بشار مرشد: تسطيح العقول.. كيف تُدار السذاجة والشيطنة؟
بشار مرشد 13-12-2025: تسطيح العقول.. كيف تُدار السذاجة والشيطنة؟
المقدمة:
في العصر الذي نعيش فيه، حيث المعلومة لا تعرف حاجزًا، وحيث شاشات الأجهزة الذكية ووسائل التواصل هي بوابة العالم، كان المتوقع أن يرتفع الذوق العام وتنتصر المعرفة. لكن الواقع يشي بعكس ذلك: المحتوى الأكثر انتشارًا والأعلى مشاهدة هو غالبًا المحتوى “الأجوف”، الذي يعتمد على الإثارة الباهتة والدراما المفتعلة، أو التحليل المدفوع الثمن، أو ضروب التنجيم وتسطيح القضايا. السؤال هنا ليس مجرد “لماذا يشاهد الناس هذا؟”، بل “ماذا تخبرنا هذه المشاهدة عن حالة تلك المجتمعات؟”
في هذه المجتمعات تحديداً، يكتسب هذا التساؤل وزناً مضاعفاً. فهل توجه الجماهير نحو هذا المحتوى الهابط هو مجرد دليل على تدنٍّ طوعي في الوعي والذائقة الثقافية؟ أم أنه صرخة يأس مكتومة تعكس إحباطًا مجتمعياً عميقاً يدفع الفرد للبحث عن أي مسكّن سمعي أو بصريٍّ للهروب من قسوة الواقع؟ والأهم من ذلك كله، ما الدور القاتل الذي تلعبه الخوارزميات الجشعة و”غيلان الإعلام” في تغذية هذا الانحدار، محوّلة الرغبة في الترفيه إلى استهلاك إجباري للتفاهة وأداة لتغيير المفاهيم وتوجيهها؟ إنها معضلة معقدة؛ حلقة مفرغة بين اليأس الفردي والإغراء الرقمي، تتطلب منا وقفة للنظر في أبعادها الخطيرة.
بعض المسببات والعوامل لهذا المحتوى :
إن الإغراق في المحتوى الفارغ لا يمكن تفسيره بمعزل عن الظروف القاسية التي يعيشها الفرد في تلك المجتمعات. فبينما يرى البعض في هذا التوجه دليلاً على “تدنٍّ طوعي في الذائقة”، يغيب عنهم أن هذا الاستهلاك الكثيف هو في جوهره آلية دفاع نفسية و”هروب أسهل” من واقع مثقل بالهموم.
1. اقتصاديات اليأس والإلهاء
في تلك المناطق تحديداً، غالبًا ما تكون المشاكل المعيشية هي القاسم المشترك الأكبر. عندما يصبح تأمين الاحتياجات الأساسية صراعًا يومياً، تتضاءل قيمة المحتوى الذي يتطلب جهداً عقلياً للمتابعة، ويفضل الفرد البحث عن الترفيه الفوري والمجاني والمحتوى الهابط، لأنه يوفر له متعة فورية بتكلفة ذهنية صفرية، على عكس المحتوى الجاد الذي يتطلب تركيزًا ووقتًا قد لا يتوفران بعد يوم عمل شاق ومُنهك.
2. تخدير العقل: المحتوى السطحي يعمل كـ”مسكّن” مؤقت يخفف وطأة القلق والضغوط السياسية والاقتصادية. لا أحد يريد أن يُذكّر بضرورة التفكير في حلول معقدة، وهو بالكاد يجد حلاً لمشاكله الخاصة.
3. فقدان الثقة و”اللاجدوى”
إن العزوف عن المحتوى العميق ليس دائمًا ناتجًا عن الجهل، بل قد يكون نابعًا من الشعور بـ”اللاجدوى”. إذا كانت القضايا الفكرية والسياسية تُناقش مرارًا دون أن تُفضي إلى تغيير ملموس على أرض الواقع، يفقد الجمهور إيمانه بأن هذا المحتوى قادر على إحداث فرق. عندما تتراكم الإخفاقات المجتمعية، يميل الأفراد إلى الاستسلام لثقافة السطحية، حيث “لا شيء مهم حقًا”، وحيث تكون الأولوية لما هو سهل ومضحك ومستهلك، كشكل من أشكال التعبير السلبي عن الإحباط.
وبالتالي، يصبح المحتوى الهابط ليس مجرد خيار، بل هروبًا اضطراريًا يُشبه اللجوء إلى “زاوية مظلمة” على الإنترنت للإلهاء، حيث يسود الوهم بأن هذه التفاهة أقل خطرًا وأقل إيلامًا من الحقائق المرّة.
استبداد الخوارزميات:
إذا كان الجمهور يبحث عن الهروب، فإن غيلان الإعلام ومنصات التواصل لا تتردد لحظة في توفير هذا الهروب، بل وتأطيره بطريقة تضمن لها أعلى الأرباح. فالخوارزميات التي تحكم تدفق المحتوى لا تهتم بالقيمة المعرفية، بل تسعى لهدف واحد فقط: زيادة زمن بقاء المستخدم على المنصة لأطول فترة ممكنة.
