ترجمات أجنبية

تفاصيل خطيرة حول اغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زاده

نيويورك تايمز – بقلم رونين برجمان  وفرناز فاسيهي * – 18/9/2021

استيقظ أكبر عالم نووي إيراني قبل الفجر بساعة، كما كان يفعل في معظم الأيام، ليتلو آياتٍ من القرآن الكريم قبل أن يبدأ يومه. وبعد ظهر ذلك اليوم، كان هو وزوجته يغادران منزل عطلتهما المطل على بحر قزوين ويمضِيان بالسيارة إلى منزلهما الريفي في أبسارد، وهي بلدة ريفية شرق طهران، حيث كانا يعتزمان قضاء عطلة نهاية الأسبوع. وقد حذَّره جهاز المخابرات الإيراني من مؤامرة اغتيال محتملة، لكن العالِم محسن فخري زاده تجاهل هذه التحذيرات ولم يلقِ لها بالًا على غير المتوقع والمعتاد.

واقتناعًا منها بأن فخري زاده كان يقود جهود إيران لتصنيع قنبلة نووية، ظلت إسرائيل تسعى لقتله طيلة 14 عامًا على الأقل. لكن كانت هناك تهديدات ومؤامرات كثيرة لدرجة أن الرجل لم يعُد يولِيها كثير اهتمام.

وعلى الرغم من موقعه البارز في المؤسسة العسكرية الإيرانية، أراد فخري زاده أن يعيش حياة طبيعية. وكان يتوق إلى الأمور المنزلية الصغيرة الباعثة على البهجة والسرور: قراءة الشعر الفارسي، واصطحاب أسرته إلى شاطئ البحر، والذهاب في رحلات بالسيارة إلى الريف.

وفي تجاهل لنصيحة فريقه الأمني​​، غالبًا ما كان يقود سيارته الخاصة إلى أبسارد بدلًا من أن يرافقه حراسه الشخصيُّون في عربةٍ مصفحة. وكان ذلك خرقًا خطيرًا للبروتوكول الأمني​​، لكنه أصرَّ على فعل ذلك. وبعد مدة وجيزة من ظهر يوم الجمعة، 27 نوفمبر (تشرين الثاني)، جلس فخري زاده خلف مقود سيارته السوداء من طراز «نيسان تينا سيدان»، وركبت زوجته في مقعد الراكب المجاور له، وانطلقا.

هدف مراوغ

لفت التحقيق إلى أنه منذ عام 2004، عندما أمرت الحكومة الإسرائيلية وكالة الاستخبارات الخارجية (الموساد) بالعمل على الحيلولة دون حيازة إيران لأسلحة نووية، كانت الوكالة تنفذ حملة تخريبية وهجمات إلكترونية على منشآت تخصيب الوقود النووي الإيرانية. كما كانت تنتقي انتقاءً منهجيًّا الخبراء الذين يُعتقد أنهم يقودون برنامج الأسلحة النووية الإيراني وتغتالهم.

ومنذ عام 2007، اغتال عملاء الموساد خمسة علماء نوويين إيرانيين وجرحوا آخر. وكان معظم العلماء يعكفون مع فخري زاده مباشرةً على العمل في ما قال مسؤولو المخابرات الإسرائيلية عنه إنه برنامج سري لبناء رأس حربي نووي، بما في ذلك التغلب على التحديات التقنية الجوهرية المتمثلة في صناعة رأس صغير بما يكفي ليتناسب مع طرف أحد صواريخ إيران البعيدة المدى.

كما قتل عملاء إسرائيليون الجنرال الإيراني المسؤول عن تطوير الصواريخ و16 من أعضاء فريقه. لكن الرجل الذي قالت إسرائيل إنه يقود برنامج تصنيع القنبلة النووية كان هدفًا بعيد المنال. وفي عام 2009، كان هناك فريق اغتيال ينتظر فخري زاده في موقع اغتيال مخطط له في طهران، لكن العملية أُلغيت في اللحظة الأخيرة، حيث اشتبه الموساد في أن المؤامرة قد اختُرِقت وأن إيران نصبت كمينًا.

ولكن في هذه المرة كانوا في طريقهم لتجربة شيء جديد.

كان عملاء إيرانيون يعملون لصالح الموساد قد أوقفوا شاحنة نصف نقل زرقاء من طراز «نيسان زامياد» على جانب الطريق الذي يربط أبسارد بالطريق السريع الرئيس. وكانت هذه المنطقة على الطريق واقعة على ارتفاع طفيف بحيث يمكن لأي شخص أن يرى السيارات القادمة من موقِعه. وكان القماش المشمع ومواد البناء التي وُضِعت في صندوق الشاحنة على سبيل التمويه يُخفي تحته مدفعَ رشاشٍ قناصًا عيار 7.62 ملم.

وفي تمام الساعة الواحدة ظهرًا تقريبًا، تلقى فريق الاغتيال إشارة بأن فخري زاده وزوجته وفريقًا من الحراس المسلحين في سيارات مرافقة كانوا على وشك المغادرة إلى أبسارد، حيث يمتلك عديد من النخبة الإيرانية منازل وفيلات لقضاء العطلات.

واتَّخذ القاتل، وهو قنَّاص ماهر، موقعه، وضبط جهاز التصويب في البندقية، وأعدَّ السلاح ووضع إصبعه السبَّابة على الزناد برفق. غير أن القنَّاص لم يكن قريبًا بأي حال من أبسارد. وكان ينظر إلى شاشة الكمبيوتر في مكانٍ غير معلوم على بعد آلاف الأميال. وأعطى أوامره من خلال الكمبيوتر ونُفِّذت عملية الاغتيال، وكان فريق الاغتيال بأكمله قد غادر إيران بالفعل بعد انتهاء العملية.

تقارير القتل

كانت التقارير الإخبارية الواردة من إيران بعد ظهر ذلك اليوم مربِكة ومتناقضة وخاطئة في الغالب. وذكر أحد التقارير أن فريقًا من القتلة انتظروا على طول الطريق حتى يمر فخري زاده بسيارته. وقال آخر إن السكان سمعوا انفجارًا كبيرًا أعقبته نيران مدفع رشاش. وقال ثالث إن شاحنة انفجرت أمام سيارة فخري زاده، ثم قفز خمسة أو ستة مسلحين من سيارة قريبة وفتحوا النار عليه. وأفادت قناة على وسائل التواصل الاجتماعي تابعة للحرس الثوري الإسلامي عن معركة مكثفة بالأسلحة النارية بين حراس فخري زاده وما يصل إلى 12 مهاجمًا. وقال شهود عيان إن عدة أشخاص قتلوا.

وظهرت واحدة من أكثر الروايات بُعْدًا عن الاحتمال بعد مرور أيام قليلة.

وأفادت عدة وكالات إخبارية إيرانية أن القاتل كان روبوتًا قاتلًا، وأن العملية برمتها جرت عن طريق التحكم عن بُعد. وتناقضت هذه التقارير مباشرةً مع روايات شهود العيان المزعومة عن معركة بالأسلحة النارية بين فريق القتلة والحراس الشخصيين والتقارير بأن بعض القتلة اعتُقلوا أو قُتلوا. 

وسخر الإيرانيون من القصة بوصفها محاولة واضحة لتقليل الإحراج الذي يمكن أن تشعر به قوات أمن النخبة التي فشلت في حماية أحد أكثر الشخصيات الخاضعة لحراسة مشددة في البلاد. وقال أحد حسابات وسائل التواصل الاجتماعي المتشددة: «لماذا لا تقولون فحسب إن شركة تسلا صنعت سيارة نيسان، وتحركت السيارة من نفسها، ووقفت من تلقاء نفسها، وأطلقت النار وانفجرت من تلقاء نفسها؟».

يقول توماس ويثينجتون، محلل الحرب الإلكترونية، لـ«بي بي سي» إن نظرية الروبوت القاتل يجب أن تؤخذ في الاعتبار مع «قليل من التحفظ»، وأن وصف إيران يبدو أنه ليس أكثر من مجرد مجموعة من «الكلمات الطنانة الرائعة». وباستثناء هذه المرة كان هناك بالفعل روبوت قاتل.

وتستند القصة التي تشبه قصص الخيال العلمي لما حدث بالفعل بعد ظهر ذلك اليوم والأحداث التي سبقته، والتي تُنشر هنا لأول مرة، إلى مقابلات مع مسؤولين أمريكيين وإسرائيليين وإيرانيين، بمن فيهم مسؤولان استخباراتيان مطلعان على تفاصيل التخطيط للعملية وتنفيذها، وتصريحات عائلة فخري زاده لوسائل الإعلام الإيرانية.

كان نجاح العملية نتيجة لعديد من العوامل: الإخفاقات الأمنية الخطيرة من جانب الحرس الثوري الإيراني، والتخطيط المكثف والمراقبة من قبل الموساد، واللامبالاة التي تقترب من الاستسلام الكامل للقدر من جانب فخري زاده. لكنها كانت أيضًا الاختبار الأول لقناص آلي عالي التقنية مزود بذكاء اصطناعي وعيون متعددة الكاميرات، ويعمل عبر الأقمار الصناعية وقادر على إطلاق 600 طلقة في الدقيقة.

ينضم الآن المدفع الرشاش المعزز بآلية التحكم عن بُعد إلى الطائرة القتالية المسيَّرة في ترسانة الأسلحة العالية التقنية لتنفيذ القتل المستهدف عن بُعد. ولكن على عكس الطائرات المسيَّرة، فإن المدفع الرشاش الآلي لا يلفت الانتباه في السماء، حيث يمكن إسقاط طائرة مسيَّرة، ويمكن وضعه في أي مكان، وهي سِمات من المحتمل أن تعيد تشكيل عالم الأمن والتجسس.

«تذكَّروا هذا الاسم»

بدأت الاستعدادات للاغتيال بعد سلسلة من الاجتماعات في نهاية عام 2019 ومطلع عام 2020 بين مسؤولين إسرائيليين، بقيادة مدير الموساد، يوسي كوهين، ومسؤولين أمريكيين رفيعي المستوى، بمن فيهم الرئيس دونالد ترامب، ووزير الخارجية مايك بومبيو، ومديرة وكالة المخابرات المركزية جينا هاسبيل.

وكانت إسرائيل قد أوقفت حملة التخريب والاغتيال في عام 2012، عندما بدأت الولايات المتحدة مفاوضات مع إيران أدَّت إلى الاتفاق النووي لعام 2015. والآن بعد أن ألغى ترامب هذا الاتفاق، أراد الإسرائيليون استئناف الحملة لمحاولة إحباط التقدم النووي الإيراني وإجبار طهران على قبول قيود صارمة على برنامجها النووي.

وفي أواخر فبراير (شباط)، قدَّم كوهين للأمريكيين قائمة بالعمليات المحتملة، ومن بينها مقتل فخري زاده. وكان فخري زاده على رأس قائمة المطلوبين لإسرائيل منذ عام 2007، ولم يغفله الموساد على الإطلاق.

وفي عام 2018، عقد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، مؤتمرًا صحفيًّا لعرض الوثائق التي سرقها الموساد من الأرشيف النووي الإيراني. وجادل بأن الوثائق تثبت أن إيران ما زالت تمتلك برنامجًا نشطًا للأسلحة النووية، وذكر فخري زاده بالاسم عدة مرات. وقال: «تذكروا هذا الاسم… فخري زاده».

وحظيت خطة الاغتيال بموافقة المسؤولين الأمريكيين الذين اطَّلعوا عليها في واشنطن، بحسب مسؤول حضر الاجتماع. لقد شجَّع كلا البلدين رد إيران الفاتر نسبيًّا على الاغتيال الأمريكي للواء قاسم سليماني، القائد العسكري الإيراني الذي قُتِل في غارة أمريكية بطائرة مسيَّرة بمساعدة المخابرات الإسرائيلية في يناير (كانون الثاني) 2020. وإذا كانوا قد تمكنوا من قتل القائد العسكري الإيراني الأعلى دون رد فعل سلبي كبير، فهذا يعني أن إيران إما غير قادرة وإما مترددة في الرد بقوة أكبر على ما حدث.

ومَضَت عملية مراقبة فخري زاده بوتيرة وسرعة كبيرتين. ومع تدفق المعلومات الاستخباراتية، برزت صعوبة التحدي: لقد تعلمت إيران أيضًا دروسًا من مقتل سليماني، بمعنى أنه يمكن استهداف كبار مسؤوليها. وإدراكًا منهم أن فخري زاده كان على رأس قائمة المطلوبين في إسرائيل، كثَّف المسؤولون الإيرانيون إجراءات تأمينه.

وينتمي أفراد فريقه الأمني إلى وحدة أنصار النخبوية في الحرس الثوري، المدججين بالسلاح والمدربين تدريبًا جيدًا، والذين يتواصلون عبر قنوات مشفرة. ورافقوا تحركات فخري زاده في قوافل من أربع إلى سبع مركبات، وغيَّروا الطرق والتوقيت لإحباط أي هجمات محتملة. وتغيَّرت السيارة التي كان يقودها بنفسه من أربع إلى خمس مرات.

واستخدمت إسرائيل أساليب متنوعة في الاغتيالات السابقة. واغتِيل أول عالم نووي على القائمة بالسُّم في عام 2007. وقُتل الثاني، في عام 2010، بقنبلة انفجرت عن بعد مثبتة على دراجة نارية، لكن التخطيط كان معقدًا تعقيدًا مؤلمًا، وألقي القبض على مشتبه إيراني. واعترف وأُعدِم.

وبعد تلك المعضلة، تحول الموساد إلى عمليات قتل شخصية أبسط. وفي كل من الاغتيالات الأربعة التي وقعت بعد ذلك، من 2010 إلى 2012، كان القتلة يركبون دراجات نارية ويقتربون من سيارة الهدف في حركة المرور بطهران ويطلقون النار عليه عبر النافذة أو يضعون قنبلة لاصقة على باب السيارة، ثم ينطلقون بسرعة. لكن القافلة المسلَّحة التي كانت تحيط بفخري زاده، والتي كانت ترصد مثل هذه الهجمات، جعلت أسلوب الدراجة النارية مستحيلًا. وفكر المخططون في تفجير عبوة ناسفة في طريق فخري زاده، مما يجبر القافلة على التوقف حتى يمكن للقناصة مهاجمتها. ولكن تأجلت هذه الخطة بسبب احتمال وقوع معركة مسلحة على غرار معارك العصابات تخلَّف كثيرًا من الضحايا، بحسب تحقيق الصحيفة الأمريكية.

وأضاف التحقيق أنه طُرِح اقتراح استخدام مدفع رشاش مثبت مسبقًا يجري التحكم فيه عن بُعد، ولكن كانت هناك مجموعة من التعقيدات اللوجستية واحتمالات فشل لا تعد ولا تحصى. وكانت المدافع الرشاشة التي يجري التحكم فيها عن بُعد موجودة ومتوفرة لدى عديد من الجيوش، لكن حجمها ووزنها جعل نقلها وإخفاءَها أمرًا صعبًا، ولم تستخدم إلا ومشغِّليها في مكان قريب.

وكان الوقت ينفد.

وبحلول الصيف، بدا الأمر كما لو أن ترامب، الذي كانت تتطابق وجهة نظره مع نتنياهو بشأن إيران، قد يخسر الانتخابات الأمريكية. ووعدَ خليفته المحتمل، جو بايدن، بتغيير سياسات ترامب والعودة إلى الاتفاق النووي لعام 2015 الذي عارضته إسرائيل بشدة.

وإذا كانت إسرائيل ستقتل مسؤولًا إيرانيًّا كبيرًا، وهو عمل يحتمل أن يشعل حربًا، فإنها بحاجة إلى موافقة الولايات المتحدة وحمايتها. وهذا يعني أنه يجب التصرف قبل أن يتولى بايدن منصبه. وفي أفضل سيناريو لنتنياهو، من شأن الاغتيال أن يعرقل أي فرصة لإحياء الاتفاق النووي حتى لو فاز بايدن.

العلماء

يُشير التحقيق إلى أن فخري زاده نشأ في عائلة محافظة في مدينة قُم الإيرانية المقدسة عند الشيعة. وكان زاده يبلغ من العمر 18 عامًا عندما أطاحت الثورة الإسلامية بالنظام الملكي في إيران، فكانت ذات أهمية تاريخية وأطلقت مخيلته. وشرع في تحقيق بعض أحلامه: أن يصبح عالمًا نوويًّا وأن ينضم إلى الجناح العسكري للحكومة الجديدة. والتحق زاده بالحرس الثوري وترقى حتى وصل إلى رتبة لواء. كما حصل على درجة الدكتوراة في الفيزياء النووية من جامعة أصفهان للتكنولوجيا برسالة بعنوان: «تحديد النيوترونات».

وأشرف زاده على البرنامج الإيراني لتطوير الصواريخ ولعب دورًا رائدًا في البرنامج النووي. وبحسب مسئولين إيرانيين، لعب زاده دورًا محوريًّا في تطوير الطائرات من دون طيار، وسافر إلى كوريا الشمالية لتوحيد الجهود في مجال تطوير الصواريخ. وعندما وافته المنية كان نائبًا لوزير الدفاع.

يقول قيس قريشي، مستشار وزارة الخارجية الإيرانية للشؤون العربية، إن: «شخصية فخري زاده في مجال الأسلحة النووية وتكنولوجيا النانو والحرب الكيميائية الحيوية، وضعته على قدم المساواة مع قاسم سليماني، ولكن بطريقة سرية تمامًا». وعندما احتاجت إيران إلى معدات أو تقنية حساسة كانت محظورة بموجب العقوبات الدولية، استطاع زاده الحصول عليها بطرقه الخاصة.

وأضاف قريشي أن: «زاده أسس شبكة سرية تمتد من أمريكا اللاتينية إلى كوريا الشمالية وأوروبا الشرقية للعثور على الأجزاء التي تحتاجها إيران في برنامجها النووي». وكان مهووسًا بالعمل ولم يكن يتمتع بروح الدعابة، أو كان يحصل على إجازة راحة إلا نادرًا، وتجنب الظهور في وسائل الإعلام.

جهود زاده في التطوير النووي

يُنوه التحقيق إلى أن سيرة زاده المهنية ربما كانت لغزًا حتى لأولاده. إذ قال أولاده في مقابلة تلفزيونية إنهم حاولوا معرفة طبيعة عمل والدهم بناءً على تعليقاته المتفرقة، وخمَّنوا أنه يعمل في مجال إنتاج الأدوية الطبية. وعندما حاول المفتشون النوويون الدوليون الاتصال بزاده، قيل لهم إنه غير متاح، وأن مختبراته محظور الوصول إليها. وبسبب القلق من المماطلة الإيرانية، جمَّد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أصول فخري زاده باعتبار ذلك جزءًا من حزمة العقوبات المفروضة على إيران في عام 2006.

وعلى الرغم من أنه كان يُعد مؤسِّسًا للبرنامج النووي الإيراني، فإنه لم يحضر محادثات الاتفاق النووي لعام 2015. وكانت مسيرة فخري زاده المهنية التي كانت تعد ثقبًا أسودَ هي السبب الرئيس في أنه حتى عندما أُبرِم الاتفاق النووي، ظلت التساؤلات قائمة بشأن امتلاك إيران برنامجًا للأسلحة النووية، وإلى أي مدى وصل هذا البرنامج.

وأصرت إيران إصرارًا لا يتزعزع على أن برنامجها النووي يُستخدَم لأغراض سلمية بحتة، وأنها لا تنوي استخدامه في تطوير قنبلة. بل إن آية الله خامنئي أصدر فتوى أعلن فيها أن مثل هذا السلاح يخالف الشريعة الإسلامية.

بيد أن المحققين في الوكالة الدولية للطاقة الذرية خلصوا في عام 2011 إلى أن إيران «نفذت أنشطة ذات صلة بتطوير جهاز تفجير نووي». وأضافوا أنه بينما فكَّكت إيران جهودها المكثفة في برنامج تصنيع قنبلة في عام 2003، استمر العمل بصورة كبيرة في هذا المشروع. وأفاد الموساد بأن برنامج تصنيع القنابل النووية فكَّكته إيران ببساطة وتناثرت مكوناته بين البرامج الأخرى والهيئات المختلفة، وكان ذلك كله تحت إشراف فخري زاده.

وفي عام 2008، عندما زار الرئيس الأمريكي، جورج دبليو بوش، القدس، أسمعه رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت تسجيلًا لمحادثة قال مسؤولون إسرائيليون إنها بين رجل يدعى فخري زاده وزميل له. وذكر ثلاثة أشخاص قالوا إنهم سمعوا التسجيل، أن فخري زاده تحدث صراحةً عن جهوده المستمرة لتطوير رأس حربي نووي. لكن الناطق باسم بوش لم يرد على الطلب للتعليق على الأمر. ولم تستطع صحيفة «نيويورك تايمز» إثبات وجود التسجيل أو محتوياته بصورة مستقلة.

برمجة عملية الاغتيال

يؤكد التقرير أن الروبوت القاتل غيَّر حسابات الموساد بقوة؛ لأن المنظمة الإسرائيلية لديها قاعدة تطبقها منذ سنين عديدة مفادها أنه إذا لم يكن هناك إمكانية للإنقاذ، فلا داعي لتنفيذ العملية، مما يعني ضرورة وجود خطة مضمونة لإنقاذ المشاركين في العملية. لكن عدم مشاركة عملاء للموساد في هذه الساحة يقلب المعادلة لصالح تنفيذ العملية. لكن الرشاش المحوسب الضخم غير المختبر ينطوي على سلسلة من المشكلات الأخرى.

أولًا: كيف وُضِع السلاح في موقعه. وبحسب مسؤول استخباراتي، اختارت إسرائيل نموذجًا خاصًّا من رشاش بلجيكي «إف إن ماج» متعدد الأغراض متصل بجهاز آلي متقدم. لكن الرشاش والروبوت ومكوناتهما وملحقاتهما مجتمعة تزن نحو طن. لذلك، قُسِّمت المعدات إلى أجزاء صغيرة وهُرِّبت إلى البلاد جزءًا جزءًا، بوسائل متنوعة وخلال أوقات مختلفة، ثم أُعيد تجميعها سرًّا في إيران.

وقد صُنِع الروبوت ليناسب صندوق شاحنة زامياد المنتشرة في إيران. ورُكِّبت كاميرات تشير في اتجاهات متعددة على الشاحنة لإعطاء غرفة القيادة صورة كاملة ليس للهدف وتفاصيله الأمنية فحسب، بل للبيئة المحيطة أيضًا. وأخيرًا، كانت الشاحنة مليئة بالمتفجرات حتى يمكن تفجيرها إلى أجزاء صغيرة بعد تنفيذ عملية الاغتيال، مما أدَّى إلى إتلاف جميع الأدلة. وكان هناك مزيد من التعقيدات في إطلاق النيران؛ إذ سيهتز الرشاش المركب على شاحنة، حتى لو كانت متوقفة، بعد ارتداد كل طلقة، مما يغير مسار الطلقة التالية.

وبالإضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من اتصال الكمبيوتر بغرفة التحكم عبر القمر الصناعي وأن البيانات تُرسَل بسرعة الضوء، سيحدث تأخير طفيف في إرسال البيانات واستجابة الأجهزة وبهذا: سيصبح ما يراه المشغِّل على الشاشة لا يصف الواقع الحالي بالفعل على أرض عملية الاغتيال، وسيستغرق تعديل الهدف لحظة أخرى، بينما كانت سيارة فخري زاده تتحرك.

الأمريكيون كانوا على علم!

وأفاد التحقيق بأن الوقت المستغرق لوصول صور الكاميرا إلى القناص واستجابته للوصول إلى الرشاش، مطروحًا منه زمن رد فعله، قُدَّر بـ1.6 ثوانٍ وهو وقتٌ كافٍ لكي يطيش الرصاص في أفضل وضعية لإطلاقه. لكن جرى برمجة الذكاء الاصطناعي للتعويض عن التأخير والاهتزاز وسرعة السيارة. أما التحدي الثاني فكان يتمثل في تحديد الوقت المناسب الذي يقود فيه فخري زاده السيارة بنفسه وليس أحد أبنائه أو زوجته أو حارسه الشخصي.

ونظرًا إلى أن إسرائيل تفتقر إلى قدرات المراقبة في إيران كتلك التي تمتلكها في أماكن أخرى مثل غزة، حيث تستخدم طائرات من دون طيار لتحديد الهدف قبل توجيه الضربة، كان الحل هو إيقاف سيارة مزيفة معطلة مرتكزة على رافعة بها عجلة مفقودة عند تقاطع على الطريق الرئيس، حيث كان على المركبات المتجهة إلى مدينة أبسارد الإيرانية الدوران، على بعد نحو ثلاثة أرباع ميل من منطقة عملية الاغتيال.

وأفاد التقرير بأن العملية بدأت فجر الجمعة، وأعطى المسؤولون الإسرائيليون الأمريكيين تنبيهات أخيرة. وكانت الشاحنة الصغيرة من طراز زامياد متوقفة على جانب شارع الإمام الخميني. ووجد المحققون في وقت لاحق أن الكاميرات الأمنية على الطريق جرى تعطيلها.

تحرك الموكب

يسرد التحقيق أنه عندما تحرك موكب زاده من مدينة رستمكلا، كانت السيارة الأولى بها عنصر أمني. وتبعتها سيارة نيسان سوداء غير مدرعة يقودها فخري زاده وبجواره زوجته صادقة قاسمي. وتبِعته سيارتان بهما عناصر أمنية. وفي ذلك اليوم، حذَّر الفريق الأمني فخري زاده من التهديد ضده وطلب منه عدم السفر، بحسب نجله حامد ومسؤولين إيرانيين. لكن زاده أخبرهم أن عليه إلقاء محاضرة جامعية في طهران في اليوم التالي ولا يمكنه إلقاؤها عن بعد.

ومن جانبه، صرَّح علي شمخاني، سكرتير مجلس الأمن القومي الإيراني، لوسائل الإعلام الإيرانية بأن وكالات الاستخبارات كانت على دراية بموقع الاغتيال المحتمل، لكنها لم تكن متأكدة من توقيت التنفيذ. وكانت إيران تعرضت بالفعل لسلسلة من الهجمات المؤثرة في الأشهر الأخيرة والتي لم تسفر عن اغتيال بعض قيادات إيران وإلحاق الضرر بالمنشآت النووية فحسب، بل كشفت بوضوح عن أن إسرائيل لديها شبكة فعَّالة من المتعاونين داخل إيران. وتزايدت الاتهامات بين السياسيين ومسؤولي الاستخبارات بعد اغتيال زاده. وألقت وكالات المخابرات المتنافسة باللوم بعضها على بعض.

وأوضح مسؤول استخباراتي إيراني سابق أنه علم أن إسرائيل اخترقت طاقم الحراسة الأمنية نفسه الخاص بفخري زاده، والذي كان على علم بتغييرات اللحظة الأخيرة في حركته والمسار والوقت. لكن شمخاني قال إن فخري زاده لم يأخذ كثيرًا من التهديدات التي تعرض لها على مر السنين على محمل الجد. ورفض ركوب سيارة مصفحة وأصر على قيادة إحدى سياراته بنفسه. وعندما كان يقود سيارته مع زوجته، كان يأمر حراسه الشخصيين بركوب سيارة منفصلة خلفه بدلًا من الركوب معه. 

ويرجح التقرير أن يكون فخري زاده وجد فكرة الاستشهاد جذابة أيضًا. إذ قال في تسجيل صوتي لموقع «مهر نيوز»: «دعوهم يقتلونني. دعوهم يقتلون بقدر ما يشاؤون، لكننا لن ننهزم. ألم يقتلوا العلماء، ونحن نتمنى أن ننال الشهادة رغم أننا لم نذهب إلى سوريا أو العراق». وحتى لو تقبَّل زاده مصيره بصدر رحب، فليس من الواضح لماذا تحرك الحرس الثوري المكلف بحمايته في ظل هذه الثغرات الأمنية الواضحة. 

عملية الاغتيال

أبرز التحقيق كيف نُفِّذت عملية الاغتيال؛ إذ وصل الموكب قبل الساعة 3:30 مساءً بقليل إلى منعطف دوران على طريق فيروزكوه. وتوقفت سيارة فخري زاده تقريبًا، وتعرف إليه تمامًا المشرفون على العملية، والذين تمكنوا أيضًا من رؤية زوجته جالسة بجانبه. وانعطف الموكب يمينًا إلى شارع الإمام الخميني، ثم اندفعت السيارة التي تقود الموكب إلى المنزل لتفتيشه قبل وصول فخري زاده.

وأدَّى ذلك إلى ترك سيارة فخري زاده مكشوفة تمامًا. وأبطأ الموكب من سرعته بسبب مطب قبل شاحنة زامياد المتوقفة خلفه مباشرةً. واجتاز كلب ضال الطريق. وأطلق الرشاش رشقة من الرصاص أصابت مقدمة السيارة. ولم يتضح هل أصابت هذه الطلقات فخري زاده أم لا، لكن سيارته انحرفت عن الطريق وتوقفت.

ومن ثم عدَّل القناص زاوية الرؤية وأطلق رشقة أخرى، فأصابت الزجاج الأمامي ثلاث مرات على الأقل وأُصِيب فخري زاده في كتفه. ونزل من السيارة وجلس القرفصاء خلف الباب الأمامي المفتوح. وبحسب وكالة أنباء فارس الإيرانية، اخترقت ثلاث رصاصات عموده الفقري، وسقط مغشيًّا عليه على الطريق. وركضت زوجته إليه فقال لها إنهم «يريدون اغتيالي، وعليك الهروب». وقالت للتلفزيون الإيراني إنها جلست على الأرض ووضعت رأسه في حجرها. 

الاستخبارات الإيرانية تكشف عن طريقة تنفيذ الاغتيال!

وبعد ذلك انفجرت شاحنة زامياد، وكان هذا هو الجزء الوحيد من العملية الذي لم يحدث وفق ما خُطِّط له. إذ كان الهدف من الانفجار تمزيق الروبوت إلى أشلاء حتى لا يتمكن الإيرانيون من معرفة ما حدث. وبدلًا من ذلك، تناثرت معظم المعدات في الهواء ثم سقطت على الأرض، وتضررت ضررًا لا يمكن إصلاحه، ولكنها كانت سليمة إلى حد كبير. 

ويختتم الكاتبان تقريرهما بتأكيد أن تقييم الحرس الثوري للاغتيال بأنه كان هجومًا نُفِّذ برشاش يجري التحكم فيه عن بُعد «والرشاش مزود بنظام ذكي متصل بالأقمار الصناعية» باستخدام الذكاء الاصطناعي كان تقييمًا سليمًا. وأشار محققون إيرانيون إلى أن زوجة زاده لم تصب بأي طلقة مع أنها كانت على مسافة قريبة منه، وهي الدقة التي نسبوها إلى استخدام برمجيات التعرف إلى الوجه.

يقول حامد نجل فخري زاده: «لم يكن هجومًا إرهابيًّا بسيطًا، كأن يأتي شخص ويُطلق النار ويهرب. لقد كان اغتياله أكثر تعقيدًا مما نعرفه ونتصوَّره. ولم يكن معروفًا للشعب الإيراني، لكنه كان معروفاً تمامًا لأعداء تقدُّم إيران».

* رونين برجمان، صحافي استقصائي ومحلل سياسي وعسكري في صحيفة «يديعوت أحرونوت» العِبرية، وفرناز فاسيهي، صحافية أمريكية إيرانية تكتب عن إيران لصحيفة «نيويورك تايمز».

نشر هذا التقرير  تحت عنوان  :  

The Scientist and the A.I.-Assisted, Remote – Control Killing Machine 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى