بكر أبو بكر: الابداع حيث تكون أنت!

بكر أبو بكر 4-10-2025: الابداع حيث تكون أنت!
في بداياتي كخريج جديد وبعيدًا عن طبيعة العمل الوظيفي، وفي الإطار التنظيمي كُلّفت بعمل محاضرة ضمن دورة تحت عنوان الاتصالات في التنظيم السياسي، وكان هذا التكليف مباشرًا من الأخ أبوعلي المطري رحمه الله أسد الإدارة وقنبلة التنظيم وفكر التجدد الثوري، فانتابتني الحيرة! فهذا الأمر ممّا لم أدرسه أو أعلمه، فما هي الاتصالات؟ والتي طرقت ذهني بالطبع حينها بمعنى أدوات الاتصال فقط كهاتف وخلافه! حتى علمت لاحقًا ومع قليل من التوضيح، وكثير من السؤال واللقاءات المباشرة مع أساتذة مختصين، والبحث في المكتبات والقراءة (لم يكن بعد هناك البحث عبر محركات البحث في الشابكة (انترنت) أو الذكاء الاصطناعي) أن الاتصالات هي حقيقة العلاقات المتبادلة التأثير بين البشر فأعطاني المرحوم أبوعلي المطري مفتاحًا أساسيًا من مفاتيح النمو والتطوير الذاتي اللاحق.
كثيرًا ما راودتني فكرة أنني أستطيب العيش منعزلًا مع أفكاري وتأملاتي حتى قبل أن تتكوّن وتتكاثر وتُكتب، ما أدى الى أنها ملأت لاحقًا عديد الكتب والمقالات والدراسات. منعزلًا لكن في محيط مليء بالضجيج! وهو ما تبدى لي لاحقًا بفكرة العيش بهدوء ذاتي بالمدينة وضمن الصخب، أو انعكاس لما يسمى الشخصية الانطوائية، مقابل الشخصية الانبساطية، وكان هذا مفتاح آخر استخدمته للاطلالة على مفهوم ومعنى الشخصية أو الشخصيات من مختلف النظريات حتى وصلت للعام 2019 مع نظرة هامة بالأمر، توافقت مع معتقداتي بهذا الشأن، وتفصيل بالموضوع من كتاب “الهدوء: قوة الانطوائيين في عالم لا يتوقف عن الكلام” للكاتبة المحترفة سوزان كين! (هو صدر بالانجليزية عام 2012م).
وما كان أن استفدت من هذين المفتاحين وغيرهما في سياق العمل الحركي والتنظيمي والسياسي وأثناء الدورات منذ عملي نائبًا لمفوض التوجيه السياسي والوطني عثمان أبوغربية، ثم عملي مساعدًا مع الأخ هاني الحسن مسؤول التنظيم في فلسطين، ومَن تلاه من أخوة، وألفتُ كتابًا تحت عنوان: بناء الشخصية بين روح الحكمة والعاصفة صدر عام 2022م.
كان للمفكر الكبير خالد الحسن “أبوالسعيد” دورًا في الإطار الفكري عندي، كما كان لمحمود علي أبوبكر والدي رحمه الله، وكما كان لصلاح خلف “أبوإياد” ممّن التقيتهم بالبدايات الطلابية ما زوّدني بمفاتيح ذهبية حول مجالات ومساحات نظرية وفكرية متعددة كان لا بد من طرقها، وكما الحال مما استقيته من مناهل عشرات المفكرين والكُتاب والروائيين العرب والأجانب الذين قرأت لهم بتفكر واستمتاع-قد نتعرض بتفصيل أكبر لاحقًا- وهو ما استهلك مني 40 عامًا لاحقًا، لم أكلّ فيها عن البحث والتقصي والدرس والتعديل والتطوير سواء في الذات أو في المفاهيم والنظريات وفي عالم الأفكار وفي التطبيق والمسلكيات.
فاجأني الأخ الصديق الذكي واللمّاح كميل السيلاوي بشريط لأحد المدربين المعروفين يتحدث فيه عن الابداع! وكان ذلك في العام 1994 أو حول هذا التاريخ في عمّان، (كان نظام الشرائط تلك الأيام يعرض إما بنظام “بيتامكس” او “في اتش اس” VHS في جهاز العرض-الفديو، الملحق بالمرناة “التلفزة”) وللحق كان الشريط ملهمًا وأساسيًا كما هو حال المدرب الجميل الذي قدم العرض من على مسرح وأمام حضور كثيف.
كانت فكرة الابداع بمعنى “استخدام الإنسان لخياله لابتكار أفكار جديدة، وحل المشكلات، والتفكير في إمكانيات لم يسبق لأحد أن فكر فيها.” تستهويني لا سيما وأنني فيما سبق من سنوات الدراسة كنت قد قلّبت وقرأت آلاف الصفحات والكتب ذات البُعد المفتوح من قصص وفكر وسياسة وشخصيات وتاريخ…الخ، وأحيانًا أو كثيرًا ما كانت تلك القراءات تطغَى على الدراسة، ومهما كان من أمر فإنها –وعوامل أخرى بالقطع-حرثت بالنفس سعيًا نحو التجدد دائم، ونهمًا للثقافة لم ينضب حتى الآن.
ما بعد الخروج من الكويت والمستقبل المجهول كنت على عتبة القفز الى مرحلة واسعة في طبيعة العمل، وأيضًا في الكتابة الابداعية التي تنقلت فيها لاحقًا بين القصة القصيرة والنصوص النثرية والمقال السياسي والاتجاه الفكري بمعنى أن الشريط (الصلب) المذكور عن الابداع للدكتور طارق سويدان، كان فاتحة إشعال لأختط من خلاله مسارًا اتخذ وضعيته في إطار الابداع الفكري والأدبي والثقافي والتنظيمي والتدريبي.
الأخ أبوماهر غنيم مسؤول التنظيم في حركة فتح الذي عملت معه في تونس (1991-1996م) أي بعد الخروج من الكويت مختصًا بإعداد الكوادر والتدريب، كان رأيه أن أكثف من الأفكار وأتخصّص أكثر ما بين الكتابة الابداعية الأدبية أو الفكرية حيث كان يفترض الارتباط بأحدهما، ولكنني طوّعتهما معًا فكانت لي من التأثيرات من هذه على تلك والعكس.
أنهيت الدراسة في كلية الهندسة بجامعة الكويت، وعملت مهندسًا مدنيًا لعامين لم أجد فيهما ما هو ملهم أومثير مما جعلني ولأسباب أخرى انتقل للعمل في إطار الثورة الفلسطينية، ومازلت حينها أي بعد التخرج بعامين أوثلاثة في مرحلة تلمّس المستقبل.
لا شك أن مرحلة الدراسة الجامعية ثم عملي في الاتحاد العام لطلبة فلسطين وما تلى ذلك من العمل في الإطار الحركي لحركة التحرير الوطني الفلسطيني-فتح في الكويت كعضو في قيادة الحركة، ولاحقًا في تونس ثم فلسطين، أن جعل من التحديات عامة كبيرة مقرونة بتلك الشخصية، فماذا تريد مني فلسطين؟ وإلى أين تذهب القضية؟ وما هو دوري فيها؟
بعد أن طلّقت العمل في الهندسة وانتقلت للعمل التنظيمي والفكري والسياسي لم يكن الأمر سهلًا قط من جميع النواحي، ومن ضمنها فكرة الوصول للمبتغى المطلوب أو تحقيق الذات في إطار الخدمة العامة (لاحقًا فهمنا معنى الحاجات الانسانية في هرم “ابراهام ماسلو” الخماسي، ثم الثُماني بعد أن عدّل على نظريته، حيث يتموضع تحقيق الذات، والسمو الروحي في الدرجات العليا من سلم أو هرم ماسلو).
كانت فكرة ماذا يجب أن أقدم لفلسطين؟ بشكل ملموس، وبسياق رضا الله سبحانه وتعالى ارتباطًا بتديّني منذ النشأة وحقيقة شخصية والدي ابن مدينة حيفا التي أحبها ولم يترك الحياة الا بعد أن عاد لها عام1997م ورآها ثم أغلق عينيه. وما استمر معي هوالهاجس المحفّز والمحرّك، ومما لا شك فيه أن الترابط بين الذاتي والجماعي وبين الرغبة والطموح وبين الرغبة والعمل على تحقيق الهدف سارت بي خطوات سريعة الى الأمام مع كثير من العثرات في مجالات تربية النفس وتهذيب السلوكيات، وفي فن الكتابة والحديث والاتصالات وحُسن الاستماع والابداع في مجال تعانق اللغة العربية مع مفاتيح الأبداع في إطار العمل السياسي والتنظيمي والوظيفي ثم في إطار الدورات التكوينية (التدريبية) وإصدار الدراسات والكتب (أكثر من 30 كتابًا حتى الآن من عام 2025م)، والقراءة العميقة والتحليل وكتابة المقالات والمدونات ما أصبح خبزي اليومي.
ما أريد الإشارة له هنا أن امتلاك مفاتيح النمو أو التقدم او الابداع قد يعطيك إياها شخص ما، وقد تجدها في بطن كتاب مُلهم، أو شريط مؤثر، أو من خلال موقف عظيم أو كريم أو عارض! وقد تنظر لها من زاوية الاعجاب بشخصية محددة، وقد تتخذ من ذاتك المتعالية عن الأرضي مساحات لا محدودة تعمل في حقلها حرثًا وزرعًا وسقاية حتى تنبت وتُزهر، بل ولك أن تجعل من كافة المشاكل والأزمات التي تحيط بك أو تمرّ بها مدرسة للتعلم تعطيك من المفاتيح الكثير لتتجاوز عبر البوابات المفتوحة في عقلك وروحك كثير من الآلام والعقبات التي فهمتها بوعيك التحديات التي لولا ذلك لوقَفَت بينك وبين الجانب الآخر للنهر سدًا منيعًا.
فترة عضويتي في الأمانة العامة لاتحاد كتاب وأدباء فلسطين وما تلاها أيضًا تعرفت على عديد كُتّاب (أدباء) كانوا ينظرون لفكرة الابداع بالنصوص أنها ما يتعلق بالشعر والنثر والنقد وهكذا أي بالإطار الأدبي البحث فقط، جاعلين من الكتب العلمية التجريبية، والانسانية خارج الموضوع ما ثبت عدم صحته لأن الكتابة الإبداعية الأدبية شيء والابداع العلمي بالتجدد شيء آخر وما غيرهما من إبداع فكري يختص بالمفاهيم والنظريات المجتمعية والسياسية والاقتصادية وهكذا وصولًا للابداع الفني والاعلامي بأشكاله المختلفة.
نشطتُ فترة عقد الورشات والدورات للكوادر والأعضاء في فلسطين أن أطرق عديد الأبواب (فكرية وسياسية وتاريخية وتنظيمية ومسلكية وبناء الذات وبناء الفريق والجماعية والجوانب الإدارية….الخ) وهذا ماحصل ومنها باب الابداع فلم أجد حينها في المتاح بالمراجع العربية إلا التوصيف للأبداع والتعريف دون الذكر العملي؟ أي كيف لك أن تصبح مبدعًا؟ عبر تقنيات محددة؟ وهو ما وجدته للأسف في عديد المواقع الانجليزية فقط دونًا عن العربية لوقت طويل بالإضافة للشريط الذي زودني به كميل.
رغم أن بحثي العميق اللاحق في التراث العربي، وعديد كتبه قد أثار لدى الكثير مما اكتشفته في قدرة العرب (هنا المقصد بالعروبة عرب اللسان حيث ضمن الحضارة العربية الاسلامية تجد عرب القومية، وتجد فرسًا وعلماء ومبدعين من آسيا الوسطى وأكرادًا وأمازيغ …..الخ) على طرق هذا الباب من خلال ما قدموه وإن بمسميات أخرى.
يقولون لك في بطون الدراسات والكتب أن الإبداع هو “استخدام الإنسان لخياله لابتكار أفكار جديدة، وحل المشكلات، والتفكير في إمكانيات لم يسبق لأحد أن فكر فيها. وهو قدرة الفرد على التفكير خارج المألوف” مما اكتشفناه لدى روّاد حضارتنا فلم هذا عليهم بجديد.
حين نتعرض اليوم لعلم الاتصالات مثلًا كان يعرفها ابن المقفع أو الجاحظ باسم آداب المجالسة، وحين نعرض لحُسن الاستماع والانصات نجد مئات النصوص العربية تعلّم وتفيد وتبذّ الجديد. وكذلك الأمر حين يكون فن الحديث (أو الخطاب/الخطابة) هو العنوان. وحين نطرق باب علم النفس أو علم الاجتماع أو علم الإدارة أو علم التنظيم من الانسانيات (ما تخصصت به لاحقًا ارتبطًا بمهمة التثقيف والتعبئة والدورات التنظيمية) وما انبثق عنهما لا يمكنك قط أن تغفل عظيم الاستفادة من الكتاب الأعظم من القرآن الكريم، وعلماء التفسير، ومن مضامين أحاديث سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وما خلّفه المؤرخون والإخباريون والمؤلفون بالحضارة العربية والاسلامية طوال مئات السنين الى اليوم.
حين نتعرض للابداع الأدبي كان شعراء العرب الكبار يقدمونه بمنطق الاتيان بالجديد الرائع والجميل والمُبهِر، مما تجده في شعر البحتري والفرزدق وشاغل الدنيا والناس المتنبي، ولدى أحمد شوقي والجواهري ونزار قباني وبيرم التونسي ومحمود درويش…، دون أن يتعرض لذات اللفظة المستخدمة بالضرورة مثلًا لكنه بالفعل يحققها إلهامًا وطلاوة وتأثيرًا.
بعد أن كان الابداع (وغيره من قدرات أو مواهب انسانية…) يقترن بفكرة أنه موهبة للبعض دون الآخرين، تحتاج –لدى الموهوب المختار فطريًا فقط-للتحفيز وصولًا للاستنارة مما حفلت به المراجع العربية قديمًا على الشابكة وهو كنت قد اطلعت عليه ووجدته ناقصًا، قفزنا عبر مفتاح العلم الموصول من المهد الى اللحد لامكانية تعلم أو التدرب على أي مقدرة أو تطوير أي موهبة فيك لتتحول الى مهارة كما الحال عندما نتحدث عنه أي الابداع.
وعليه رأينا من تقنيات أو استراتيجيات أو طرق الوصول للابداع التالي: رسم الخرائط الذهنية، التفكير الإبداعي/العصف الذهني، كتابة الأفكار، تقنية إعادة تصورالأفكار عبرالنقاط التالية وهي “استبدال”، “دمج”، “تكييف”، “تعديل”، “استخدام آخر”، “استبعاد”، “عكس”. وهناك تقنية لعب/تمثيل الأدوار، رسم القصة المصورة، واليك سراطية (استراتيجية) أو طريقة تغيير وجهات النظر من خلال 3 عقول الأول الحالم: تخيّل الحل الأمثل دون قيود. والثاني الواقعي: فكّر في كيفية تطبيق هذا الحل عمليًا. والثالث الناقد: حلل نقاط الضعف والتحديات.
لا بل وقرأنا وطبقنا تقنية خماسية لماذا؟ أي كرر السؤال لماذا خمس مرات لتجد الجواب، ويمكنك تعلم او التدرب على ربط المختلفات لتشكيل شيء جديد، او استخدام تقنية الكلمات العشوائية، وأيضًا التفكير المجازي، والنظر في الاختلاف والائتلاف بين الأشياء، وقد يساعدك كثيرًا سماع الموسيقى، والسياحة بالطبيعة، وكتابة الشعر والكتابة عموما، ولا تقلل من أمر الخربشة على الورق، ومما لاغنى عنه من قراءة الكتب او الاستماع لمدونات صوتية او مرئية، والتأمل.
الابداع هو قدرة قابلة للتنمية كما الحال مع قدرات كثيرة موجودة داخل الانسان، كل انسان، ليس له الا أن يكتشفها أو قد يكشفها فيه آخرون، وما أن يستقبلها بترحاب ويركّز فيها ويظهرها ويضعها هدفًا أمامه، ويتخذ عدّته لتنميتها وتطويرها بالقراءة والمِران والتدريب والمثابرة، الا وتحولت الى مهارة معجزة وقد ترتبط بابداعات وتجدُد واختراعات وتفرّد.