أقلام وأراء

بكر أبوبكر يكتب –  حركة فتح والفكر السياسي الواقعي

بكر أبوبكر – 22/10/2021

يقول الله سبحانه وتعالى لكل من موسى وأخيه هارون عليهما السلام وهما في حالة خوف ومهابة من لقاء واحد من أعظم المستبدين الطغاة على وجه البسيطة في زمنه، في الآية 44 من سورة طه ” فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ”، والتي فيها يقول ابن كثير في تفسيره “هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهو أن فرعون في غاية العتوّ والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك ، ومع هذا أمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين”، وفي سياق المعاملة باللين والتسامح حتى للمخالفنتأسى ونقتدي، حيث كرّست فتح في تاريخها ما أسمته “قانون المحبة” الذي يكاد يتجاوز عن الكثير وأيضا وفق بيت الشعر الذي لطالما ردّده أبوعمار وأبوإياد وأبو الأديب وصحبهما حين الاختلاف وهو المنسوب للإمام الشافعي: عين الرضا عن كل عيب كليلةٌ* ولكن عين السُخط تُبدي المساويا. في سياق آليات التعامل الثنائي أو الجماعي بين الأخوة وهي مقدمة أحببت البدء بها قبل الولوج لعرض الأفكار الشمولية والفكر الواقعي السياسي عامة وفي فتح.

أولا: يشكل الفكر الشمولي فكرًا إقصائيًاأو أحاديًا يفترض الصِحّة المطلقة لما يحمله، فهو يمتلك نظرة شمولية كليّة وعالمية تجمع المعتقدات الصلبة والثابتة مع تلك المتغيرات وتخضع الثانية للأولى. ومن هنا نشأت في بدايات القرن العشرين في عالمنا العربي الفكرانيات (الأيديولوجيات) المتطاحنة، تلك الشموليات التي  تبلورت في ثلاثة اتجاهات: الفكر الشيوعي الاشتراكي وفي الفكر القومي، والفكر الاسلاموي وتفاتلت زمنًا طويلًا. ومنها ما ساد فترة ثم باد الى أن أسفر العالم اليوم عن انتهاء عصر الفكرانيات عامة رغم المزايا والعيوب التي تحيط بالفكرة.

فمثلًا يمكننا القول أن الفكرة الصلبة (الأيديولوجية) بمنطق الايمان الصلب والعمل الدؤوب لتحقيق الفكرة تتميز بنقطتين هامتين الأولى هي الصلابة والثانية هي القدرة على التحريض، بينما بالاتجاه السلبي فإننا نجد الجمود والتكلس وصعوبة التطور كما نجد تعملق مدرسة الفسطاطين أو المعسكرين التي لا ترى الآخر إلا مخالفًا يجب اجتِثاثه ولا ترى المساحة الواسعة من الألوان بين الأسود والأبيض.

ثانيا: فهم الصراع: في إطار الصراع العربي الإسرائيلي فُهِم الصراعُ صراع وجود مع الكيان الصهيوني الاستعماري الغازي لأرض فلسطين العربية، وفُهم الصراع في الأطر الأدنى أي بين قوى المقاومة الفلسطينية وبعضها صراعًا ثانويًا، بمعنى أن الصراع أو الهدف أو القضية المركزية هي فلسطين والصراعات الأخرى هي في الإطار الثانوي لا المركزي، ما لم تهضِمه جيدًا أجزاء كبيرة من التيارات الفكرانية التي اعتبرت جذريتها تشمل تلك الفئة المناوئة غير العدو المركزي، ومنه ظهرت الأحاديةأو الإقصائية أي إما معي او ضدي فكل من معي هو من أصحاب الأيدي المتوضئة (بالنسبة لتيارات مركزية في الاسلاموية) وكل ما خالفني فهم الخونة أو الكفار أوالمنافقين الأشد أو هم المستسلمين.

يمكننا القول أن أحد النظراتلمفموم الصراع أنه لا يعني القضاء على الآخر بالضرورة، وإنما قد يتخذ آلية حراكية للوصول لنتيجة إيجابية ضمن فهم منطق الحوار الذي في أحد أبرز تعريفاته “أن نفكر معًا” فكيف نفكر معًا إن لم نكن مختلفين، نقر باختلافنا، أن نفكر معًا لا أن نُفحم بعضنا البعض.

ثالثا: ما لايتقبله الشموليون والاقصائيون: قلنا أن الشموليين لديهم صعوبة في التطور الفكري والمسلكي الى حد الجمود، لذا فإن مفاهيم الديمقراطية والحوار والنقاش وآداب الاختلاف تكون عصيّة عليهم، وهي المنطلقة من المفاهيم الثلاثة الاساسية: الاعتراف ثم التفهم والتقبل ثم التجاور بمعنى إن لم اتقبل الآخر فكيف أراه أو أسمعه أصلًا وإن لم أتفهمه بأن أضع نفسي مكانه فكيف أقر له بالاختلاف، ثم ثالثًا في سياق الاعتراف والتقبل نصل للتجاور بمعنى قبولنا للمشاركة بالتجاور معًا بنفس المساحة، فليس أي منا يمتلك الحقيقة المطلقة او الصواب الذي ما بعده صواب.

رابعا: حركة فتح والوطنية: جاءت حركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح لتكرس المبدأ الجامع في ظل صراع الفكرنة “الأدلجة” من خلال طرح واضح ومحدد وبسيط وهو تحرير فلسطين، فأصبح هذا الهدف هو الخيط الذي يجمع شمل ثوب فلسطين، زاهي الألوان،أو كما أسمته أدبيات الحركة بوتقة صهر أو الوعاء المشتمل على تعددية الأفكار الناهدة نحو تحرير فلسطين، وهو ما نراه دون فذلكة أو فلسفة زائدة حين نُطلّ على فكر فتح من اسمها الرحب الرسالة،أو من “قسم الاخلاص لفلسطين” وهو قَسَم حركة فتح التي يُقسم أعضاؤها بالوفاء والاخلاص لفلسطين وليس للحركة، على عكس “الاخوان المسلمين” كمثال الذين يقسمون للحزب. ومن هنا انبثق فكرها الطليعي ليكرس أمورًا خمسة واضحة ومحددة الأول هو: الوطنية بالتكريس والتركيز والتخصيص لتحرير فلسطين دون سواها وبالمعطف العربي الدافيء، وثانيًا: بالتحرير باعتبارها رأس الرمح للأمة وبالوحدويةوبكافة السبل وصولًا لفهم الواقعية السياسية والمرحلية، وثالثًا: بالعقل الوسطي ضمن حضارتنا العربية الاسلامية، ورابعًا: بالكيانية ارتباطا بالمنظمة مدخلًا للوطن، ضمن قاعدة استقلالية الإرادة والقرار، وخامسًا: بقيم النظام الداخلي التي منها الديمقراطية والتشاركية.

خامسًا: المرفوضات الشمولية: سادت ثم بادت مئات المنظمات عبر التاريخ ومنها ما لايقل عن 800 تنظيم إسلاموي (فرقة، طائفة، جماعة…) كما الحال في الشيوعية والقومية الشوفينية، ولم يتبقى الا فكر الاسلامويين (الحزبيين) ، والاسلاميين (كلنا اسلاميين بغض النظر عن حجم الاقتراب من العبادات وبغض النظر عن الرأي السياسي) لذا وعبر مساحات التاريخ الزمني فإن خمسة محرمات قد تعاملت معها الحركة الاسلاموية وعلى رأسها “الاخوان المسلمين” وهي: الوطنية والقومية والاشتراكية والديمقراطية والعلمانية. بحيث انها اتخذت منها جميعًا موقفًا عدائيا (خاصة تيار قطب) ومن هنا كانت الشورى مُعلِمة وليست مُلزمة كما حال الديمقراطية حتى أقرت بالدخول لانتخابات مجلس الشعب المصري في الثمانينيات من القرن العشرين، وقد أرجع الفضل في هذا التطور للشيخ يوسف القرضاوي وكتابه حول هذا الشأن، أما الوطنية والقومية (كما كانوا يتندرون: وطنجية وقومجية تسخيفًا وتهكمًا) فلقد كانت منبوذة لأسباب عديدة الى أن أصبحت بعد 70 الى 80 عامًا تقريبا تعرف غالب الحركات الاسلاموية نفسها انها حركات وطنية كما تفعل حركة “حما.س”، و”الجهاد” في فلسطين (أنظر وثيقة خالد مشعل في الدوحة عام 2017، وخطاب السنوار 2021م) وفي هذا تطور كبير وفهم استغرق وقتًا طويلًا لتستطيع هذه المنظمات أن تلحق بفكر فتح الرحب والمنفتح.

أما الاشتراكية أو الاجتماعية فمازال النظر لها نظرة عدائية كما الحال مع العلمانية بمنطق التعريف الحدّي الأوحد الذي لا يرون غيره، وهو تبع لفكرة عدم قدرتهم على التطور الا بصعوبة شديدة وبعد مخاضات عسيرة ما جعل الغمامة حول العيون ترتبط بتعريف العلمانية ضمن خط محدد أنها مقابل أوضد الدين كما كانت المفاهيم الخمسة. وفي ذلك يسجل التطور الفكري حول فهم أو التعامل مع الفكرة من قبل المستنيرين الكثر أمثال د.راشد الغنوشي وعبدالإله بنكيران والشيخ الكبيسي ود.عبدالمنعم أبوالفتوح والرئيس رجب طيب أردوغان وغيرهم الكثير، رغم أنه الذي لا يمثل النواة الصلبة في التيار الاسلاموي الاخواني.

سادسًا: فكر حركة فتح الوطني التحرري المقاوم المرتبط بالقضية المركزية تطور من السلاح الى الدمج بينهما في مقولة “العمل العسكري يزرع والعمل السياسي يحصد، ومجنون من يزرع ولا يحصد”، وصولًا لاطلاق الانتفاضات والمقاومة الشعبية دون فكرة التخلي عن مجمل الأرض باعتبارها الإطار التعبوي التربوي الذي لا يزول، ودون التخلي عن حق استعمال كافة أشكال النضال على اعتبار انها حق، ومرتبط بعوامل عدة من تقدير الموقف العام والخاص ومن هنا نشأت فكرة المرحلية في النضال والواقعية السياسية التي بدأت تسبغ مختلف التنظيمات السياسية الفلسطينية التحاقًا بنهج حركة فتح.

*من محاضرة لنا في الندوة التمهيدية المسبقة لمؤتمر فتح الفكر السياسي والاجتماعي، والمنعقدة في نابلس تحت عنوان فتح والأفكار الشمولية، بتاريخ 16/10/2021م، في فندق الياسمين وبحضور ثلّة من الكوادر المتقدمة المميزة.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى