منوعات

بشار مرشد: الإعلام الرقمي… من منبرٍ للمعرفة إلى ساحةٍ للفوضى

بشار مرشد 12-10-2025: الإعلام الرقمي… من منبرٍ للمعرفة إلى ساحةٍ للفوضى

مقدمة:

مع اتساع فضاء الإعلام الرقمي، لم يعد الجهل حبيس المجالس الضيقة أو النقاشات العابرة، بل وجد طريقه إلى الملايين بلمسة إصبع. صارت المنصات منابر مفتوحة لكل من يملك صوتًا، لا لكل من يملك علمًا. في البداية، بدا ذلك فتحًا حضاريًا يوسّع دائرة التعبير، لكنه سرعان ما تحوّل إلى فوضى فكرية تُكافئ الأكثر ضجيجًا لا الأصدق برهانًا.

نشأت بيئة رقمية تشبه السوق الصاخبة: يختلط فيها العالم بالمدّعي، والمجرِّب بالعابث، والعقلاني بالمهووس. اختلطت الحقائق بالظنون، وتبدلت معايير الصدق من الدليل إلى عدد الإعجابات والمشاهدات. ومن هذا الهذيان الجماعي خرجت أفكار تنافي المنطق والعلم، تتحدّى التجربة وتستهزئ بالبرهان، ثم تجد جمهورًا يصفق لها، لا لأنها صحيحة، بل لأنها مثيرة ومريحة نفسيًا.

أخطر ما في هذا المشهد أنّه لا يكتفي بتزييف المعرفة، بل يُقوّض ثقة الناس بالعلم نفسه، فيزرع الشك في المنهج، ويُقدّس الشعور مكان العقل. فصار من السهل أن نسمع من ينكر الطب الحديث، أو يهاجم الفيزياء، أو يروّج لوصفاتٍ سحرية، أو يعبث بالكهرباء والنار أمام الكاميرا وكأنها ألعاب. كل ذلك باسم “الحرية” و”حق التعبير”، بينما الحقيقة أن ما يُمارَس هو اعتداءٌ صريحٌ على الوعي العام وسلامة المجتمع.

جائحة فكرية تمسّ كل مجالات الحياة:

هذه الجائحة الفكرية لم تتوقف عند حدود العلم وحده، بل امتدّت إلى كل مجالات الحياة دون استثناء. أصابت السياسة، فاختلط الرأي بالمؤامرة حتى ضاعت الحقيقة بين التضليل والدعاية. وسرَت في الاقتصاد، فامتلأت المنصات بخرافات “الثراء السريع” وعمليات الاحتيال المقنّعة بثوب الاستثمار. أما في الطب والعلاج، فقد صار كل صاحب هاتف “خبيرًا” يدّعي وصفةً سحريةً أو علاجًا بديلًا بلا علمٍ ولا ترخيص. وحتى الثقافة والزراعة لم تسلما من العدوى؛ فانتشرت نصائح زراعية مدمّرة، ومقولات ثقافية تُزيّف التاريخ وتشوّه القيم، تُقدَّم جميعها بوثوقٍ مدهش، وكأن الجهل صار مصدرًا للثقة.

لقد تحوّل الإعلام الرقمي إلى مسرحٍ واسعٍ يُمثَّل عليه كل ما يمكن للعقل أن يصدّقه أو يرفضه، بلا حارسٍ من المنطق ولا رقيبٍ من الضمير. وما لم يُدرك صُنّاع القرار أن هذه العدوى المعرفية تخرّب بنية التفكير قبل أن تُخرّب مؤسسات الدولة، فإننا نقترب من زمنٍ يصبح فيه التضليل رأيًا محترمًا، والحقيقة وجهة نظر.

ضرورة التشريع والمسؤولية الدولية:

أمام هذا الانفلات المعرفي، لم يعد الصمت خيارًا مسؤولًا. فكما تضع الدول قوانين لحماية البيئة من التلوث، يجب أن تُسن تشريعات تحمي العقول من التسمم الفكري. الحرية لا تكون مطلقة حين تمسّ حياة الناس أو سلامتهم، ولا يمكن أن تُترك المنصات الرقمية ساحةً بلا ضابطٍ تُبثّ فيها الوصفات الزائفة والتجارب الخطرة والنظريات المسمومة تحت شعار “الرأي الآخر”. فحين تتحوّل الكلمة إلى فعلٍ قابلٍ للتقليد يعرّض الآخرين للأذى، تصبح المسألة شأنًا عامًا لا رأيًا شخصيًا.

إن الحاجة باتت ملحّة لوضع إطارٍ قانونيٍّ واضحٍ يفرّق بين حرية التفكير وحرية التضليل. قوانين تُحمّل المنصات والمحتوى مسؤولية ما يُنشر فيها، وتُلزمها بحذف أو حظر أي مادةٍ تُخالف المسلمات العلمية الثابتة أو تُشجّع على ممارساتٍ تهدّد السلامة العامة. تلك ليست رقابةً على الفكر، بل حمايةً للعقل من العبث. فالمجتمعات التي تترك جهلها يتكلم بحريةٍ مطلقة، تُصادر وعيها دون أن تشعر.

ولأن الخطر عابرٌ للحدود، فالمسؤولية يجب أن تكون دوليةً مشتركة، تتبناها المنظمات الأممية والهيئات العلمية والإعلامية، لتضع ميثاقًا يوازن بين حرية النشر وواجب الصدق العلمي. إن صيانة الوعي الإنساني لم تعد شأنًا ثقافيًا فحسب، بل قضيةَ أمنٍ معرفيٍّ عالميٍّ لا تقل أهميةً عن الأمن الغذائي أو المناخي.

الخاتمة والتوصيات:

إن مواجهة هذا الانحدار المعرفي لا تكون بالمنع وحده، ولا بالصمت انتظارًا لصحوةٍ جماعيةٍ لن تأتي من تلقاء نفسها، بل بعملٍ متكاملٍ يجمع بين التشريع، والتعليم، والمساءلة.

فالتشريع هو السور الذي يحمي المجتمع من العبث المقصود، فيضع حدًّا لمن يستغل المنصات لبثّ الجهل باسم الحرية. والتعليم هو الجذر الذي يزرع في الأجيال مناعةً فكريةً تجعلهم يفرّقون بين العلم والخرافة، وبين الحقيقة والدعاية. أمّا المساءلة المجتمعية، فهي صوت الوعي الحيّ الذي يرفض السكوت على التضليل ويُطالب بالمسؤولية في القول كما في الفعل.

إن الحفاظ على سلامة العقول اليوم لا يقلّ أهميةً عن حماية الحدود أو الموارد، لأن الأمم لا تسقط حين تضعف جيوشها فقط، بل حين يختل وعيها الجمعي وتُصاب بالعمى الفكري.

لهذا، فإن صون الحقيقة لم يعد ترفًا فكريًا، بل واجبًا إنسانيًا وأخلاقيًا.

فمن يترك الجهل يتكلم باسم الحرية، سيجد نفسه ذات يومٍ يُحاكم الحقيقة بتهمة الإساءة إلى الوهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى