أقلام وأراء

بكر أبوبكر يكتب – بُعدان مختلفان في مساحة الرأي

بكر أبوبكر – 10/12/2020

كثيرٌ من الناس يجمدون عند موقف أو رأي أو فكرة معينة، ويقدسونها، ولا يقتربون منها مجددًا ولا يسمحون لغيرهم بمناقشتها على اعتبار أنها أصبحت من مفردات فكرهم الثابتة،أومن مرجعياتهم لذا فهم تجاهها لا يتغيرون ولا يتبدلون.

في المقابل فإن الحقيقة النفسية الانسانية المشابهة للماء هي أن من يركد يأسن،وفي بوتقة فكرالمتحجرعقليًاأن لا تغيير في مياهه فتفوح منه رائحة العطونة وربما دون أن يدرك ذلك، ومن هنا فإن القفزات في حياة الانسان الحيوي نقيض المتحجر ذو المياهالمتدفقةهي قفزات حقيقية وقد نقول ضرورية.

لربما في مراحل معينة يكون الانسان متصلبًا جدًا نحو أمر معين وما أكثر ذلك، وقد يخضع لتأثيرات المحيط أو الأصدقاء أو الأقاويل، أو المتغيرات العقلية والقلبية الكثيرة سواء في ذاته أو في متعلقات الشخوص ممن يتخذ بحقهم موقفًا،أو موقفا تجاه مواقفهم.

مناسبة المقال هنا هو حديث هاتفي طال في صبيحة يوم 9/12/2020 مع الأخ د.أحمد محيسن من الأصدقاء الذين قابلتهم في ألمانيا لأول مرة في العام ٢٠٠٧على الأرجح، مذكّرا لي بما مضى وتغيّر.

في سياق الفهم والتغيير وعبر السنوات سرتُ باعتقادي بين خطين فاصلين بالتفكيروالنظرفيهما من الصلابة المرتبطة بالنظام الحركي (القانون الحاكم ذو المرجعية الصلبةلتقييم الأشخاص) الكثير، ما انعكس على الأفكار والأشخاص والمواقف، وصولًا لخط تبني المرونة والوعي بضرورة الفصل بين نص النظام وروحه في عدد من الحالات، ومن جهة أخرى بين الأفكار قبولًا أورفضًا وبين الشخوص حبًا أو كراهية.

بمعنى آخر أن الرأي لصاحبه حين الاتفاق معه لا يعني الإعلاءء من شان قائله وكأنه مقدس لا يخطيء ولا يُمسّ ما هو شأو المؤدلجين اليوم، وعلى العكس فإن المخالفة بالرأي لا تعني الحطّ من قدر الشخص وكأنه قد أصبح واحدًا من الأبالسة، وهذان بُعدان.

أن معادلة الرأي والرأي المخالفكما أفهمها الأن يحكمها الايمان بمنطق الحوارثلاثي الأبعاد أي المرتبط بالاعتراف بالآخر، وبتقبله باختلاف مواقفه، وبتجاوره أي الإيمان بحقه على اختلافه أن يتواجد في المساحة العامة المشتركة حتى إن وجد أو لم يتواجد في قلبك فهما بُعدان مختلفان.

في السياق القيمي والاخلاقي أو في سياق أن الأرواح جنود مجندة كما أوضح بذلك سيد الخلقصلى الله عليه وسلم فهذههِبة من الله أن تحصل المحبة أو غيرها من المشاعر بثباتها أوتقلبها، ما لا يعني أن القبول الموقفي، وخاصة الموقف السياسي، يستدعي بالضرورة محبةشخصية، وما لا يعني أن الرفض للموقف يستدعي كراهية للشخص صاحب الموقف، هذان بُعدان.

بكل وضوح إن المحبة والاحترام والرفاقية والصداقة…الخ قيم ومشاعر متبادلة لا يؤثر فيها الاختلاف بالرأي بتاتًا، أو هكذا يجب أن يكون، ما يحتاج لسنوات من الجهد ولصراعات نفسية أو فكرية تهضم ذلك، ولا يؤثر في المحبة أو الصداقة أو الإيمانبالمشاركة حتى الخلاف السياسي الحاد ما يعني أن التقبل الفصائلي بين الأطراف، أو بين الأشخاص يجب أن يظل قائمًا حتى في حالة حِدة الخلافات.

اتصل الأخ د.أحمد محيسن معاتبًا على نص أو مقال لي كانت بدايات نشره في العام 200٧ ثم نشرته لاحقًا بشكل مختلف قليلًا ضمن كتاب لي تضمن عددًا من النصوص النثرية الأخرىتحت عنوان: صدر السماء الحافية، عام ٢٠١٢م كنت فيه قد أهديت النص النثري الذي حمل ذات العنوان للأخ د.أحمد محيسن وأخوينآخرين،وأشرت بالنص للأخ أحمد -ما تم أزالته بالكتاب- كما ذكّرني الدكتور مما نسيته، ومما أرسله لي لاحقًا مساء ذات اليوم موثقًا.

ما بين العام 200٧ والعام 2012 حيث صدر الكتاب وربما بزمن أطول تصارعت الحيوية مع التحجر، وجرت مياه كثيرة في النهر، وتغيرات في الآراء والمواقف التي منها لدي، ولدى الأخ أحمد الذي أصبح خارج الإطار الحركي لأسباب ليس هذا مجالها، وإنما المجال هنا هو النظر في سبب التغيير لما كنت قد ذكرته عن أبي كفاح بالنص الأول وأزلته بالثاني وهنا مكمن العتاب.

قلت له أن حق الكاتب أن يغيّر كما يشاء في نصّه هذا أولًا فهو ملكه وهو صانعه،وفي ذلك حيوية وربما رأي متغير والحيوية والتحجر بُعدان متناقضان، ولكن إضافة لما سبق فإن النص بالكتاب للعام 2012 هو لي قطعًا، كما سابقه،أما التغيير بالإهداءوالمضمون الذي تجاهله فلربما يعود لأنه أي الدكتور أحمد أصبح خارج الإطار الحركي، وقياسًا على النظام باعتباره المرجعية القيمية والسياسية، ولسبب خضوعيعلى ما أظن للربط الحاد حينها بين الموقف المخالف للأخ وعدم الفصل بين محتوى الصداقة وبين الخلاف السياسي.

إن مجرد الاتصال من الأخ أحمد معاتبًا ولو بعد هذه السنوات هو دلالة محبة يشهد الله عليها بيننا، كانت ومازالت، وهو الذي التقيته من سنوات قليلة مرة أخرى لربما في العام ٢٠١٦ في برلين، وهو يقف على مسافة من حركة فتح حيث اتخذ مواقفًا مغايرة قد تكون مقبولة أومرفوضةكليا أو جزئيًا من الكثيرين.

وبناء عليه فإنني في سياق حديثي الهاتفي معه شعرت بدفق العتاب الجميل والرشيقالمرتبط بالمحبة، رغم افتراق الرأي السياسي نحو عديد أمور ما أحببت أن أؤكد فيه هنا على المقدمة التي ابتدأت بها هذا المقال وفي السياق.

وجدت أن من حق الأخ أحمد محيسن أن يعتب من زاوية الصداقة والحُب والمودة، ولا يعتب عليّأوأعتب عليه من زاوية الخلاف في المواقف أو الرأي في عدد من الأمور المتعلقة بالوضع السياسي أو حتى الوضع الحركي والفلسطيني العام، وهذان بُعدان مختلفان كما سبق وذكرت.

وإنصافًا لأحمد (أبوكفاح) أنقل من النص الأول للعام ٢٠٠٧ ما كنت قد كتبته عنه وذكرني به موثقًا بمحبة غامرة لا يفرقها الاختلاف بالرأي: ((دخلنا برلين من بوابة رام الله حيث أبوكفاح خير الأخ ونِعم الصديق، رجلٌ من رجال الحديد قُدّ من نسيج جبال القدس وعيبال والخليل والجرمق، وحيث تربع جبل العاصور على أحد أكتاف مدينة رام الله التي قدم منها أبوكفاح)) مضيفا أن أبوكفاح جمع بين أسدية الصفات وإشراق النفس…..، ويظل بالنسبة لي كما قلت نِعم الأخ والصديق، والمعاتِب الجميل.

كل التحية للأخوة من كوادر حركة فتح في ألمانيا وكل دول الخارج ممن لي معهم خير الأوقات والصِلات والمشاعر الفياضة، بل وفي داخل الوطن قطعًا، ولا أريد هنا أن أعددهم كي لا أقع في ذات الإشكال، ولكن لأؤكد ثانية على المقولة السهلة التي تعلمتها بصعوبة وهي أن الاختلاف لا يفسدُ للود قضية وهما بُعدان مختلفان،والأمريجب أن يكون كذلك فهو ليس كلمة تُقال والسلام، وهناك دمل في القلب! بل نتعلمها بقسوة أحيانا، وبمحبة أحيانا.

(وَلوْ شاء ربُّك لجَعل النَّاسَ أمَّةً واحِدةً، ولا يزالون مُخْتلِفين إلاّ مَنْ رَحِم ربُّك ولذلِك خَلقهم) هود:118-119.

لذا لنحاول أن نفهم ونتعلم بانفتاح منطق الحيوية المناهضة للتحجر، ومنطق الأبعاد ومنطق الفصل بين الرأي والفهم وهو المتعدد والمتنوع، وبين حركة القلوب التي يجب أن تظل بيننا كمناضلين ومرابطين وأحرار عامرة، والله معنا.

فلسطين في رام الله ٩/١٢/٢٠٢٠م.

https://www.facebook.com/baker.abubaker

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى