجهت الولايات المتحدة الاتهامات نفسها من قبل كندا وفرنسا، وفي هذا السياق رفضت الولايات المتحدة التعليق على تقارير بثتها وسائل إعلام فرنسية وكندية تتهمها بقرصنة مستلزمات طبية كانت في طريقها إلى باريس وأوتاوا قادمة من الصين.

لعلّ المسيطر اليوم هو منطق من يدفع أكثر ينال ما فاض عن حاجة بيكين، تلك هي القصّة باختصار وتبدو الصين وحدها من تمتلك الأجوبة الشافية والكافية.

وإن صحّ ما قيل فالاتهامات تتطلّب دلائل والدلائل ستقود التحقيق لكن الواقع أنّ جميع الدول ومنها الولايات المُتحدة تحتاج لهذه المستلزمات بشدّة، ونقصها بالأسواق المحلية والعالمية يُؤدّي إلى القرصنة والمُضاربات في النهاية وسيشعل اتهامات وحروب لا رابح فيها.

ب ـ استغلال فيروس كورونا لمواصلة الهيمنة الأمريكية :

يشهد العالم اليوم خاصّة في الأوساط السياسية نقاشات وجدالات واسعة حول حجم التغييرات التّي ستصيب النظام العالمي على خلفية تفشي فيروس كورونا خُصوصا مع طول الأزمة وضعف الدول في مواجهتها، مع تراجع الدور الأمريكي مقابل تنامي الدور الصيني إضافة إلى الهند والبرازيل وروسيا وبعض الدول الأوروبية.

كما راجت مُؤخرا أخبار تُفيد بأنّ تكتل دول شرق آسيا بقيادة الصين سيقود العالم عوضا عن الولايات المتحدة الأمريكية ما يفضي إلى قيام نظام عالمي جديد يُنهي الهيمنة الأحادية الأمريكية التّي ألقت بظلالها على العالم بعد سقوط الاتحاد السُوفياتي. “وتذهب جدالات أخرى للقول بأنّ هذا الوباء مُقدّمة لإثبات فشل النظام الرأسمالي والليبرالية المتوحشة لحساب النظام الاشتراكي العالمي؛ على خلفية مُقارنات مُتسرّعة بين تعامل دول تنتمي لكلا النظامين مع كورونا، لكنّ الحقيقة المُؤكّدة أنّ ما بعد كورنا لن يكون كما قبله، لكن ليس بالطريقة التي يتم تداولها والتي لا تخلو من انحيازات مُسبقة وتقديرات إمّا مبالغ فيها أو مُتسرّعة؛ فباستثناء الآثار الاقتصادية للأزمة التّي انعكست على أسواق المال العالمية وهبوط أسعار النفط وتوقف الدورة الاقتصادية بين الدول والتكتلات الاقتصادية، وداخل كلّ دولة جراء توقف انسياب البضائع والسلع والخدمات كالسياحة وغيرها من قطاعات، فإنّ المزاعم بتغييرات عميقة قد تصل لتغيرات في الخرائط السياسية للدول تبدو توقعات مُتسرّعة. (10)

والحديث عن ظهور معسكر شرقي في مقابل معسكر رأسمالي مُتوحش يحتاج إلى مراجعة وتمحيص لأنّ التأثيرات السلبية لكورونا ستُصيب جميع الدول بما فيها الصين ولن يستثني من تداعياتها أي طرف، ولعلّ الفرق سيكون بين قُدرة كل دولة على التكيف مع الأزمة القادمة والخروج منها بأخف الأضرار وقد أثبتت التجارب التاريخية أنّ الولايات المتحدة هي الأقدر على التكيّف وعلى مُواجهة الأزمات بفضل سياستها الخارجية وشبكة علاقاتها وتأثيرها في الرأي العام الدولي.

وستُحاول الولايات المتحدة ابرام اتفاقيات ثنائية مع  حلفائها المنتشرين في العالم مع الهند وكوريا الجنوبية واليابان لمُحاصرة الصين والحدّ من تنامي قوتها الاقتصادية والعسكرية ومع حليفها الأوروبي بريطانيا وأوكرانيا ودول البلطيق للتضييق على الأنشطة الروسية، ولا ننسى هنا شبكة علاقاتها الاستراتيجية مع دول الخليج وتركيا لمقاومة التوسع الإيراني.

هذه الاتفاقيات ستُمكّن الولايات المتحدة الأمريكية من لعب دور قوي في إدارة الصراع السياسي والعسكري مع الصين وروسيا وإيران وستضمن لها قيادة العالم دون الحاجة إلى حروب مع هذه البلدان.

ونلاحظ هنا أنّ تداعيات الفيروس على النظام العالمي الجديد تتوافق مع مقاربات الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، التّي طرحها في حملاته الانتخابية وتلك التي نفّذها منذ تسلّمه إدارة البيت الأبيض، والمتمثلة في تعزيز مقاربة الدولة الوطنية والدولة العميقة، بكل ما يتبع ذلك من سياسات لاحقة، مقابل إضعاف دور المُؤسّسات الأممية والاتحادات الدولية؛ إذ غابت الأمم المتحدة بمُؤسساتها ومُنظّماتها عن المساهمة الحقيقية في مواجهة كورونا، بالتزامن مع طرح تساؤلات حول جدوى منظومة الاتحاد الأوروبي بعد إحجام دول أوروبية عن تقديم المُساعدة لإيطاليا وإسبانيا واليونان بمواجهة كورونا، حيث أصبح مقبولاً لدى شعوب هذه الدول اليوم اتخاذ الخُطوة التّي أقدمت عليها بريطانيا بالانفصال عن الاتحاد الأوروبي، وهو ما يُشّجع عليه ترامب (11).

خاتمة

مُواجهة كورونا لا تتطلّب كمّامات فقط بل تحتاج أجهزة تنفس وأدوية ومُختبرات وأطباء وكوادر صحيّة مُجهّزة، ومع تصاعد أعداد الوفيّات والمُصابين فلا ربّما تُجبر بعض الدول على التضحية بعدد من الأصدقاء والحلفاء.

يضع كورونا العالم على مُفترق طرق في العلاقات الدولية أمّا اتهامات الصديق للصديق والحليف للحليف فهي دليل ربّما على دخول العلاقات الدولية في أزمة أخلاقية لم تضر الدول فحسب بل ستُعيق أوّلا من يُحاول النجاة من الفيروس أو الشفاء منه.

وسيُعيد خلط الأوراق من جديد وسيُبعثر الحسابات التّي لطالما كانت المُسيطرة والمُحدّدة لموازين القوى في العالم، لعلّ هذا الفيروس لا يعترف بالأقوى بل بالأذكى والأدهى في إدارة هذه الأزمات، والبلدان التّي سجلت أعداد كبيرة من المصابين والضحايا يعود إلى سوء إدارتها لهذه الأزمة واستخفافها بضرورة التوقّي المُبكّر من هذا الوباء.

مهما يكن من أمر سيقلب كورونا الطاولة رأسا على عقب وسيُعيد تشكيل ملامح العالم من جديد وبالتالي تغيير حصص كل دولة من الثروات العالمية….ومن المُفارقات أنّ الدول الكبيرة فشلت في احتواء هذا المرض رغم ما تمتلكه من امكانيات كبيرة في المقابل تشق الدول الفقيرة طريقها نحو السيطرة على هذا المرض بفرض اجراءات وتدابير أكثر صرامة، هذا ما تقوله مُنظمة الصحة العالمية.

وما لم يقوله الزعماء صراحة في تصريحاتهم ويقوله كثيرون ليسوا في مواقع السُلطة أنّ أمم الأرض باتت في مركب واحد، وأنّ سياسة الاستمرار بنهب خيرات البقاع الفقيرة في العالم وتركها في مهب الفقر والجهل والمرض والصراعات سيُؤدي إلى نتائج كارثية ليس عليها وحدها وإنّما على البقاع الثرية القوية التّي تسترخي منذ عقود وكأنّها تعيش في كوكب آخر، وتستخدم شعارات حقوق الإنسان مكياجا يُساعدها على أن ترى ذاتها أجمل وأكثر إنسانية.

كورونا إذن لم يُطح بالحدود فحسب بين البلدان بل كسر مرايا النرجسية لدى الإنسان في ذروة وهمه بتفوقه وقُوته وجبروته، وفتك برئتي النظام العالمي إلى حدّ قد تعكسه عواصف التصريحات والهلع التي يبثها صُنّاع القرار في الغرب، ومعها حال الحرب التّي أعلنوها ضدّ عدو لا يعترف بقوتهم وربّما يضحك عليهم ساخرا من استنفار جيوشهم وإمكاناتهم اللوجستية لمواجهته.

* المركز العربي للبحوث والدراسات

الهوامش

1ـ كارن أبو الخير، “هل ينذر انتشار كورونا بتراجع روابط العولمة؟”، مركز مستقبل الأبحاث والدراسات المتقدمة،1مارس 2020.

2ـ ورقة تقدير موقف بعنوان” كورونا يقود الاقتصاد العالمي إلى أزمة غير مسبوقة”، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 30مارس2020.

3ـ فيروز الشاذلي”التأثيرات السلبية لانتشار فيروس كورونا على الاقتصاد العالمي وانعكاساتها على تونس”، أنباء تونس، 15 مارس 2020.

4ـ ورقة تقدير موقف بعنوان” كورونا يقود الاقتصاد العالمي إلى أزمة غير مسبوقة”، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 30مارس 2020.

5ـ عبد الحفيظ الصاوي، “دول عربية أكثر تأثرا: تداعيات كورونا ترسم مستقبلا قاتما”، شبكة الجزيرة، 4أفريل 2020.

6ـ هنري فاريل وابراهام نيومان” هل تعيد أزمة كورونا تشكيل الجغرافيا السياسية في العالم؟”، عرض إسراء اسماعيل، مركز مستقبل الأبحاث والدراسات المتقدمة،25 أفريل 2020.

7ـ ورقة تقدير موقف بعنوان” كورونا يقود الاقتصاد العالمي إلى أزمة غير مسبوقة”، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 30مارس 2020.

.مدني قصري، “لماذا تساعد الصين أوروبا في مواجهة فيروس كورونا؟”، مجلة حفريات، 20أفريل 2020.

9ـ هنري فاريل وابراهام نيومان” هل تعيد أزمة كورونا تشكيل الجغرافيا السياسية في العالم؟”، عرض إسراء اسماعيل، مركز مستقبل الأبحاث والدراسات المتقدمة،25 أفريل 2020.

10ـ عمر الرداد، “هل ستحكم أمريكا قبضتها على العالم بعد كورونا”، مجلة حفريات، أفريل 2020.

11ـ مرجع سابق.

1

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى