#أقلام وأراء

بكر أبو بكر: خطاب الرئيس عباس وما لم يقله شفويًا؟

بكر أبو بكر 2022-09-24

يقف الرئيس محمود عباس مجدّدًا على منبر الأمم المتحدة فلعل وعسى. ويخاطب الأمم المتناثرة جلوسًا تتطلع الى فحوى خطابه وإلى ما لم يقله شفاهةً! فليس ذات الخطاب فقط ما يشِي بالحقيقة او الدلالة، وإنما ما وراء الكلمات من جهة، وما قد يلتف حولها (قبلها وبعدها) من تحركات سياسية وخطوات، إضافة للغة الأخرى غير المحكية للرئيس التي يكفيك النظر فيها لتفهم في كثير من النقاط عكس ما يقال شفاهة!

السياسة بين العدل والظلم

إن الاخ الرئيس محمود عباس في خطاباته المتكررة للعالم، وهذا في الأمم المتحدة (23/9/2022م) قد وضع سياقًا تاريخيًا وقانونيًا وسياسيًا هامًا هو بمثابة إنارة للطريق للأجيال القادمة، وكأنه من البداية يركّز على البدايات الحقيقية للقضية، وليس من حيث آلت اليه الأمور، ما يعني أن لا تنسوا يا أيها الشعب العربي الفلسطيني وياأيتها الأمة المكلومة بذاتها واجبكم نحو قطعة من أرض أمتكم هي شرفكم المغتصب.

مما لا شك فيه أن شجاعة الطرح، وقوة الجرس لمنطوق خطابه (الموجه للدوائر الثلاث الوطنية والاقليمية والعالمية) فيه دلالة لا تخطئها العين آتية من قوة وعدالة ومظلومية القضية الفلسطينية في وجه الظلم والطغيان والاستكبار والاستعمارالعالمي الذي حدّده بثلاث رؤوس كان لها الدور الأعظم في المأساة الفلسطينية أي الاستعمار البريطاني والأمريكي ومعه الحركة الصهيونية.

إن عملية فضح الاكاذيب الصهيونية المدعومة امريكيًا وبريطانيًا بشكل دائم أصبح من مفردات خطاب أبومازن الذي لم يتورع عن ذكرالتنكر الصهيوني للاتفاقيات فهي (أي إسرائيل) تتنكر، وقررت ألا تكون شريكًا، وهي دمرت “أوسلو” وتدمر بتصميم حل الدولتين، وتمارس العدوان ولا تريد السلام مما يعيد القضية لأصلها بلا اتفاقيات أي: احتلال مقابل شعب محتل كما قال. مضيفًا للسجل الأسود للإسرائيلي نهب الموارد والسرطان الاستيطاني والاعتقالات وإرهاب المستوطنين من اعتقال وقتل وحرق واقتلاع للأشجار، حتى باتوا يشكلون 25% من عدد السكان بالضفة.

وأشار الرئيس أبومازن للمنظمات الإرهابية الاستيطانية كما سماها باسمها أي الإرهابية مطالبًا بوضعها على قوائم الإرهاب العالمي، وكأنه يرد على تهم وضع أو وسم بعض المؤسسات أوالمنظمات الفلسطينية بسِمة الإرهاب، وما قاله أبومازن هو الأجدر والأولى.

حسنًا فعل الاخ أبومازن بأن أعاد الأمور الى بداياتها –وهو ما لم يكن جديدًا عليه- أي الى القرار 181 قرار التقسيم لفلسطين، وشرائطه للاعتراف العالمي ب”إسرائيل”، مرفوقًا بقرار العودة 194 وجعلهما مخرزًا في أعين العالم الصامت عن آخر احتلال بالتاريخ. ومطالبا بتنفيذ هذا القرار (قرار التقسيم) من مجمل ما يقارب الألف!؟ نعم الألف قرار؟! التي فصّلها بالأرقام سواء للجمعية العامة، او لمجلس الامن أو مجلس حقوق الانسان؟ يا للهول ويا لظلم العالم وتيهِهِ حين تحركه مصالح الكبار، وبطون الصغار، وهبل التوابع، ونزق لاعبي الشطرنج!

الخطاب على المنبر الدولي يتعامل مع مصالح الشعوب للأسف، وليس مع المباديء والعواطف، وليس مع الأمنيات والأحلام التي كررها بذات القول (نتمنى) وهو يعلم ذلك! ولكنه يريد وضع العالم أمام مسؤولياته السياسية والقانونية والتاريخية حيث الإشارة لمقتل الصحفية الاعلامية شيرين أبوعاقلة بالاسم، وما يحصل للأسير البطل ناصر أبوحميد، وفي إشارته للخمسين مذبحة بالصور، (فكرة عرض الصور فكرة وجيهة ومؤثرة واستخدمها اكثر من مرة، كما استخدمها نتنياهو أيضًا) ما هو تذكير لكل تلك الدول التي تدعي الحفاظ على حقوق الانسان ليقول افتحوا عيونكم وأديروا رؤوسكم قليلًا تجاه فلسطين فهي منجم ذهب لانتهاكات حقوق الإنسان! فهل تفعلون؟ (ويقولها بسخرية مرة).

قد لا يكون جاء بجديد يشكل منطلقًا للعمل السياسي القادم نعم، ولكنه وضع الأمور بشكل متكرر بنصابها محملًا العالم نتيجة ما سيحصل في ظل انهماكه بعيدًا عن المشكلة الأهم الاكثر تفجرًا في العالم مشكلة فلسطين العربية.

ومع ذلك فلقد وضع أبومازن أسسًا ومباديء وافكار لبرنامج من الممكن أن يتحول لقوة دافعة ولمخرجات حوار وطني وعربي معمق يتم تبنيها من قبل الكل الفلسطيني، وربما العربي! لتتحول الى برنامج عمل ولا تتوقف عند حد ما قاله الرئيس على منبر الأمم المتحدة.

من مطالب الرئيس على المنبر

1-نطالب بتنفيذ القرار 181 قرار التقسيم عام 1947م، ومعه قرار العودة للاجئين ضمن ال15 مليون فلسطيني أكد عليهم وإن تراءى للبعض للوهلة الأولى استحالة التعامل مع هذا القرار! فإنه بداية حقيقية وصلبة ومختلفة (إن أخذ بها) من الممكن النظر اليها فلسطينيا-عربيًا بعيدًا عن “اتفاقيات أوسلو” التي سقطت بيد الإسرائيلي منذ العام 2000م، وهو بهذا الطلب لم ينكر ضرورة حل الدولتين؟ وكأنه يقول لنناقش هذه وتلك وما توسطهما، وإن كنت أرى الطرح ليكون بصيغة تحقيق الاستقلال لدولة فلسطين القائمة بالحق الطبيعي والقانوني والسياسي وليس مصطلح “حل الدولتين” والفرق كبير.

2-سنطالب بالعضوية الكاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة وهو الطلب الذي أثار الإسرائيلي مباشرة ليعبر عن عميق رفضه، رغم أكاذيب رئيس الوزراء الإسرائيلي على ذات المنبر بقناعته الواهية بحل الدولتين التي بقيت قناعة تائهة في الاروقة، ولن تجد لها متنفسًا خارحها، فهو لم يلقي ولو التحية على الرئيس الفلسطيني في الامم المتحدة أو يدعوه للحوار مثلًا!

3-نطالب بريطانيا وأمريكا و”إسرائيل” رسميا، وشدد على رسميًا بالاعتراف بمسؤوليتها عن الجرم الكبير بحق شعبنا والاعتذار والتعويض، فهو لم ينسَ المطالبة للانجليز الاستعماريين ومطالبتهم بالاعتذار والتعويض عن ورقة بلفورالمخزية، وعن الاحتلال البريطاني الذي شكل الكيان الصهيوني.

4-طالب بتطبيق مبادرة السلام العربية (السعودية الأصل) رغم مخالفة بعض الدول لها ممن لم يسمهم من أمة العرب تحاشيًا لحرف بوصلة الهجوم الجديد الموجّه كما هو واضح وبشكل أساس ضد منشئي المشكلة أي ثلاثي: الانجليز وأمريكا والحركة الصهيونية الذين خلقو ا “إسرائيل”

5- الفكر السياسي للرئيس محمود عباس قد يجده البعض متناقضًا، وقد يجده البعض الآخر مثاليًا، وهناك ممن يراه بلا بدائل وخيارات بعيدة عن (وهم) المفاوضات. وهو الى ذلك يرفض العمل العسكري العنفي ويتمسك بأهداب المقاومة الشعبية السلمية لأنه يعلم في ظل الظرف العربي والاقليمي بل والعالمي أن لا نجاح الا للمسعى السلمي الذي قد لا يوافقه فيه المخالفون، وعليه تصبح دعوته المتكررة للمفاوضات منطقية مربوطة بوقف كل الإجراءات الاحادية الصهيونية خاصة تلك المتعلقة بالمستوطنات.

6-قال سننفذ قرارات برلماننا الفلسطيني وقال سننضم لعدد من المنظمات الدولية، وقال سنذهب للمحكمة الدولية لتحميل الإسرائيلي مسؤولياته.

ما قاله جسدُهُ وصوته!

بعيدًا عن مضمون الخطاب واقترابًا من قلب وروح القضية، وقلبنا وروحنا، ومن المعاني التي ظهرت على محيّا الرئيس أبومازن عبر لغة الجسد قد نجد شكلًا آخر من النظر

لقد كان الرئيس أبومازن كما بدا لنا حزينًا جدًا أنه يصعد على درج الأمم المتحدة ويعتلي منصتها ويكرر مطالب الشعب العربي الفلسطيني العادلة، وكاد كلامه يمتزج بحالات بادية من اليأس لولا فسحة الأمل (أعلِّلُ النفس بالآمالِ أرقُبُها ما أضيقَ العيشَ لولا فسحةُ الأمَلِ-الطغرائي)التي كانت تهب من ريح كلماته، فهو يحمّل المسؤولية للعالم الحر بعنفوان القائد الشجاع والثائر الفخور بشعبه، والشخص المقدام الذي لا يهاب من قول كلمة الحق امام الأمم والشعوب الظالمة لنفسها حين يعجز السيف عن الحديث، عندما حوله الأخوة الى سيف من الخشب.

أبومازن كما يريد لنفسه رجل سلام فقط. وقد بدا ذلك في نص قوله وطريقة قوله بل وطريقة لبسه فهو الصادق زيادة عن اللزوم والصريح زبادة عن اللزوم وكان له أن يكذب ولو قليلًا ليتقاطر أقطاب العالم لنيل رضاه! ولكنه يفهم السياسة مباديء وقيم وحسن سلوك، رغم أن المصالح والقوة فقط هي الحاكمة بالعالم؟ فهل هو يلقي آخر ما في جعبته قبل الرحيل؟ أم أنه يكشف حقيقة وجهه الأبيض غير المتلون؟ أم أنه يسلم الراية نظيفة لمن يستطيع أن يفتك حلًا طالب به بالنهاية بقوله أريد حلًا.

تاملوا بعبارات أبومازن المقرونة بحركات جسده هائلة التعبير فهو القائل في الخطاب وخروجًا عن مضمون الخطاب ما اشتهر به هو والراحل الخالد ياسر عرفات، قال (حاكمك ظالمك) وقال (شو ناقصنا لنكون دولة) وقال (نتمنى ونترجى…!؟) وقال (دخيلكم!) وقال (شبعنا كلام وقرارات)، وقال (لم يتبقى لنا أرض لنعيش عليها؟!) وقال (نريد ان نعيش) وقال (لاتزبلونا=تهملونا كما زبلتمونا كل مرة!)

في طبقات صوت أبومازن رنة حزن مثيرة، كما قلنا وممزوجة بالسخرية المرة، ما ذكرني بالكُتّاب الساخرين الكبار أمثال الكاتب التركي الشهير عزيز نيسين، والكاتب السوري زكريا تامر، والكاتب الفلسطيني العملاق أميل حبيبي في سعيد أبوالنحس المتشاءل؟! يا لك من جامع لتشاؤم هؤلاء وملقيه في وجوه غابرة أنت تعلم أنها لا تملك من أمرها شيئًا حين اعدت القضية للثلاثي الاستعماري القميء: أمريكا وبريطانيا والإسرائيلي؟

هل نقول أن لغة جسده عالية الحدّة سواء بالتشاؤم أو الحزن أو السخرية أو الثقة والشجاعة الممزوجة بالمرارة هي لسبب الشعور العميق بالظلم؟ والتناسي للقضية الذي تآمر فيه القريب مع البعيد؟ فبتنا وحيدين كما كانت صرخة الخالد أبوعمار الثائر البطل في بيروت ثم في المقاطعة، و(لاحياة لمن تنادي) في رام الله؟

وهل قيّض لهذا الشعب (المرابط المجاهد الثابت على الثوابت الصامد الجبار، كما وصفه في رباط الى يوم الدين محمد صلى الله عليه وسلم) أن يتخلى عنه حتى أقرب المقربين اليه استتباعًا للمستعمِرالعنصري المتحكم بالعقل والشهوة لدى هؤلاء وعبر نسائهم اللاهيات واطفالهم الرخوين! يا لها من مفارقة فاضحة!

وجدت الاخ أبومازن يتحدث ساخرًا، ويتحدث متألمًا بل الى درجة أن الالم يعتصره بتعابير وجهه العبوس ورنّة صوته المفرطة بالسخرية والتي تفتقد الأمل فيمن يكلمهم، أي لا أمل فيهم، لولا أمله بالله وعدالة القضية والشعب مما عبّر عنه بالفخر بشعبه ونضالاته.

في وجهه العبوس (من اسمه) تساؤلات محقّة أبعد مما قاله حيث يؤكد بلا قول للحضور: أنكم عجزة، وأنكم متآمرون، وأنكم لاشيء، وانكم تابعون! وأننا بضعفنا لمنتصرون، فلا تركنوا لسعالكم فترة الكورونا وتتحججون عن نصرتنا، هل هو يهدد؟ لا أظن هل هو يتوعد؟ لا أظن ولكنه يحمل شعارنا أن النصر لقمر فلسطين قادم.

أبومازن بضحكته المضغوطة التي لا تكاد تظهر الا بنصف ابتسامة كئيبة، وبوجهه عميق التعابير وبيديه المرتبطتين مع زاوية فمه المائلة، وبهزة كتفيه الخفيفة الى الأعلى ورنة صوته الحادة حينًا والرخيمة حينًا يصنع خطاب الألم والإنفجار.

بعد كل ذلك.

كيف من الممكن أن نرى خطاب أبومازن إن لم نراه ذو أمل عميق بالمستقبل. لذا أرجع القضية لأصلها وأصلها بالنكبة واللجوء، وما رافقها حتى اليوم من الخذلان والتخلي، حيث رنة الحزن واليأس والغضب والثأر، والأمل المقرون بالعمل معًا في نسيج فلسطيني عجيب.

لقد أكد الرئيس أبومازن على أننا قبلة الشرق الاوسط، (الرقم الصعب في معادلة الشرق الاوسط بصيغة ابوعمار) مهما ادلهمت الخطوب، فالقرار المستقل لنا، ولن يكون الا ما يريده هذا الشعب البطل.

وفي خطابه لم أشعر ولو لحظة أنه حصل على دعم ذو قيمة من دولة عربية مؤثرة (بالمصالح) على ثلاثي الشر الذي أعلنه صراحة ما ذكرني قليلًا بحزب التحرير بالحقيقة الذي يرى المشكلة دومًا مرتبطة بالانجليز، وكأنني سأبدل مواقع التحليل لاقترب من رؤيتهم هذه!

وهو أيضًا مما اشتممته من رائحة الخطاب (الشايطة) أن الاوربيين أصبحوا اليوم أبعد ما يكون عن فلسطين، وهو استنتاج منطقي لما يحدث من الحرب العالمية الاأمريكية-الاطلسية ضد روسيا والعكس على أرض أوكرانيا لذلك كانت صرخته النهائية أريد حًلا.

لنتأمل التالي ما خطرلي ذكره ارتباطًا بالموضوع المصلحي العالمي والحرب العالمية القائمة وموقع فلسطين المتدني (ترامب حذر الناتو من خطورة اعتماد أوروبا على الغاز الروسي، وطالب ألمانيا تحديدا للبحث مصدر آخر للموارد الطبيعية الروسية لأنها تعمل على تقوية النفوذ الروسي في أوروبا، وحذر الاتحاد الأوربي من الضغط لضم اوكرانيا الى (ناتو) ما سيستفز روسيا ويرجع بوتين الى الزاوية، وأوربا في وضع استراتيجي ضعيف. وهذا قد يؤدي الى حرب-من مذكرات “كوشنير” (صفحة 97))

إن خطاب القيم والمباديء وخطاب العدل والحق في مواجهة القوى العظمى لا يصمد بتاتًا (قليل من القطران على حد قول نبي العالم) فلقد كان ممن سبقنا خطاب مماثل، ولم يلتفت اليه أي من الاستعماريين الذي باتوا يحكمون العالم بقلبه وعقله وحاجاته حتى في نوع مأكله ومشربه ورفاهيته مما أبعد الناس أجمعين عن عقلية الثورة والنضال والمقاومة الا من رحم ربي بالمنطقة أي الشعب العربي الفلسطيني البطل.

(أريد حلًا) نعم. والحل هو بالموقف الوطني الموحد لا غير بدءًا من حركة فتح كما قال الأخ جبريل الرجوب ثم للوطني حيث الفصائل كافة، وبعودة الحائط العربي الصلب الذي لا مناص منه قبل أن ينهار كليًا، فحين يُعاد تركيب العالم اليوم في ظل قوى صاعدة وتلك المتقهقرة بإذن الله، وجب التركيز على الوطني والداخلي أساسًا، حيث تجب العودة سريعًا للبيت الداخلي وإعادة التمسك باللحمة الداخلية والمشروع الوطني الموحد، (ومن ورائه العربي والاقليمي الداعم)، والذي من الممكن أن تكون النقاط الواردة في خطاب الرئيس أبومازن مشعلًا لمبادرة قوية ودعوة ثرية لطاولة حوار مفتوح لكافة الفصائل والقوى السياسية والمجتمعية في فلسطين فمن هنا تكون البداية ويبدأ الحل.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى