بشار مرشد: “المعارضة المتأخرة”: حين يصبح “أبناء النظام” أشد خصومه!
بشار مرشد 21-12-2025: “المعارضة المتأخرة”: حين يصبح “أبناء النظام” أشد خصومه!
مقدمة:
في المشهد السياسي، تبرز ظاهرة جديدة تثير الكثير من التساؤلات والجدل: مسؤولون قضوا سنوات في سدة الحكم، وزراء تقلدوا حقائب سيادية، وسفراء مثلوا الدولة في الخارج، يتحولون فجأة —وبعد مغادرة كراسيهم— إلى “ثوار” ومنتقدين شرسين للمنظومة التي كانوا جزءاً أصيلاً منها. فهل نحن أمام “صحوة ضمير” وطنية، أم هي استراتيجية “تبديل جلود” للبقاء في دائرة الضوء؟
المؤسسة بريئة.. والخلل في “الأداء الفردي”:
إن أولى حقائق هذا المشهد هي ضرورة الفصل بين “المؤسسة الوطنية” ككيان شرعي يخدم الشعب، وبين “الأداء الفردي” للمسؤول. فالهجوم الذي يشنه بعض هؤلاء لا يستهدف غالباً مواطن الخلل الإداري أو التقني بدقة، بل يذهب مباشرة لنقد “النظام ككل”. هذا التعميم ليس إلا محاولة للهروب من المسؤولية الشخصية؛ فالوزير الذي فشل في تطوير وزارته، أو السفير الذي افتقر للبراعة الدبلوماسية في انتزاع حقوق سياسية، يجد في “شيطنة المنظومة” شماعة مثالية يعلق عليها ضحالة إنجازاته.
التنافر المعرفي: من “المشروع الوطني” إلى “المشروع الحياتي”:
يكمن التناقض الصارخ حين كان المنصب في نظر هؤلاء “مشروعاً وطنياً” طالما أنهم فيه، ليتحول فجأة إلى “مشروع فساد” بمجرد خروجهم منه. هذا السلوك يعكس “انتهازية سياسية” واضحة؛ حيث يتم ربط صلاح المؤسسة بوجود الشخص في قمتها. إنها حالة من “التنافر المعرفي” حيث يحاول المسؤول السابق إبراء ذمته أمام الشارع بتبني خطاب هجومي لغسل تاريخه الوظيفي، متناسياً أنه كان يوماً ما هو “صاحب القرار”.
النقد الحقيقي لا ينتظر الخروج من المنصب:
النقد البناء لا يبدأ بعد فقدان السلطة، ولا يُختزل في مهاجمة “النظام” ككيان عام. فهو يتطلب تحديد مكامن الخلل بدقة وتحمل المسؤولية عن القرارات التي اتُخذت أثناء التواجد في السلطة. الشخص الذي يظل صامتاً طوال فترة توليه المنصب ثم يتحول إلى ناقد شرس بعد فقدان النفوذ، لا يقدم إصلاحاً، بل يحوّل النقد إلى أداة للمزايدة أو التسويق الشخصي، بعيداً عن المصلحة الوطنية.
النقد كأداة “ابتزاز” أو “تسويق”:
خلف ضجيج التصريحات والاتهامات تختبئ أهداف براغماتية بحتة، يمكن حصرها في مسارين:
رسائل للداخل (شراء السكوت): استخدام “أسرار الصندوق الأسود” والمعلومات التي اطلعوا عليها للضغط على النظام الحالي، أملاً في العودة لمنصب آخر أو الحفاظ على امتيازات معينة كـ “ثمن للصمت”.
رسائل للخارج (أوراق اعتماد): تقديم أنفسهم للمجتمع الدولي كـ “بدائل إصلاحية” نظيفة قادرة على قيادة المرحلة القادمة، وهو تكتيك يهدف لاستثمار المصالح الدولية التي تبحث دائماً عن وجوه مألوفة تتقن خطاب “الشفافية”.
غياب المساءلة.. بيئة خصبة للمزايدات:
ما كان لهذه الظاهرة أن تتفشى لولا غياب أدوات الرقابة الحقيقية. ففي غياب “المحاسبة القضائية” التي تسأل الوزير: “ماذا قدمت؟”، تحول النقد إلى فضاء من شتائم، تهجم، وتكفير، يفتقر للرصانة السياسية والأخلاق المجتمعية. النقد الحقيقي هو الذي يضع الأمور في مسمياتها ويحدد العقبات القانونية والإدارية، أما “الردح السياسي” فهو مجرد ضجيج يسعى أصحابه من خلاله لحجز مقعد في قطار المستقبل للانتفاع الشخصي فقط.
خاتمة:
إن الوعي الشعبي اليوم، وإن كان مستتراً، أصبح يفرق جيداً بين المصلح الحقيقي الذي ينتقد السياسات لتصويبها، وبين الانتهازي الذي لا يرى العيوب إلا بعد أن يفقد “الكرسي”. حماية المشروع الوطني تبدأ من حماية المؤسسات من “شخصنة الفشل”، ومنع تحويل النقد السياسي إلى وسيلة للمقايضة على المصالح الشخصية.
مركز الناطور للدراسات والابحاثFacebook



