
بشار مرشد 4-10-2025: فلسفة التنكّر والجحود… هندسة اليأس وتدمير الأمم
مقدمة:
لم تُبنَ الأمم بالحجارة وحدها، ولا بالثروات وحدها، بل على أكتاف من يصنعون المعرفة والعمل: المعلم الذي يصوغ العقول، المهندس الذي يبني البنية، الطبيب الذي يحفظ الصحة، القاضي الذي يحمي العدالة، الطيّار الذي يضمن السلامة في السماء، رجل الأمن والعسكري الذي يحفظ السلم، والعامل الذي يبذل جهده في كل زاوية من الإنتاج. هؤلاء ليسوا مجرد وظائف عابرة؛ فهم الذاكرة الحيّة للمجتمع وشرط أي نهضة حقيقية. إهمالهم يعني إهدار رأس مال لا يُعوّض.
فلسفة التنكّر والجحود:
التنكّر للكفاءات ليس مجرد خطأ إداري أو تقصير أخلاقي، بل هو فلسفة تعمل كمنطق مؤسساتي في كثير من الأحيان: تجاهل الخبرة، إقصاء المخضرمين، وحرمانهم من أي مكانة أو احترام. النتيجة ليست ظلمًا فرديًا فحسب، بل تآكُل في الثقة بالمؤسسات وهدر للمعرفة المتراكمة.
هندسة داخلية أم تدمير خارجي؟
يمكن لهذه الفلسفة أن تكون إما هندسة داخلية يقودها فاسدون يسعون لتوريث المناصب وجني المال عبر شبكات الولاء والمحسوبية، أو تدخلًا خارجيًا يهدف إلى استنزاف الدولة بتهميش كفاءاتها وإضعاف بنيتها المدنية والعسكرية والاقتصادية. في الحالة الأولى، يخلق الفساد طبقة مترفة تقتسم الغنيمة. وفي الحالة الثانية، تُستخدم سياسات وضغوط خارجية لإبعاد العقول وخلق فراغ معرفي يسهل السيطرة عليه. وفي كلا الحالتين، تفقد الدولة ذاكرتها وقدرتها على الفعل.
التنكّر بدافعين وخطر التقاطع:
يحدث التنكّر للكفاءات بدافعين، وكلاهما خطير:
الدافع الداخلي: شبكة فساد منظمة تعمل على جني المال وتوزيع المناصب على أساس الولاء والقرابة.
الدافع الخارجي: إضعاف المؤسسات عبر إزاحة الخبرات وزرع أشخاص تابعين لأجندات خارجية.
الأخطر هو حين يتقاطع الدافعان، فتتضافر مصالح الفاسدين مع الأجندات الخارجية، فتتحول عملية التنكّر من ظلم فردي إلى استراتيجية تدمير ممنهجة، تضعف الدولة من الداخل وتستنزف قدرتها على المقاومة والبناء.
من الجحود إلى صناعة اليأس:
يتحوّل التنكّر للكفاءات سريعًا إلى آلية منهجية لصناعة اليأس. تُغلق الطرق أمام المتمكنين، وتُستبدل الكفاءة بالولاء، ويصبح الأمل وظيفة قابلة للإلغاء. الفرد الذي أفنى عمره في خدمة عامة يجد نفسه محرومًا من أي منصة للتأثير، فتتآكل ذاته ويتحوّل إلى عامل مهدد لصحة المجتمع النفسية والمهنية.
التحول الطبقي وصناعة المفارقة:
النتيجة الاجتماعية واضحة: ينشأ انقسام حاد. يُهمَّش أصحاب الكفاءة على قارعة الطريق، بينما يتحوّل أصحاب الولاء إلى طبقة مترفة تملك الشركات والمناصب والفرص. تنهار الطبقة الوسطى، ويُستبدل الاقتصاد بالريّع، ويُغلق باب الترقي عبر الجهد والمعرفة. هذا الانقسام ليس ظرفًا عابرًا، بل مصنعًا لعدم الاستقرار.
أمثلة من الواقع العربي:
تتكرر الصورة في معظم البلدان العربية: مساعد طيار أجنبي أو خبير مستورد يتقاضى راتبًا ويُعامَل كخبير، أو مساعد مهندس يُمنح صلاحيات وامتيازات تفوق خبرته الفعلية، بينما تُهمَّش شهادات وخبرات خريجي الكليات والمهنيين المحليين. هذه أمثلة يومية لآليات إعادة توزيع القيمة: ليس حسب الكفاءة، بل حسب الشبكة والولاء الاقتصادي والسياسي.
دروس من التاريخ:
التاريخ لا يرحم من يستهين بالخبرة: أمم أفلست حين أهملت خبراءها، وأمم نهضت حين اعتنت ببنائها البشري. الحفاظ على الخبرة وتحويلها إلى مورد مؤسساتي هو الفرق بين الانحدار والنهضة.
البعد الفلسفي: هندسة لصناعة اليأس:
حين يصبح التنكّر سياسة — داخلية كانت أو بفعل ضغوط خارجية — يتحوّل اليأس إلى منظومة: طبقية، مؤسساتية، نفسية. الجحود هنا ليس خطأ عابرًا، بل تقنية حكم: تُضعف المجتمع من الداخل، وتُضعفه أمام الداخل والخارج، وتُحوّل المواهب إلى سلعة أو نفاية. معالجة الظاهرة إذًا ليست إصلاحًا وظيفيًا فحسب، بل ثورة ثقافية ومؤسسية لإعادة الاعتبار للمعرفة والعمل.
الخاتمة:
الاعتراف بالكفاءات وحمايتها ليس رفاهية أخلاقية، بل ضرورة استراتيجية لبقاء الدول. سواء كان التنكّر نتاج فاسدين داخليين أو أدوات خارجية، النتيجة واحدة: هدر للثروة البشرية وصناعة لليأس. عودة الكفاءات إلى موقعها ليست مطلبًا إنسانيًا فقط، بل شرط لاسترجاع القدرة على البناء والوجود السياسي والاقتصادي.