1. الخوارزمية: آلة الربح لا الرقي
إن آليات عمل المنصات قائمة على اقتصاد الانتباه؛ في هذا الاقتصاد لا يتم مكافأة الإتقان، بل يُكافأ الاستفزاز والتفاعل العنيف.
2. تفضيل الصدمة على العمق: المحتوى الهابط، المعتمد على الدراما الشخصية والعناوين المضللة أو المواقف الغريبة، يحقق تفاعلاً فورياً (نقرات، تعليقات غاضبة، مشاركات ساخرة). يعتبر النظام هذا التفاعل “دليلاً على الجودة” ويدفعه إلى ملايين المستخدمين.
3. عقوبة الجدية: المحتوى الهادف الذي يتطلب وقتًا للتأمل أو نقدًا هادئًا غالبًا ما يفشل في توليد هذا التفاعل السريع، وبالتالي يتم دفنه في الأرشيف، مما يجعل وصوله إلى الجمهور صعبًا جدًا.
4. تسليع التفاهة: يخلق هذا النموذج حافزًا هائلًا لصناع المحتوى لتقليد الأنماط الرائجة، حتى لو كانت رديئة، لأنها تضمن لهم العائد المادي الأسرع والأعلى. يتحول الإبداع إلى مجرد مطاردة للترندات الفارغة.
غيلان الإعلام وتوجيه البوصلة:
الأمر لا يقتصر على صانع المحتوى الفردي، فـ “غيلان الإعلام” (الشركات الضخمة والكيانات المؤثرة) تستغل هذه الآليات لتحقيق أهداف أوسع:
1. تغيير المفاهيم وتوجيهها: من السهل ضخ المحتوى الذي يغير القيم الاجتماعية أو يسطح القضايا الوطنية تحت غطاء الترفيه، مستغلين حالة الإحباط العامة. يتم الترويج عمداً للمحتوى الذي يلهي عن القضايا الجوهرية، أو الذي يكرس ثقافة الاستهلاك غير المنتج.
2. التحليل المدفوع الثمن: يتم تداول “تحليلات” سطحية أو تقارير كاذبة تحت أسماء براقة، وهي في الحقيقة مدفوعة الأجر لتشويه الوعي أو الترويج لأجندات معينة، وتجد هذه التحليلات رواجًا لأنها تُقدم بـ”فورمات” الإثارة الرخيص الذي تفضله الخوارزميات.
إن الخوارزميات تحولت من مجرد أداة إلى حارس بوابات ثقافي قمعي، يفرض على الجمهور ما يجب أن يشاهد، محاصراً الوعي في دائرة مفرغة من الدراما الفارغة والتفاهة المبرمجة.
الخاتمة:
طوق نجاة في بحر التفاهة
إن معضلة رواج المحتوى الهابط في تلك المجتمعات ليست نتاجًا لسبب واحد، بل هي حلقة شيطانية؛ حيث يلتقي اليأس الاجتماعي الذي يولد الحاجة إلى الهروب مع الخوارزميات التي تتقن فن المتاجرة بهذا اليأس. لقد أصبحت التفاهة هي البضاعة الرابحة، وهي تهدد ليس فقط بـ”تدني الذائقة” وتشويه الذوق، بل بتسطيح الوعي الجمعي وتحويل الأجيال إلى مستهلكين سلبيين لا يملكون القدرة على التمييز النقدي والإبداع والإنتاج الحقيقي.
في مواجهة هذا السيل العارم، لا يمكننا أن نرمي اللوم كاملاً على الجمهور وحده. المسؤولية تتوزع على ثلاث جهات رئيسية:
1. المنصات والخوارزميات: يجب أن تخضع هذه الشركات لضغوط مجتمعية وإعلامية تدفعها لتبني معايير أخلاقية لا تقتصر على “وقت بقاء المستخدم”، بل تشمل القيمة والجودة المعرفية.
2. المؤسسات التعليمية والإعلامية: تقع عليها مسؤولية قصوى في تعزيز التربية الإعلامية وتدريب الأفراد على التمييز بين المحتوى الهادف والمحتوى المضلل، حتى يصبح الوعي النقدي ملكة راسخة.
3. صانع المحتوى الجاد والجمهور الواعي: فالاصلاح يبدأ من هنا. يجب على المبدعين الجادين عدم الاستسلام لإغراء التفاهة، والاستمرار في تقديم محتوى ذي قيمة مهما كان الطريق طويلاً. كما يجب على الجمهور أن يمارس “الاختيار الواعي” ويخصص جزءًا من وقته للمحتوى الذي يُثري العقل لا الذي يُخدره.
إن الانغماس في التفاهة هو ترف لا يمكن لمجتمعاتنا تحمّله. إنها دعوة أخيرة لرفع سقف التذوق، ليس من باب النخبوية، بل من باب الضرورة الوجودية للحفاظ على بوصلة الوعي والارتقاء، قبل أن تصبح التفاهة هي اللغة الوحيدة المشتركة بيننا.


