أقلام وأراءشخصيات

بكر أبو بكر: سليم الزعنون حين يقرّر

بكر أبو بكر 14-12-2025: سليم الزعنون حين يقرّر

(أعدت المادة بعد استشهاده عام 2022م وكان قراري أن أصدرها في ذكراه السنوية الأولى الا أن انشغالات حرب الإبادة على فلسطين، ومن بوابة قطاع غزة البطل ثم الضفة، أجلت ذلك الى العام 2025م)

 نبذة

سليم الزعنون “أبو الأديب” (1933-2022م) قامة من قامات العمل الوطني العربي والفلسطيني، وأحد أبرز قيادات الصف الأول من المؤسسين للثورة الفلسطينية وحركة “فتح”، كان له من الإسهام القانوني والنضالي والسياسي والثوري والتنظيمي، والخطابي والجماهيري ما جعله بحق يسجّل علامة فارقة في تاريخ فلسطين.  

سليم الزعنون “أبو الأديب” قامة من قامات العمل الوطني العربي والفلسطيني، وأحد أبرز قيادات الصف الأول من المؤسسين للثورة الفلسطينية وحركة “فتح”، كان له من الإسهام القانوني والنضالي والسياسي والثوري والتنظيمي، والخطابي والجماهيري ما جعله بحق يسجّل علامة فارقة في تاريخ فلسطين.  

صراعات وفوائد

صاحبتُ جلّ حياتي فترة الشباب الأخ القائد الكبير سليم ديب الزعنون”أبوالأديب” الذي أثّر علينا وأفادنا بما لا يحصى من الفوائد، سواء حينما كنا (كنا هنا أقصد بها أنا وثُلة من الأخوة الآخرين) نتوافق معه وفي حال الاختلاف بالمواقف والرأي التنظيمي في إطار عملنا، وهو يتقلّد مهمة معتمد حركة “فتح” بالكويت والخليج ومشرفًا على العمل التنظيمي.

أبوالأديب داعمًا

جلسنا في اتحاد الطلاب وكنت رئيسه حينها نتفكّر في تحقيق الوحدة الوطنية مع أحد الفصائل التي كانت مجرد رقم ولا قوة لها بالجامعة-جامعة الكويت، الى أن قرّرنا كمكتب حركي للطلاب نقض القرار القيادي لأن التحالف مع هذا الفصيل غير ذي جدوى. فأسقطناه من التحالف، ولم نضع إسمه بالقائمة قائمة “أبناء فلسطين” قائمتنا الطلابية، فثارت ثائرة الأخ المعني بالمنظمات الشعبية بالأقليم (قبل أن أصبح بدوري عضو لجنة إقليم) وشكانا للأخ أبوالأديب الذي استقبل شكواه، وتواصلت معه لأجد منه حُسن التفهّم الذي استطاع به أن يحدّ من غلواء المسؤول، فكان هنا أبوالأديب نِعم الداعم والمتفهم والمساند للموقف، وفي مواقف كثيرة أخرى.

مواقف ملتبسة واشتباكات

اشتبكت مع الأخ أبوالأديب حينما حضر الأخ القائد العام الى الكويت لحل مشكلة عدد من الطلاب الذين اعتقلوا على خلفية مظاهرات (زادت عن حدها كما فُهِمَت) قامت بالكويت نُصرة للانتفاضة الأولى انتفاضة الحجارة عام 1987م، فلم يستسغ الأخ أبوالاديب أنني تكلمت بمواجهته عن الموضوع وبقوة أمام الأخ أبوعمار، وهو كان للتاريخ يبذل كل الجهد، فتحدث ضدي وصرخ بوجهي بكلام قاسٍ جدًا، أذهلني حينها؟!

 لم أفهم الموقف وصمتُ، وحزنتُ كثيرًا، إلى أن كان اليوم الذي استدعاني فيه ليقول لي بمحبة: أنت من أهل البيت! فلا تبتئس من أي شيء، وكأنه يقدم الاعتذار من قائد كبير لطالب في العشرينات من عمره ما مثّل فيه روح الكِبار وعنفوانهم.

لقد كان الأخ أبوالأديب حليمًا باسمًا وقورًا حين تعامله بثقة ومحبة وتوافق، وبلا كمائن كلامية يتقنها السياسيين أو دُهاة التنظيم.

تستيقظ لدى الأخ أبوالأديب حاسة التشكك وكوامن الغضب ورياح الحرب حينما تصطدم معه بالرأي الصارخ، أو حين تناهض الموقف الذي استقر عليه بعد طول تفكر-بحيث رآه الموقف الصائب والسليم دون غيره- فيغلّب عقله التشككي ثم عقله القضائي الصارم وهو القانوني الأريب والمتمكن ليستلّ من جعبته كل الأسلحة ليحطّم حجتك واحدة واحدة وهو القادر على ذلك.

لم أفهم! وربما الآن أفهم

لم أكن لأفهم هذه العقلية القضائية الصارمة أبدًا عندما أصبحت أصغر عضو لجنة إقليم في إقليم “فتح” بالكويت لاحقًا، ووقفت بمواجهة عدد من آراء وأفكار الأخ أبوالأديب الصارمة. ربما لقلة وعي مني آنذاك بدهاليز العمل السياسي والتنظيمي من ضرورة التقدم حيث يجب والتراجع حيث وجب، ولأنني لم أكن أتحلى حينها بفضيلة التريث والتأمل وانتظار الفرصة المناسبة، أو حين تحين حالة الصفاء دون الغضب في عرض الحجّة دون عناد أو معارضة حاسمة، لاسيما والاحترام يجمعنا ولا نتقدم خطوة الا ويسبِقنا المؤسّسون والرواد كما تعلمنا ومازلنا.   

كنتُ جَلِدًا ومقاتلًا شرسًا في حرب الأفكار والرؤى مقابل الأخ أبوالاديب أو غيره في القيادة وأحسبني مازلت مع كثير من التعديلات التي اكتسبتها عبر الزمن.

كنت لا استسلم أبدًا أو ابتعد عن فكرة -ظننتها صحيحة بالمطلق آنذاك والأفكار بالحقيقة نسبية- ما مثّل لدي عامل المشاكسة والرفض الدائم لموقف الآخر، حتى لو كان الأخ القائد أبوالأديب الذي كان يستمع وقد يتفهم، أو لايتفهم وحينها يستخدم كل حُجَجِه وإثباتاته  ليثبت خطأ موقفي-أوغيري- ولم أكن لأقتنع رغم ما قد يكون خالط رأي الأخ أبوالأديب من حجة بالغة.

صراع في لجنة الإقليم

حتى الساعة الثالثة أو الرابعة صباحًا كنا نناطح في لجنة الإقليم بالكويت الأخ أبوالأديب وهو صاحب الحُجّة والبيان والفصاحة الذي لم يكن يكتفي بالأغلبية، بل كان ينشدُ الإجماع، وما كنت في الكثير من المواقف إلا من أهل الرفض وعدم الانصياع، فيقع التصادم والاشتباك الكبير.

قال لي الشهيد الحبيب رفيق قبلاوي “أبوزياد” أمين سر الاقليم بالكويت: لقد كنت تتكلم وأنت تضع رأسك في الورق وتعرض الحجج بطلاقة كالمدفع، ولا تنظر لوجه الأخ أبوالأديب أبدًا، وهو يستمع ويغلي ويكاد ينفجر غضبًا، ولكنه يكتم وأنت لا تراه أو تنظر إليه أبدًا حتى يحين دوره للرد عليك! وبكل قوة الحجة ولا تستجيب!!

قلت له: بل كنت أرى غضَبَه بطرف عيني، فلا أركّز عليه كي لاأرهب ولا أتنازل، لأن نظراته نفّاذة جدًا، فاستمر في عرض أفكاري مدعمة بالنظام والعقل!

هكذا سارت الحياة التنظيمية مع صاحب القرار الأول الأخ القائد الكبير أبوالأديب متذبذبة بين شدّ وجذب وبين صفاء واشتباك، وهوالذي كان بلاشك ذا حجة عظيمة، وكان صلبًا الى درجة مثيرة، حتى في مواجهة الأخ الرئيس أبوعمار في عديد المفاصل.

الأديب الوقور

 بالمقابل كان الأخ أبوالأديب وقورًا ولطيفًا ومنسجمًا حين تهدأ العاصفة، وهو إلى قدرته السياسية والقانونية والتنظيمية الفذة كان شاعرًا وأديبًا غنيًا يُحب والده الذي أثّر فيه-ولطالما تحدث عنه أمامنا، ويحب اللغة العربية ويحب المتنبي كثيرًا، ما أثّر فينا.

 ويطيبُ لك كثيرًا أن تقرأ له وهو الذي رثى معظم أخوانه وزملائه من اللجنة المركزية كأبي جهاد وأبي إياد وأبي عمار بكلمات ثرية وجميلة وحزينة ووفية.

أبوالأديب السياسي المتوازن

كانت تتنازع الأخ أبوالأديب وهو على قمة الهرم الوطني وليس فقط الحركي بالكويت معادلة تحقيق التوازن الدقيق بين متطلبات الدولة بالكويت وتمدّد العمل الفلسطيني في البلاد (سواء من فتح أو كافة الفصائل) إلى الدرجة التي كان يحتاج فيها لضابط إيقاع، ولم يكن بأفضل من أبي الأديب لتحقيق ذلك، لتصبح الكويت في ظل عقليته الاتزانية المعتدلة هذه أحد أهم محطات احتضان الثورة الفلسطينية والفلسطينيين عامة.

الكويت كانت تحتضن من أعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح ثلاثة كبار –حيث إقامة عائلاتهم-هم الأخوة سليم الزعنون “أبوالأديب” وصلاح خلف “أبوإياد” وخالد الحسن “أبوالسعيد”، وفي إطار تجاذبات اللجنة المركزية وقراراتها المصيرية في شتى المفاصل التي مرّت بالثورة كانت عقلية المحاور الخاطئة (جماعة فلان أو أبوفلان، وجماعة علّان…) تُسْقَط على التنظيم بالكويت وخاصة على لجنة الإقليم هناك، فتجد أبوالأديب يحاول أن يثبت أن الساحة ضمن مسؤولياته الحصرية، ولكنه يرى التداخلات من الأخوة الآخرين، كما هي في كل مكان من أبوعمار ما كان يسبب له الصداع الدائم والأرق والغضب وعدم القبول.

صراع المحاور

أيام اتحاد الطلاب (1980-1986) ثم بعد أن كنت عضوا في لجنة الإقليم بالكويت (1987-1990) بأمانة سر الحبيب الشهيد رفيق قبلاوي خُضتُ صراعًا شرسًا بمواجهة أبوالأديب داخل إطار لجنة الإقليم-ما أشرت لشكل من أشكاله سابقًا، حيث كانت النظرة العامة بالحركة بالكويت بين محوري صلاح خلف (أبوإياد) ومحور خالد الحسن الذي حُسِبت عليه جزافًا، ولم أكن أبدًا من روّاد التيارات أو مدرسة “الأبوات، جمع أبو”، كما حُسب عليه الراحل الكبير أبوعلي المطري أحد أساتذتي العظام، ومسؤولي التنظيمي وأحد أبرز القياديين ذوي العقلية الإدارية الغنية، وسالم أبولغد بينما تبقى من محور الاخ أبوالأديب -كما كان يُفهم جزافًا- عدد آخر من الأخوة الكرام في لجنة الإقليم.

الوضع حيث تتواجد المحاور داخل التنظيم النضالي، حقيقة أم توهمًا من البعض، لن يكون سليمًا حين النظر للمشكلة واتخاذ القرار. وكان أبوالأديب هو المُحقّ-كما أرى الآن-في رفضه للمحاور،  أوآثارها الدالة عليها بالمواقف كما يفهمها هو حينه، أو عبر تسريبات المقربين غير الدقيقة بالضرورة، وفي سعيه ونضاله ضد المحاور. وبغض النظر عن منطلقاته الأخرى فمما لا شك فيه أنه كان يبغي إثبات قوته الداخلية بإحكام السيطرة على لجنة الإقليم وتوجيهها وفق آرائه، ليحقق التوازن في اللجنة المركزية، وفي البلد.

الصراعات حول العلاقة مع الدولة، وحول بعض الشخصيات الضارة في التنظيم، وحول أحقية (س) أو (ص) بالموقع الفلاني ضمن التنظيم، وحول المرشحين للانتخابات، وحول أولوية المهرجان أو العمل الفلاني كانت كلها تأتي الى أبوالأديب الحازم الصارم فيدير الأمور كي لا تفلت من بين يديه، ومهما كان حجم الاختلاف معه بالرأي والموقف التنظيمي حينها، إلا أنه والحق يقال لم يعطّل ولو لمرة واحدة أي عمل تنظيمي أو سياسي أو جماهيري من مهرجان أومعرض أو أي فعالية انتخابية أو شعبية بتاتًا.

أي أنه لم يجعل من اختلافه بالرأي والموقف والاتجاه مع الآخرين حربًا ضد الأشخاص بذواتهم أو ضد العمل بذاته، بل كان داعمًا بالمال والتغطية السياسية والتنظيمية بل والأمنية حتى حين حدوث أي مشكلة صعبة.

في مواجهة النظام العربي

تواجهت فترة الطلاب مع أحد الأنظمة العربية (النظام السوري الأسدي) التي كانت تكيل شتى الشتائم والاتهامات القبيحة لفلسطين وللخالد ياسر عرفات والثورة أو المقاومة الفلسطينية، فرفعت سفارة هذه الدولة الدعوى ضدي شخصيًا كرئيس الاتحاد العام لطلبة فلسطين بالكويت، وذلك لمرتين، وتم تغريمي بعد التحقيق القضائي مبلغًا ضخمًا دفعته حركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح بأوامر الأخ أبوالأديب، بالطبع دون أي منّة أو سؤال أو تبكيت مطلقًا، ورغم أن غلواء هذا النظام قد طال لاحقًا الأخ أبوالأديب شخصيًا وأحد أبنائه الكرام من أصدقائي وزملائي.

سليم الزعنون”أبوالأديب” أثناء الاحتلال العراقي للكويت لم يقف مكتوف اليدين، ولا معصوب العينين، وإنما كان واضحًا في موقفه كما الحال مع صلاح خلف “أبوإياد” وكما الحال مع خالد الحسن الذين رفضوا مع أخوة آخرين بالقيادة علنًا احتلال أي أراض عربية حتى من الجار العربي، فلم يكن طريق فلسطين يمرّ عبر الكويت. لقد فُقدت البوصلة العربية حينها.

وتأكدنا أنا والأخ د.حسين أبوشنب الزميل الحبيب في لجنة الإقليم من ذلك، حينما تخطينا الحواجز والقصف ضمن الحرب الدائرة والتقينا الرئيس عرفات في بغداد.

أبوالأديب في قلب العاصفة

قال أبوالأديب لكل من علي حسن المجيد وسبعاوي إبراهيم القائدين العراقيين بكل ثقة ووضوح رافضًا الطلب بتأييد الغزو عام 1991م أن: “الكويت بالنسبة للجالية الفلسطينية بئر ماء شربنا منها ولا يمكن أن نلقي فيها حجراً.” وقد أضاف قائلًا لنا فيما لحق: أن هذا الموقف قد أيده  وباركه الاخ “أبو عمار” وفق رسالة تسلمها منه، جواباً عن رسالة كان أرسلها إليه  ضمنها موقفه والحركة في الكويت الرافض للغزو. 

موقف الأخ أبوالأديب القومي والوطني الصارم من غزو الكويت أدى الى أن يتم استبعاده والأخ عوني بطاش (سفير فلسطين بالكويت رحمه الله أيضًا) من البلد خاصة وأن علي حسن المجيد (الحاكم العسكري العراقي) وبعد لقائه بهما، قد وجه التهديدات المباشرة والوعيد مطالبًا بالتساوق مع مطالبه بالسيطرة على البلد ما رفضته حركة “فتح” وعلى رأسها أبوالأديب كما أسلفنا فكان له الموقف الشجاع مقابل القوة الداهمة والسلطة المطلقة فأخرِج من البلاد فترة الغزو.

لتهب علينا بعدها وحتى الآن “عاصفة الصحراء” التي أكلت الأخضر واليابس فأحالت الأمة الى رماد الأمم.

من الكويت الى تونس

خرجت أنا من الكويت عام 1991م الى تونس أي بعد عودة أهل البلاد الكويتيين الى بلدهم ودحر الغزو. بينما  خرج الأخ أبوالاديب من الكويت إبان الغزو ، ليقود الميدان الأخ رفيق القبلاوي الذي اغتالته يد الغدر، فتسلم قيادة إقليم الحركة الأخ الشجاع سالم أبولغد (أبوحاتم) وتعاون مع الأخ علي الحسن بحكمة  الأخوّة والتساند، بين أمين السر والحكيم القريب البعيد عن التنظيم آنذاك أي علي الحسن (أخو كل من خالد وهاني الحسن، وبلال القادة بالمقاومة الفلسطينية) أن تعدينا الأزمة، ولم يكن أبوالأديب البعيد جغرافيًا ببعيد عن متابعة الأمور.

انتقل سليم الزعنون الى تونس مفوضًا للمنظمات الشعبية في الحركة، وانتقلت أنا للعمل مع الأخ القائد الكبير أبوماهر غنيم في مكتب التعبئة والتنظيم وتسلمت مهمة إعداد الكوادر والتدريب بالأقاليم، فكنتُ على بعد خطوات فقط من مكتب أبوالأديب. حيث كان مكتبنا في شارع المتنبي من المنزه السادس في العاصمة التونسية الأنيقة مع زملاء أكارم الآن كلهم تقريبًا سفراء حول العالم. لذا كانت اللقاءات مع الاخ أبوالاديب لا تنقطع مودة ومحبّة وتفهم وتواصل بعد فترة تذبذب في الصراع الداخلي التنظيمي معه في الكويت.

أي أننا أسدلنا الستار على تلك الفترة بحلوها ومرها، وبفوائدها الكثيرة، وأكمل الأخ أبوالأديب عمله المعطاء في مهمته الجديدة بكل جدارة، وكان الى جواره في كل المحطات الأخ روحي فتوح (رئيس المجلس الوطني الفلسطيني حاليًا) وأخوة آخرين معطائين بالمفوضية.

أبوالأديب حين يحزن

الرجل إنسان قبل كل شيء، نعم هو رجل ثائر أسهم في انطلاقة الثورة الفلسطينية منذ دراسته في غزة، ومنذ زمالته مع الراحل الخالد ياسر عرفات بالقاهرة من خلال رابطة الطلبة، ثم حين عمل قاضيًا بغزة والكويت، ونعم كان لانتمائه الأول ك”إخوان مسلمين” ما أسقط على شخصيته بعض الإيجابيات، وتحلى ببعض خصائص “الاخوان المسلمين” الأخرى من حيث فكرة الطاعة (العمياء) التي عدلها كثيرًا فيما تلَى حياته.

نعم كان هو كل ذلك-كما أعتقد، وكان في بدايات وجوده بالكويت مع تأسيس الحركة هناك مقدامًا، ومرجحًا للآراء الصائبة ينظر بعين الدليل والمنافع والخسائر فكانت الانطلاقة، وكان له من الحظوة أن كان من الروّاد الأوائل، ثم الداعمين لكل العمل العظيم بكل المجالات ما جعل الكويت ضمن حكمة التوازن والوسطية والاعتدال والقرار التي تحلى بها منبرًا لايُدانى للقضية الفلسطينية سياسيًا وإعلاميا-حدّث ولاحرج-وشعبيًا واجتماعيًا، ومنه طلابيًا وعماليًأ… وبكل المجالات.

الرجل إنسان قبل كل شيء كما قلت، لذا فلم يكن الخروج من الكويت بالهيّن (عليّ وعلينا جميعًا) فما بالك عليه.

 أثناء وجوده في تونس (1990-1995) ظهر التأثر عليه كثيرًا كما انعكس عليه الأمر  نفسيًا وجسديًا، حيث مشاعر الحزن قد أحاطت به من فقدان ما يقارب 300 ألف فلسطيني بالبلد، وما كان لوجودهم هذا من أهمية عظمى للثورة الفلسطينية. ومن فقدان علاقاته القوية مع ركائز البلد المضيف، والى فقدانه هو كقائد وشخصية وطنية وإنسان لأحد أهم عوامل قوته الداخلية داخل اللجنة المركزية لحركة فتح، وفي تمتين البناء الوطني الفلسطيني الذي كان يحتاج لكل أوراق القوة، وما بيده قد سقط وتهاوى الى أشلاء.

الأخ أبوالاديب (1933-2022م) الصارم الصاخب النافذ القرار فيما مضى في ساحة سيطرته وصلاحياته، أصبح  في تونس كغيره من قيادات الحركة. وباعتقادي أنه شعر بفقدان البريق والقوة والقدرة على التأثير بالقرار الحركي الذي كان يمثله موقعه السابق. فانعكس على سلوكه حيث ابتعد وأصبح قليل الكلام لشهور طويلة.

كنتُ اتردد عليه بكل المحبة والمودة وأحاول (بعلاقة الأب والإبن) أن أخرجه كما لربما فعل غيري الكثير من فترة الحزن وربما الكآبة التي أصابته لما سبق باعتقادي، الى أن استطاع بشجاعة المؤمن الذي كان يمثله أن ينتقل ثانية الى ميدان الفعل بإطار عمله.

أبوالأديب في المجلس الوطني الفلسطيني

 قفز الأخ سليم الزعنون الى مقدمة الركب الوطني الفلسطيني حين استلم مهمة رئيس المجلس الوطني الفلسطيني عام 1996م، خلفًا للشيخ الراحل عبدالحميد السايح الذي كان نائبًا له لسنوات عديدة.

يشهد للأخ أبوالأديب أثناء ترؤسه للمجلس الوطني الفلسطيني أنه كان المدافع الأول عن القانون سواء بالشكل أو النص ما كان يخالف ويقاتل به كل من يحاولون تجاوزه بكل الأشكال. وظل مداومًا على تمسكه بالقانون حتى حين مرض وأقعده المرض.

عن مؤامرات البعض على المجلس الوطني الفلسطيني أفشل الأخ “أبو الأديب” كرجل قانون، ورجل وطني صارم، كما رأينا وعاصرنا ، قيام البعض من الفصائل الفلسطينية والأنظمة العربية الذين يتمنون القضاء على المجلس الوطني وإلغاءه، وجعل المجلس المركزي  بدلاً منه بحيث يصبح هو الإطار الأعلى. 

كتابُهُ، وقالوا عنه

في كتابه السِفر الكبير المعنون: السيرة والمسيرة-مذكرات سليم الزعنون أبوالأديب الصادر عام 2013 الكثير حول النشأة والبدايات للحركة الوطنية وحركة فتح، وعن مسيرة الرجل الممتدة، ما ننصح بقراءته، كما يمكن أن نجده في كتبه الأخرى الكثيرة.

بعد وفاته كتب عنه المناضل القومي اللبناني معن بشور قائلًا: لم يكن أبو الأديب مهووساً بالضجيج الإعلامي ولا بالاستعراض السياسي، لكنه كان مسكوناً بأمر عظيم وهو حُب فلسطين والتفاني في سبيلها، وبقي حتى وهو يقارب التسعين من عمره ثابتاً على خياراته وثوابت شعبه في المقاومة والوحدة وعدم التفريط بشبر من أرض فلسطين الغالية….

وقال عنه هيثم زعيتر: كان أبوالاديب قائداً فذّاً، ارتبط اسمه ارتباطاً وثيقاً بمسيرة النضال الوطني الفلسطيني، في مجالاتٍ مُتعدّدة، طالباً، مُربياً، أديباً، مُثقفاً، قاضياً، سياسياً وبرلمانياً.

وأثنى الرئيس محمود عباس (أبومازن) على مناقب الشهيد المناضل الوطني الكبير، ومسيرته المشرفة، وعطائه وعمله القيادي في صفوف حركة فتح والثورة الفلسطينية ومؤسساتها، والذي أفنى حياته في الدفاع عن حقوق شعبنا وقضيته العادلة على طريق الحرية والاستقلال.

وقال أبومازن، إن الراحل قضى عمره مناضلا صلبا وكان نموذجا للمناضل الوطني العروبي المثقف.

في مؤتمرات حركة فتح

قال لي الأخ أبوالأديب في لقاء معه قبل المؤتمر السادس لحركة فتح عام 2009 بالفندق في رام الله، هل ترى أن أرشح نفسي للّجنة المركزية؟ وكان منفعلًا ومتخوفًا جدًا من خوض غمار التجربة والمعادلات اختلفت بالوطن.

وكنت قد دخلت الوطن من تونس، واستقريت فيه منذ العام 1996م، نائبًا للمفوض السياسي العام الأخ عثمان أبوغربية ومسؤول مدرسة الشهيد ماجد أبوشرار لإعداد الكوادر أيضًا، ومن عقيد الى لواء، وهو استقر في عمّان حيث مقر المجلس الوطني الفلسطيني.

 وردًا على تخوفه بالنزول للمركزية أكدت عليه برأيي أن الجمهور الفتحوي بالداخل والخارج لا يحتفظ بأي ضغينة ضد المؤسّسين، بل بكل الحُب والوفاء لهم، وأنت ستكون والأخوة الكبار في المقدمة بالانتخابات مما أنعش قلبه كثيرًا وانفرجت أساريره وأقبل على العمل بطاقة مشهودة.

عاد الأخ أبوالأديب للجنة المركزية للحركة بالانتخاب، وانتخبتُ أنا عضوًا بالمجلس الثوري لحركة فتح (2009-2016م)، وحضر الأخ أبوالأديب الجلسات لبضع مرات. وما كان منه بالجلسة الأولى الا أن بحث عني واحتضنني مطولًا قائلًا: شكرًا، فهمت، فهو يرد جميل الشورى وأنا اغتبطت.

كان سليم الزعنون خطيبًا مفوها كعادته سواء بالمجلس الثوري أو في محطات المجلس الوطني أو ما قبلها في لبنان أوتونس أوالكويت، فهو أحد أهم أقطاب الثورة والمقاومة الفلسطينية بلاغة وفقها لغويًا ودراية بهذا الفن، وكنت قد أشرت لمزاياه الخطابية الفذة بهذا المجال في كتابي عن فن الحديث، كما أشرت لأخوة آخرين.

ما قبل المؤتمر السابع  للحركة حين رشّحت نفسي لعضوية اللجنة المركزية للحركة ولم أوفق، كنت قد تحدثت مع الأخ الرئيس أبومازن في مكتبه، بمقاطعة ياسرعرفات (مبنى الرئاسة) بضرورة أن يتم تكريم الثلاثة الأوائل من الرواد والمؤسسين (أبولطف، أبوالأديب، أبوماهر) عبر إقرار المؤتمر لعضويتهم الدائمة باللجنة المركزية، أي بدون أن ينزلوا الى الانتخابات.

وبعد جدل قانوني طويل مع الأخ أبومازن طلب مني الاتصال بهم لأخذ رأيهم، فكان ماكان الذي منه أن اتصلت بالأخ أبوالأديب طالبًا منه عدم القدوم للانتخابات. وعندما استفسر ذكرت له القرار المقترح على المؤتمر فشكرني كثيرًا، وكأنما أزيح عن صدره همٌّ ثقيل جدًأ. لقد كانت الحركة كعادتها لا تأكل أبناءها وستظل وفيّة وستتواصل، فكرّمته والأخوين الكريمين.

في الفترة ما بعد المؤتمر السابع تفرغ الأخ أبوالأديب لمهمته في رئاسة المجلس الوطني الفلسطيني وزرته لمرات عدّة في مكتبه بعمان، وكان شغولًا شغوفًا مرحابًا كعادته، لا يكل. لكنه بدا مرهقًا بوضوح، الى أن داهمه المرض المُقعِد، خاصة عندما استقر في منزله إثر جائحة كورونا، ليستشهد ضمين المسيرة الطويلة من أجل فلسطين على درب التحرير في 14/12/2022م.

رحمه الله، ورحم كل شهدائنا الأبرار، والله ناصر من ينصره.

 

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى