أقلام وأراء

تسونامي صفقة الغواصات الأميركية إلى أستراليا ..!!

هشام ملحم *- 21/9/2021

تدهورت العلاقات الأميركية- الفرنسية فجأة إلى مستويات غير معهودة عقب الإعلان الأميركي- الأسترالي- البريطاني يوم الأربعاء عن صفقة غواصات أميركية تسيرها الطاقة النووية إلى أستراليا لتعزيز دفاعاتها وقدراتها البحرية في مواجهة البحرية الصينية، وذلك بعد ساعات من إلغاء أستراليا لصفقة توصلت إليها قبل سنوات مع فرنسا لشراء 12 غواصة تستخدم طاقة المازوت بقيمة 66 مليار دولار.

ووصف بعض المحللين هذه الأزمة بين واشنطن وباريس بأنها الأسوأ منذ قرار الرئيس جورج بوش الابن غزو العراق في 2003، بينما رأى آخرون أنها الأخطر منذ أزمة قناة السويس في 1956، حين عارضت واشنطن الهجوم الثلاثي الفرنسي-البريطاني-الإسرائيلي ضد مصر.

الرد الفرنسي جاء سريعا وغاضبا، حيث استخدم المسؤولون الفرنسيون عبارات مثل “طعنة في الظهر” أو “خيانة حليف” أو قرار “مجحف” وغير مبرر في وصفهم للاتفاق الأميركي –الأسترالي.

وسارع الرئيس إيمانويل ماكرون إلى استدعاء سفيريه لدى واشنطن وكانبيرا للتشاور حول الخطوات المقبلة. ليس من الواضح في هذا الوقت المبكر معرفة أبعاد ومضاعفات هذه الأزمة بين واشنطن وباريس، وما إذا كانت أضرارها بعيدة المدى، أم أنها ستتبخر بسرعة نسبية كما حدث بعد غزو العراق.

ولكن الصدمة التي تلقتها فرنسا، وخاصة بعد أن كشفت التقارير الصحفية إلى أي مدى سعت الدول الثلاثة المعنية بالصفقة وبما يمكن اعتباره تحالفا وثيقا بين واشنطن ولندن وكانبيرا لاحتواء الصين، إلى إبقاء اتصالاتها سرية، تؤكد بشكل لا لبس فيه أن سياسة الاستدارة إلى آسيا أصبحت واقعا استراتيجيا جديدا.

وخلال الأيام التي أعقبت المفاجأة الاستراتيجية بدت الصفقة الأميركية-الأسترالية كأنها تسونامي وصلت أمواجه العاتية إلى معظم شواطئ الدول الواقعة حول حوض المحيط الهادئ.

عسكريا، الغواصات الأميركية متطورة أكثر من الغواصات الفرنسية واستخدامها للطاقة النووية يجعلها أسرع وأكثر هدوء ما يعني صعوبة اكتشافها ورصدها من قبل البحرية الصينية، كما أن الطاقة النووية تجعلها قادرة على البقاء في أعماق المحيطات لأشهر وليس فقط لأسابيع كما هو الحال في الغواصات التي تستخدم المازوت.

سياسيا، الصفقة تعني أن أستراليا اتخذت قرارا استراتيجيا لأن تصبح عضوا فعالا في تحالف دولي تقوده واشنطن لاحتواء الصين.

بدأت الولايات المتحدة خلال إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما ما عرف بسياسة التحول أو الاستدارة إلى آسيا، أي إلى المنطقة الأهم لمستقبل الولايات المتحدة اقتصاديا واستراتيجيا، التي اصبحت أيضا في السنوات والعقود الاخيرة مع الصعود الاقتصادي والاستراتيجي للصين مصدر التهديد المتنامي لمكانة أميركا في العالم.

هذا التوجه الاستراتيجي الجديد يعني تخصيص موارد اقتصادية وعسكرية جديدة واهتمام سياسي إضافي لمنطقة جغرافية واسعة تشمل دولا عديدة تقع على ضفاف المحيطين الهادئ والهندي.

هذه الاستدارة تفترض أيضا تقليص الموارد وحتى الاهتمام السياسي بالمناطق الجغرافية التي استحوذت على اهتمام وطاقات الولايات المتحدة منذ قرن تقريبا، وتحديدا القارة الأوروبية، والشرق الأوسط.

بعد الحرب العالمية الثانية بنت الولايات المتحدة نظاما أمنيا واقتصاديا جديدا في أوروبا الغربية جمعها مع هذه الدول وكندا في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) وأدى إلى تعاون اقتصادي غير مسبوق، وإلى اعتماد سياسة احتواء فعّال للاتحاد السوفياتي ساهمت في انهياره وتفككه خلال أقل من خمسين سنة.

الاهتمام الأميركي بنفط الشرق الأوسط بدأ قبل الحرب العالمية الثانية، ولكن بعد الحرب أصبح للولايات المتحدة وجود عسكري دائم في المنطقة لدعم حلفائها وضمان تدفق النفط ولردع أي محاولات من خارج أو داخل المنطقة لعرقلة أو وقف إنتاج ونقل النفط والغاز من منطقة أصبحت بعد الحرب محورية لازدهار واستقرار الاقتصاد العالمي.

نفط منطقة الخليج لا يزال مهما للاقتصاد العالمي، لكنه فقد بعض أهميته مع ازدياد إنتاج النفط في مناطق أخرى من العالم، وبعد أن تحولت الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة إلى أكبر منتج للنفط والغاز في العالم.

الاستدارة إلى آسيا ساهمت في قرار الرئيس أوباما بالانسحاب من العراق، (قبل أن يرغمه تنظيم داعش على العودة إلى العراق عسكريا) وعدم تدخله عسكريا في سوريا ضد نظام الأسد، وتفسر أيضا رغبته بالانسحاب من أفغانستان، وهو هدف لم ينجح في تحقيقه.

الرئيس السابق ترامب توصل إلى اتفاق أولي مع حركة طالبان للانسحاب من أفغانستان، وقرر سحب القوات الأميركية الخاصة من الصومال وكان يرغب بسحب القوات من العراق وسوريا لو لم يواجه معارضة قوية من وزارة الدفاع. الرئيس بايدن وسلفه ترامب يختلفان حول معظم القضايا الداخلية والخارجية، لكنهما يلتقيان على اعتبار الصين الخطر العالمي الذي يتطلب اهتماما أميركيا مماثلا للاهتمام الذي أبدته الحكومات الأميركية المتعاقبة بردع الخطر السوفياتي خلال الحرب الباردة.

أن تجازف إدارة الرئيس بايدن، وهو الذي دعا خلال حملته الانتخابية، ومنذ وصوله إلى البيت الأبيض إلى تحسين وتعزيز العلاقات الأميركية-الأوروبية، بتأزيم العلاقات مع فرنسا، وهي أقدم حليف لأميركا، من أجل تعزيز سياسة الاستدارة إلى آسيا وتقوية إجراءات احتواء الصين، فهذا يؤكد بشكل واضح، وحتى نافر، إلى أي مدى أصبح ردع الصين هاجسا أميركيا.

معظم العقوبات الاقتصادية التي فرضها ترامب، أبقاها بايدن، لا بل زاد عليها عقوبات طالت شخصيات صينية مسؤولة عن قمع واضطهاد المسلمين الصينيين.

الخلافات بين البلدين تغطي طيفا واسعا يشمل قضايا سياسية مثل الخلاف القوي حول مستقبل تايوان، وانتهاك حقوق الإنسان داخل الصين وفي هونغ كونغ، والعدوانية الصينية التي تطال جزر وأراض متنازع عليها مع حلفاء واشنطن في المنطقة واستخدام الأساطيل الصينية لترهيب هؤلاء الحلفاء، إضافة إلى الخلافات حول الملكية الفكرية وسرقة التقنيات الأميركية والتنافس التقني بين الدولتين، والاختراقات الإلكترونية الصينية للشركات الأميركية.

التنافس بين أول وثاني اقتصاد في العالم مرشح للتفاقم أكثر، لأن الصين تريد أن يصبح اقتصادها الاقتصاد الأول في العالم خلال العقدين المقبلين.

ولا تخف إدارة بايدن رغبتها بالتصدي التقني للصين من خلال حرمانها من الوصول إلى التقنيات الأميركية الجديدة، وإقناع حلفاء واشنطن بعدم استخدام تقنيات صينية متطورة، كما أن بايدن يريد أن يتزامن هذا التصدي التقني والاقتصادي للصين، مع ردع استراتيجي يشمل ائتلافا دوليا من دول محورية حول حوضي المحيطين الهادئ والهندي.

وفي الرابع والعشرين من الشهر الجاري سوف يلتقي في واشنطن وجها لوجه قادة اليابان والهند وأستراليا مع الرئيس بايدن، لتنسيق جهودهم في هذا المضمار.

صفقة الغواصات الأميركية لأستراليا جاءت بعد أن اعربت فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية عن استيائها لأن قرار الرئيس بايدن بسحب القوات العسكرية من أفغانستان كان مفاجئا ولم تسبقه مشاورات عسكرية وسياسية مع الحلفاء الذين نشروا قواتهم في أفغانستان منذ 2001.

الصفقة، والسرية التي أحاطت بها، دفعت بالكثير من المسؤولين الأوروبيين في حلف الناتو وبالمعلقين الأوروبيين للتساؤل حول مستقبل التعاون العسكري بين الولايات المتحدة وأوروبا.

البعض، أحيا من جديد دعوة فرنسا إلى انشاء قوة عسكرية أوروبية مستقلة عن الولايات المتحدة. آخرون قالوا إن دعوة الرئيس ماكرون التي أعلن عنها قبل الصفقة الأميركية-الأسترالية بضرورة اعتماد أوروبا “استراتيجية مستقلة” في التعامل مع الصين، تكون مختلفة عن سياسة أميركا وأقل تصلبا من الاستراتيجية الأميركية، أي أن تتعاون أوروبا مع الصين في مجال مكافحة التغيير البيئي وفي التجارة، ولكن في الوقت ذاته عدم التردد في انتقاد انتهاكات الصين لحقوق الإنسان.

مثل هذه السياسة الأوروبية المستقلة تجاه الصين، لن تنجح دون دعم ألماني، وهو دعم قد لا يتحقق لأن ألمانيا تدرك أن إدارة الرئيس بايدن حين رفضت إبقاء العقوبات ضد خط أنابيب النفط الروسي الذي التف على الأراضي الأوكرانية والبولندية قد أغضبت هاتين الدولتين لإرضاء ألمانيا، ولذلك فإنها سوف تتردد في السير وراء فرنسا في سياستها تجاه الصين.

الأهمية السياسية والاستراتيجية للصفقة الأميركية-الأسترالية تفوق كثيرا أهميتها العسكرية، لأنها تؤكد أن منطقة شرق آسيا هي الآن المسرح الذي سيشهد المواجهة المتعددة الجوانب بين الولايات المتحدة والصين خلال العقود القليلة المقبلة التي يمكن أن تجعل مياه المحيط الهادئ أكثر اضطرابا.

هذه المواجهة – مثلها مثل المواجهة بين دول حلف الناتو وحلف وارسو حلال الحرب الباردة – سوف ترغم دول العالم، وخاصة الدول التي تملك موارد عسكرية واقتصادية هامة على الاختيار الصعب بين العملاقين المتمددين على جانبي المحيط الهادئ.

* هشام ملحم هو باحث غير مقيم في معهد دول الخليج العربية في واشنطن، وكاتب عمود ومحلل سياسي.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى