بكر أبو بكر: غزة تغرق!
بكر أبو بكر 15-12-2025: غزة تغرق!
فعليًا فإن غزة تغرق! وهذا ليس تضخيمًا أو تهويلًا أو تكبيرًا لحجم المأساة والمقتلة والنكبة الثانية التي ابتدأت من الهجوم الصهيوني البربري يوم 17/10/2023 بمذبحة المعمداني بهذا التاريخ الثقيل، وصولًا للإبادة الجماعية المتواصلة، رغم خطة “ترمب” العشرينية.
غزة تغرق عمليًا، وليس بصيغة رمزية فهي في بحر الذين قضوا تتألم، وهم يزدادون يوميًا ما بين شهيد انتقل الى رحمة الله، وبين شهيد حيّ يدعو ويعمل ويناجي ربّه، ويدعو على الاحتلال وأذنابه الذين أوصلوه لهذا الدرك الأسفل من المأساة الانسانية العظمى.
غزة تغرق وتموت ببطء ولا تجد من أصحاب اليد الطولى بالعالم ذرّة إحساس، وهو شيء متوقع فهم ما كانوا ليحسّوا بالجرائم والمقتلات والمذابح والضحايا بالملايين التي أوقعوها في العراق أو أفغانستان أوليبيا أو السودان أوغيرها من دول العالم! فهل لهم أن يذرفوا قليلًا من الدمع علينا اليوم!
أنهم المنتفخون بكبريائهم كما كِبْر المسيطرون على أعناق الناس يتحججون بترّهات لا قيمة لها، ويعطون الذريعة للإسرائيلي القاتل ليواصل العذاب والنكبة والمقتلة اليومية بلا نهاية.
غزة تغرق في مناكفات سياسية ما بين الذين وقّعوا على خطة ترَمب البائسة، محاولين تلمّس الخروج الآمن من بوابة الإبهام والغموض والشخصية المتقلبة للرئيس الأمريكي، ولكن هيهات هيهات وهم بتملصاتهم وانسلالهم خِلسة من بين الكلمات: ما بين الاحتلال الصهيوني وعدد من الدول، والجماعات المسيطرة على أرض غزة يجرفون شعبنا الفلسطيني في غزة بفتح خزانات الوجع والدموع والأسى اليومي، وبمياه الأمطار والفيضانات التي تدهم الخيام والمواقع الخَرِبة في كل مكان.
غزة تغرق، فلك عبر هذين العامين الأسودين (2023-2025م) أن ترى كل ما قرأته بالتاريخ من النكبة الثانية، والمذابح والمقتلة والإبادة الجماعية كما ترى التفجير والتدميرللحجر والشجر والكائنات، وترى أو رأيت على الشاشات الزرقاء إطلاق النار والتعذيب بكافة أشكاله الهمجية، التي لربما سمعت بمثلها أو قرأت عنها فيما كانت تفعله الأقوام الهمجية البربرية: كما فعل المغول الغُزاة بالبلاد التي غزوها، أو كما فعلت الفرنجة بالمسيحيين الأرثوذكس قبل وصولها الى فلسطين وبلاد المسلمين، أو كما فعلت محاكم التفتيش بالعالم الغربي المسيحي العنصري ضد المخالفين بالمذهب آنذاك، أو كما كانت تفعل قوافل المستخربين (المستعمرين) بأهل البلاد الأصليين في أفريقيا وآسيا وأمريكا لأكثر من أربعة قرون، ومازالت تحاول أبقاء ظلالها الثقيلة على شرق العالم وجنوبه للاحتفاظ بالسيطرة والهيمنة والسيادة وفي كثير من المواضع بقبول الجماهير (القابلة للاستخراب/الاستعمار) حسب مصطلح المفكر الجزائري الكبير مالك بن نبي.
غزة تغرق، بكامل أناقتها التي عُرفت بها عبر التاريخ مؤمنة مجاهدة مناضلة صابرة صامدة رغم أنف كل الطُغاة والغزاة والظَلَمة من الخارج او الداخل. غزة تغرق وهي مرتدية كامل زيها الجميل، فهي وإن كانت تغرق لفترة مهما طالت، فإن روح الإصرار والتحدي والصلابة والأنفة الماثلة في وجه العربي الفلسطيني الغزّي هي روح أصيلة لم تكن لتجد نفسها في ظل فصيل حديث ناشيء ولا فصيل قديم مبتعد، ولا في ظل أي سلطة مقيمة قسرًا على جسده سواء كانت استخرابية احتلالية عنصرية تدميرية، أو من أبناء الجلدة الذين أدمنوا اللعب على القشور، والشعارات التعيسة بعد اندحار الوسيلة، وأهملوا اللبّ والأصل، إنهم المهملون عمدًا قداسة الخدمة، أي خدمة وحماية ورفاه الشعب، رغم أن الكلمة الاخيرة أي (رفاه) لم يعد لها معنى بكل لغات العالم! في فلسطين وفي غزة!
لقد افتقد القِشْريّون فكرة الخدمة للناس، وأن الفدائي يقدم أهله وكامل الشعب عليه! لقد افتقد القِشريون أصل الاستخلاف بالأمانة المسؤولية العظمى عن الناس، وبالإعمار والتقوى، واجتناب المظالم…، فما أن افتقدوا حب الناس وتقديمهم على أنفسهم حتى تاهوا وفسدوا وفسقوا. لقد تدثّر القشريون بعديد الألحفة من الأفكار النظرية التي تجيز لهم إعدام الناس في الشوارع، وقهر عيون أولادهم وامتهان صبر أمهاتهم، بل وتجيز لهم إغراق كل من ينظر بحسرة نحو كسرة خبز، أو ليلة دافئة غير ماطرة تحفر أرض الخيمة وتجرد القليل القائم البالي
نعم غزة تغرق، ليس فقط بيد الجاني الأكبر والقاتل الأكبر والفاشي الاكبر والهمجي العنيد، وهم الذين لم يلد التاريخ مثلهم الا في أزمان سحيقة، ولكنها أيضًا تغرق في محنة انكسار العيون وتغضن الوجوه وشرود العقول وانتظارات الانقاذ ولا أمل. أنها تغرق، وتطفو على وجع صباحي كما في المساء.
غزة الجميلة والجليلة والقتيلة صاحبة الحطة (الكوفية) العربية الفلسطينية العرفاتية بنفس الوقت تنظر بعين الوجع لأخوة كان من المفروض أن يعُوا معنى العشَى الليلي، والعمى النهاري فذابوا في عباءة اندحارهم وفي جبّة شياطينهم لا يبكون مصيبة ولا ينفكون يؤثرون أنفسهم على الناس! مهما كانت حجم خصاصة الناس! وأقصد أولئك شمالًا وجنوبًا لانبريء أحدًا رغم اختلاف حجم المسؤولية المباشرة وغير المباشرة.
غزة تغرق في مستنقع عقم اللاهين من أبناء الشعب، أولئك المتحجّرين عن النظر في حقيقة ما يجري من موات يومي بالجسد والنفس، وانطفاء أهازيج الناس واللحظات الباسمة والرجاء، ولفتات الحرص وأيدي المحبة ونسمات اللطافة. غزة تغرق بين جنوح الأخ الكذوب، وخراب الآخر أوإهماله الغضوب! وبين عيون متنقلة تنشد الانقاذ ولا حياة ولا حياء لمن تنادي.
في غزة الغارقة تجد الناس تتجرد من كثير من آمالها البسيطة، وأحلامها وكثير الطموحات الانسانية الكبيرة أو الصغير سواء! فانحدرت الاحتياجات لأدنى السلم الإنساني، لتجد المطمح الأكبر في ترقّب ملء البطون وقليل من الدفء أو الأمن أو الخصوصية في متسع خارج الخيمة، أوفي بيت الخلاء، أو امكانية البكاء على الذكريات بدون تفجع أوأسى أوفجيعة جديدة!
إن الفلسطيني الانسان في غزة (ومثيله بدرجة ثانية في الضفة) يحلم بيوم هنيء، بلا رصاص أو يوم بلا مقتلة، وبيوم رائق بلا طفل يُحمل على الأعناق، أو يوم بلا خطوط ذات ألوان صفراء أو حمراء أو خضراء أو زرقاء، أو محاور تشق بطن البلاد شمالًا او جنوبًا، أو شرقا أو غربا سواء بالضفة المزنّرة بالمستوطنات (المستدمرات) الكئيبة، أو غزة الراقدة تحت ثقل حقد وعنصرية وعدوانية الإسرائيلي اليميني الفاشي الذي من أسياده الفاشيين تعلم وتعلم وتعلم حتى فاق معلمّه! ولربما جاوز ما حصل ليهود بولنده من هجوم النازيين في الحرب الأوربية المسماة العالمية الثانية، فكان الفلسطيني الغزّي مفتاح الشهامة والكرامة والإباء رغم جرف أجزاء من مكنونات روحه حين تخلي عنه القريب، وانحسار اهتمام البعيد.
العالمُ كلّه، أقصد العالم الحر كلّه يغرق مع غرق غزة. فلن تجد في شوارع العالم الغربي (للأسف وليس العربي أو الاسلامي) إلا جموع من الشبيبة والطلاب والمؤسسات والجماعات التي نظرت لفلسطين الناجية بعين الثورة والمقاومة للظلم وللاستخراب فعاشت فلسطين ما بين النهر والبحر، وقدّرت الفرقة الغربية الناجية وعظّمت في هذا الشعب منطق الإباء، رغم فقدان الوسيلة وبجلّت فيه حجم الألم والكارثة، رغم عدم وجود من يتململ من رتابة الوضع القائم وطنيًا جمعيًا، أوعربيًا أو عالميًا، أو يمد يده يداوي أو يواسي أو حتى يربت بكفه على الأكتاف المنحنية من أثقال الأعوام، واللحظات البائسة.
مركز الناطور للدراسات والابحاثFacebook



