ترجمات أجنبية

بلومبرغ: سيكون من الصعب على بوتين وقف هجرة العقول من روسيا

بلومبرغ ١٠-٣-٢٠٢٢م – بقلم ستيفن ميهم

مع تفاقم الوضع الداخلي في روسيا بسبب الإجراءات الصارمة التي يتخذها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الصعيد المحلي فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا، وأيضا مع تدهور الوضع الاقتصادي جراء العقوبات الغربية المشددة المفروضة على موسكو، يلجأ الكثير من الشباب الروسي إلى مغادرة بلادهم، وأبرزهم من الكفاءات وهو ما يلقي بظلال قاتمة على مستقبل البلاد.

بينما كان الرئيس بوتين يطلق معركته لاستعادة المجد السابق لروسيا من خلال تدمير أوكرانيا، بدأ شيء على نفس القدر من الأهمية لمستقبل بلاده يتكشف في الداخل. فقد ألمح أكثر الأصول الروسية قيمة -شبابها- إلى رغبتهم في الرحيل عن البلاد.

وأظهر استطلاع للرأي أجري قبل الغزو الذي بدأ يوم 24 شباط/فبراير، أن 43% من الروس بين سن 18 عاما و24 عاما أعربوا عن رغبتهم في مغادرة البلاد للأبد. ومن بين هؤلاء، ذكر 44% أن الوضع الاقتصادي هو السبب الرئيسي للمغادرة. ومن المؤكد أن هذه المشاعر ستتزايد بسبب تأثير العقوبات الدولية ضد روسيا وعمليات القمع في الداخل.

ومع تفكير عدد متزايد من المواطنين الروس في مغادرة بلادهم، سيواجه بوتين مأزقا يشبه أسلافه الشيوعيين وغيرهم من الحكام المستبدين. وتشهد الصين فرار المتخصصين في المجال المالي من هونج كونج بسبب قمعها، وهو تذكير بأن قمع المواطنين شيء ومنعهم من مغادرة البلاد شيء آخر. وهذا تحد سيجد بوتين صعوبة في الفوز به.

لفهم السبب، يتعين التفكير فيما حدث في شرق أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. فعندما بدأ الاتحاد السوفيتي تعزيز نطاق نفوذه على ما سيصبح قريبا الكتلة الشرقية، فرت موجة أولى من المهاجرين من الدول الشيوعية الجديدة إلى الغرب، سعيا للجوء في الديمقراطيات في أوروبا وفي الولايات المتحدة.

وشملت طليعة هذه الهجرة الجماعية، أكثر الأشخاص نجاحا في البلاد. في بولندا على سبيل المثال، وصف أحد المؤرخين الموجة الأولى بأنها تشمل “نخبا سياسية سابقة وملاك أراض أثرياء ورجال أعمال محترفين، رأوا آفاقا مستقبلية قاتمة في الدولة التي يهيمن عليها الشيوعيون”.

وحدث شيء مشابه في ألمانيا.. فقد أشار مقال نشر في مجلة “دير شبيجل” في ألمانيا الغربية إلى أن الموجة الأولى خلال الفترة من 1945 وحتى 1947 شملت “في الأغلب ملاك شركات كبيرة ومصانع، تمت الإطاحة بهم خلال إعادة التنظيم السوفيتية”. ومع تعزيز الشيوعيين سيطرتهم على ألمانيا الشرقية، فر الأطباء والصيادلة أيضا. وأشارت المجلة إلى أنه بنهاية عام 1952، كانت قد بدأت “الهجرة الجماعية للفلاحين”. وفي مرحلة معينة، أدركت الدول التابعة للاتحاد السوفيتي أن هؤلاء الهاربين يثيرون الشكوك في مزاعم أن الكتلة الشرقية هي جنة اشتراكية. وتعاملت السلطات مع هذا الأمر بالطريقة الوحيدة التي تعرفها، وهي احتجاز مواطنيها خلف ستار حديدي.

وقد أخذ القمع عدة صور: توقيع عقوبات وحشية على أي شخص يتم ضبطه أثناء الفرار وفرض قيود على السفر الداخلي لإبعاد المواطنين عن الحدود مع الغرب وإقامة نقاط تفتيش عند المعابر غير المؤمنة واتخاذ إجراءات أكثر صرامة. فقد أنشأت المجر، على سبيل المثال، منطقة محظورة عرضها 30 كيلومترا على حدودها الغربية. وقد حقق القمع الهدف منه لكنه كان كارثة من جوانب أخرى، نظرا لأن مشهد الكتلة الشرقية وهي تحول مجتمعاتها إلى سجون شاسعة على مستوى البلاد ككل، لم يكن استراتيجية انتصار في معركة الأفكار العالمية.

الغرب فهم هذا بالطبع، وقام باستغلاله. فمنذ عام 1952، أنشأت إدارة الرئيس هاري ترومان برنامج الهاربين للولايات المتحدة الذي استهدف المنشقين البارزين، وقدم إغراءات للمفكرين والعلماء وغيرهم للفرار من الاتحاد السوفيتي والدول التابعة له.

وكما أشار أحد مؤرخي هذا البرنامج، فإن مصطلح “الهاربين”، بشكل متعمد، “أشار إلى منطقة النفوذ السوفيتي، كسجن واسع، محاط بأسلاك شائكة وأبراج مراقبة وحراس يحملون أسلحة آلية. وقد ساعدت الثقافة الأمريكية الشعبية في ترسيخ هذا التصور حول العالم.

ومع ذلك، ظلت بوابة واحدة مفتوحة، وهي برلين. فقد كان الوضع الشاذ للمدينة في الحرب الباردة -حتى بعد فشل محاولة الزعيم السوفيتي نيكيتا خروشوف لتجويع المدينة لكي تستسلم- يعني أنه يمكن لسكان ألمانيا الشرقية العبور إلى النصف الغربي دون العودة مطلقا. وقد فعلوا ذلك بالفعل. وخلال الفترة بين عامي 1949 و1961، تشير التقديرات إلى أن أكثر من 5ر3 مليون من سكان ألمانيا الشرقية، نحو 20% من السكان، فروا إلى الغرب. وكان هؤلاء الأشخاص هم الأكثر ذكاء والأفضل تعليما والأصغر سنا في المجتمع الألماني الشرقي. وكان أكثر من 75 % من هؤلاء الذين غادروا أقل من 40 عاما.

ولم يتسبب تدفق رأس المال البشري في إنهاء الفزع في ألمانيا الشرقية، التي أعلنت في نهاية الأمر أن عمليات الرحيل تعد جريمة أو “فرارا من الجمهورية”. ووصفت السلطات مثل هذا السلوك بأنه “عمل ينم عن التخلف والانحراف السياسي والأخلاقي”. إلا أن العديد من الألمان الشرقيين لم يتلقوا الملاحظة.

ومع خسارة ألمانيا الشرقية لأفضل وألمع أبنائها، حصلت الحكومة في نهاية الأمر على تصريح من موسكو لبناء جدارها سيئ السمعة، حيث أغلقت ثغرة الهجرة في برلين وأوقفت الهجرة الجماعية، إلا أن الضرر كان قد حدث بالفعل.

ربما يواجه بوتين قريبا مأزقا مشابها. وإذا قرر الشباب الأصغر والأكثر إقداما في روسيا على المغادرة، فإنه سيجلس مكتوف الأيدي وهم يأخذون مستقبل روسيا معهم. أو يمكنه تحويل بلاده إلى سجن ضخم، ليعيد النموذج السوفيتي الذي يعتمد على مراقبة الحدود، وفي أي من الحالتين، فإن بوتين وروسيا سيخسران.

* ستيفن ميهم، أستاذ التاريخ بجامعة جورجيا الأمريكية،

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى