أقلام وأراء

بين غزة وكفرقاسم .. مواطنة ودموع وهوية …!

بقلم: جواد بولس

أثارت تصريحات القيادي، عضو الكنيست عن “الحركة الاسلامية الجنوبية” ، وليد طه، بخصوص موقف حركته ازاء حكومة اسرائيل في حالة اتخاذها قرارًا يقضي باجتياح قطاع غزة، غضبَ عدة جهات عربية وإسلامية، محلية وخارجية؛ وقد يكون أبرز وأحدّ تلك الردود هو ما جاء على لسان الناطق باسم حركة “حماس” الذي وصف، من غزة، تلك التصريحات بأنها تمثّل “سقوطًا وطنيًا وقيميًا ، وانسلاخًا عن الهوية الفلسطينية، ولا تخدم الا اهداف الاحتلال الاسرائيلي التي تعمل على تمزيق وحدة شعبنا ومكوٌناته الوطنية والنيل من صموده”.

لست بصدد الغوص بما قصده النائب وليد طه في هذه المسألة، ولا مقارعته حول مواقفه ازاء معضلات وحالات، نظرية ومفترضة، أخرى، فأنا لا أومن باهمية محاولات احراجه وزملائه، بأسئلة حول امكانيات تراجعهم المستقبلي عن دعم حكومة “بينيت – لابيد”، وفي أي شروط وأي حالات؟

إنّ اللجوء إلى التضييق عليهم بمثل هذه المسائل الافتراضية قد يحرجهم قليلًا ولمدة قصيرة، لكنه يزوّدهم، في الواقع، بمسارب للتهرّب وبهوامش للتأويل وبفرص للمضي قدمًا على طريقهم؛ ولذلك يبقى الأهم، في حالتنا السياسية التعيسة، نحن المواطنين العرب في اسرائيل، هو مواجهة برنامجهم السياسي المعلن، وخيارهم في دعم هذه الحكومة، والتصدي لنهجهم كما يمارسونه على أرض الواقع. ويكفي أن نرصد يوميًا نشاطات قادة الحركة ومؤسساتها التنظيمية في مدننا وقرانا، وأن نتابعهم وهم يتصرفون كجزء عضوي من السلطة الحاكمة في اسرائيل، وكممثلين لحكومتها، والقيّمين على تسويقها داخل المجتمع العربي وهيئاته القيادية، وفي طليعتها المجالس البلدية والمحلية، التي قام رؤساؤها، في بلدات الجنوب البعيد حتى أعالي الجليل، باستقبال نواب الحركة ووفودها، وتباحثوا معهم، كما جاء على صفحة الدكتور منصور عباس، حول سبل تقديم المساعدات الماليه لهذه البلدات وطرق التواصل المستقبلي بينهم.

لقد جوبهت بعض تصريحات ممثلي الحركة الاسلامية في الكنيست بالمعارضة وبالانتقادات الشديدة، ووصفت من قبل قادة الاحزاب والحركات والمؤسسات العربية والناشطين داخل مجتمعنا العربي بتعابير قاسية أحيانًا ؛ ورغم تلك الحملات لم تتراجع الحركة عن طريقها، بل، على العكس تمامًا، فلقد كان مجلس شورتها يعلن، في كل مرّة ترتفع فيها أصوات المنتقدين وتشتد لغتهم، عن دعمه السياسي الكامل لقائدها، الدكتور منصور عباس، وعن موافقتهم على ما يقوم به ممثلوها في الكنيست.

لم تفاجئنا الحركة الاسلامية بممارساتها الحالية ؛ فهي تتصرف وفق الصورة التي توقّعها المحلّلون والمراقبون بعيد انتهاء المعركة الانتخابية الأخيرة وشروع الدكتور منصور بتفكيك معاني الشعارات التي رفعتها الحركة كرايات عقائدية، وبدئه بتطبيقها على طريقته الذرائعية، وباسم وسطية سوّغت له الانضمام الى الحكومة رغم ما جاء في برنامجها السياسي الذي وضع بهدي “قانون القومية”، ومخططاتها للابقاء على الاحتلال والاستيطان ومحاصرة غزة.

ما أحاول قوله، في هذه العجالة، هو انني وغيري، كنا قد توقعنا، في المشهد الإسرائيلي المستجد وفي حالة التيه السياسي والهوياتي الذي تعيشه مجتمعاتنا، كيف ستتصرف الحركة الاسلامية، وأشرنا إلى مبرراتها العقائدية الجاهزة والى دوافعها السياسية والاجتماعية المعلنة؛ وكنا قد نوهنا، في نفس الوقت، بضرورة اعداد خطط سياسية لمواجهة هذه الحالة غير البسيطة والمتنامية بين فئات شعبية واسعة.

لم يكن هذا التوقع صعبًا ولا مستحيلًا لا سيما بعد أن كان واضحًا ان الحركة الاسلامية ستحصل، بالتوافق مع مخططات مستشاري الحكومة المتخصصين بأوضاع “الوسط العربي”، على كمشة من المحفزات المادية، التي من شأنها أن تثير شهية شرائح سكّانية محتاجة، وتدفع ببعض القطاعات المدنية التكنوقراطية نحو التعاون مع الحكومة ومع ممثليها، وذلك على أمل موهوم بتحسين ظروف الناس الحياتية، خاصة بعد انتشار مقولة “لقد انهكتنا السياسة العقيمة ومواقف من تاجروا فيها”، أو غيرها من المقولات والشائعات المغرضة بحق شرعية المطالبة بحقوق المواطنين ودور مؤسساتهم القيادية التاريخية التقليدية ومن يقف على رؤوسها.

حاول النواب عن القائمة المشتركة التصدّي لسياسة الحكومة تجاه الفلسطينيين وسياستها تجاهنا، نحن المواطنين العرب. وأكّدوا على أن اسناد نواب الحركة الاسلامية للحكومة من دون اي مقايضة جدّية أو اشتراطات سياسية تذكر ، سيفضي حتمًا الى ترسيخ تبعات “قانون القومية” وإلى إحكام سياسة الابرتهايد ضدنا، حيث سنمضي معها، كما مضى “طرفة بن العبد”، وهو يحمل “صحيفة المتلمس”.

كم قلنا إن ما يقوم به نواب المشتركة، أو على الأصح ما لا يقومون به، لا ولن يكفي في مواجهة الحالة التي افرزت تنظيمًا محكمًا كالحركة الاسلامية، وزوّدته بشعبية وازنة وبقوة تأثير لافتة ؛ فمن غير استحداث بنى حزبية منظمة ومهيئة لاجتراح سياسات جديدة وصحيحة وواضحة وقادرة على اختراق حالة العزوف الشعبي المهيمنة، ستبقى المقولات التضليلية سيدة الفضاءات “المحافظة” وملاجيء سهلة للنفوس العاجزة.

ومن المفيد أن نتذكر أن الحركة الاسلامية استغلت الالتباس الذي خلّفه الغموض في مكنونات وحدود فكرة الدمج بين استحقاقات الوطن وضرورات المواطنة؛ فحين وقعت هذه الفكرة فريسة بين من نادى بها بخجل وبتأتأة من جهة، وبين من هاجموها بصرامة من جهة ثانية، لم يدافع عنها، بجرأة سياسية وبحسم موضوعي، المؤمنون بصحتها، بل عاملوها بتردد وبضبابية خلقت كثيرًا من البلبلة والتخبط، وسمحت للكثيرين، ومنهم للحركة الاسلامية، تطويع مسألة المواطنة وتطبيقها بشكل منقوص ومشوّه الى حد الارتماء أمام عتبات السلطان وتوسل الصدقات من بابه!

لم تكن مسألة المواطنة هي الوحيدة التي اهملت القائمة المشتركة مواجهتها وتشخيصها بحكمة وبجرأة وبمسؤولية؛ ويكفي ان نعود الى رزمة التساؤلات التي أنكشفت في اعقاب هروب الاسرى الفلسطينيين من سجن “جلبوع” وما أثارته من نقاشات حول طبيعة علاقتنا كمواطنين مع اسرائيل ومع ابناء”الحركة الاسيرة الفلسطينية”، وكيف يحب أن نقيم التوازن السليم والمقبول بين شقي المعادلة التي نحيا في ظلها، كفلسطينيين في وطننا ومواطنين في دولتنا.

لم تكن هذه الاشكالات في الماضي القريب جائزة وشائعة كما هي عليه اليوم؛ فقادة الماضي، سواء في منظمة التحرير الفلسطينية أو في الداخل، فرضوا حالة من الوضوح السياسي والتوافق حول كيفية ضمان التكامل النضالي بين جميع فئات الشعب وحسب أماكن تواجده، فأمنوا، بسبب ذلك، الوقوع في الحفر السياسية وناضلوا ، كل من موقعه، في سبيل الوطن ومن أجل مواطنة كاملة كريمة ومتساوية. ولكن عندما ترهّلت الاطر القيادية وضعف قادتها، اختلفت الموازين وسادت فوضى الشعارات وتخلخل معنى الالتزام، حتى وصلنا الى حالة نقرأ فيها بيانًا لحركة “حماس” وهي تحيي فيه “جماهير شعبنا الفلسطيني في مدن الداخل المحتل الذين انتصروا للقدس والأسرى ولا يزالون متمسكين بأرضهم وهويتهم الوطنية ويرفضون سياسة الاحتلال العنصرية وهمجيته بحق شعبنا ومقدساته..” ثم ينهونه بدعوة مباشرة وصريحة “الى جماهير شعبنا في الداخل وقواه الحية واحزابه المختلفة الى ادانة هذا الموقف اللاوطني ، والذي لا يمثل الا وليد طه”. فهل فقدنا، نحن المواطنين العرب في اسرائيل، يواطرنا، وصرنا جماهيرًا مناصرة أو جنودًا لدى “حركة حماس” أو لدى غيرها من الفصائل الفلسطينية الأخرى؟؟

وأخيرًا، لا أعرف مدى تأثير تصريحات النائب وليد طه عندما سئل عن موقفه في حالة اجتياح اسرائيل لغزة، ولا تأثير تصريحات النائب منصور عباس بخصوص الاسرى الفلسطينيين أو غيرها من التصريحات الخلافية، على شعبية الحركة الاسلامية بين المواطنين العرب في اسرائيل؛ فهذه النتيجة ستبينها نتائج المعركة الانتخابية القادمة والفاصلة ليس بحق نهج النائب منصور واخوانه وحسب، إنما بحق القائمة المشتركة وجميع مركباتها؛ فهنالك من يجزم باستحالة عبور جميع مركبات القائمة لعتبة الحسم اذا خاضوا المعركة وهم منفصلين وهنالك من يعتقد انهم لن يعبروها حتى اذا خاضوها مجتمعين اذا بقي أداؤهم على ما هو عليه في هذه الأيام. وإلى أن نتبين ذلك علنا نصحح ما جاء في بيان حركة “حماس”، فالنائب وليد طه لا يمثل فقط نفسه، كما جاء في البيان، بل يمثل حركة اسلامية وليدة فكر اسلامي قديم ومعروف، وتحظى بشعبية لافتة وبأربعة مقاعد في البرلمان الاسرائيلي وشراكة مع حكومة الاحتلال وتأثير لا يستهان به.

أما بخصوص مواقفنا الوطنية واللاوطنية، فهذه قضية لم نتفق عليها في مطارحنا، كما ترون، ولن نتفق عليها، كما يبدو؛ ألم تعرفوا ان بين كفرقاسم وغزة، دمعة حرّى وهوية زرقاء ونداءات وطن ؟ فارجوكم أتركونا كي نقتلع أشواكنا بأيادينا؛ ولغزة منا الحرية والحياة والسلام .

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى