أقلام وأراء

بسام ابو شريف يكتب الحلقة السادسة – ساعات قبل ولادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بناء التنظيم ولجان الانقاذ في الساحل الغربي للولايات المتحدة

بسام ابو شريف *- 26/12/2020

كان العمل شاقا ومرهقا ، فقد كانت التعليمات أن أنهي المهمة في الولايات المتحدة بأسرع وقت ممكن ، لكن الولايات المتحدة قارة كبيرة ، والمسافات بين ولاياتها طويلة ، فالسفر جوا من الشاطئ الشرقي للشاطئ الغربي كان أطول مسافة ، وزمنا من السفر من لندن الى نيويورك .
كنا نحاول اختصار النفقات الى أبعد حد ، فقد توجهت لأداء المهمة في اميركا مزودا بتذكرة
السفر ذهابا وايابا من بيروت ، والف دولار لتغطية المنامة والطعام في جولتي ، التي غطت ولايات عديدة في الولايات المتحدة ، كان الاعتماد بطبيعة الحال على شباب حركة القوميين العرب ، الذين رتبوا اللقاءات ، والمحاضرات ، والاجتماعات مع الجاليات العربية في شتى الولايات ، أنهيت جزء من العمل في الشاطئ الشرقي ، وحان موعد سفري حسب الجدول للشاطئ الغربي ، وكانت أول محطة سان فرنسيسكو ، وجامعة بيركلي التي أنتمى اليها معظم أعضاء قيادة حركة القوميين العرب في الولايات المتحدة ، وكان المسؤول الأول المناضل وليد الحسيني ” وليد خالد الحسيني ” ، وكان قد استقر في الولايات المتحدة بعد انهائه الدراسة في الجامعة الاميركية في بيروت ، وتوجه للولايات المتحدة لتحصيل درجة الدكتوراة في العلوم البيولوجية ، وكان مقره سان فرنسيسكو – بيركلي ، لكنني فوجئت بعدم وجوده عند وصولي ، وقد ترك لي رسالة تحدد برنامجي ، وتتضمن أسماء وأرقام مسؤولي المحطات واعتذارا لأسباب طارئة ” عائلية ” ، عن سفره المفاجئ .

لم أشعر أن غيابه سوف يعطل العمل ، فباشرت فورا عملي ، وتوجهت الى جامعة بيركلي وهناك التقيت برفاق لن أنساهم في حياتي ، فقد كانوا مهذبين ، وواعين ، ومندفعين  وجاهزين لنداء الوطن كانوا ينتمون للبنان والجزيرة وسوريا وفلسطين والكويت ، مجموعة عربية كان أعضاءها جميعا يحضرون أطروحاتهم لنيل الدكتوراة ، وكان أغلبيتهم يتخصصون بالفيزياء النووية .

صادف ذلك اليوم يوم ثورة طلاب الجامعات ، والشبيبة ضد قرار البلدية ، وادارة الجامعة على خلع شجرة قديمة ” شجرة واحدة ” ، لتحويل المكان الذي ترعرعت فيه الشجرة الى كاراج سيارات ، واصطدم الطلبة بالشرطة ومنعوا ” في ذلك اليوم ” ، العمال من خلع الشجرة أوحى لي ذلك المنظر بأفكار كثيرة اذا كان محبو الشجر، والطبيعة يثورون ضد اقتلاع شجرة فلاشك أنهم سيثورون ، ويؤيدون شعبا كاملا يعملون على اقتلاعه من أرضه …. التربة صالحة جدا التوعية أساسية ، والاعلام ضروري ، ونشر الحقائق هو أول مراحل التوعية !!

دعانا الدكتور ايهاب ( فلسطيني الأصل ) لتناول البيتزا على أن نكمل حديثنا أثناء تناول الغداء  وتحدثنا مطولا حول الهزيمة ، وقرارات اللجنة التنفيذية لحركة القوميين العرب ، وأهمها انشاء تنظيم فلسطيني مقاتل ، وان المرحلة الاولى هي فرز الفلسطينيين في تنظيم مقاتل على أن يرفد به أقاليم حركة القوميين العرب في كل مكان ، وتناول الجميع هذه القرارات وركزوا على عدم صلاحية قرار اللامركزية على تنظيم حركة القوميين العرب في بلدان العالم الخارجي ” خارج الوطن ” ، وكان رأيهم ( وهو هام ، وأنا مقتنع به ) ، بأن الساحات الخارجية كالولايات المتحدة واوروبا ، هي ساحات لا يشكل فيها الوجود العربي قوة محركة وهي على حالها العربي فاعلة ، ولا يوجد لديها برنامج للتحرك ، وتشكيل مركز قوة ، أو نفوذ أو تأثير ، وان دعم الجبهة الشعبية سيشكل جاذبا للجالية العربية ، والطلبة العرب ، وان تعبئة الجالية لعمل تحرري عربي لفلسطين سوف يكون محركا لها ، ولتفعيلها لتشكل مركز قوة ونفوذ في البلدان الأجنبية ، وطرحت أفكار ثمينة جدا تتعلق بتأسيس جمعيات خيرية معفاة من الضرائب تستطيع أن تحول التبرعات لمؤسسات فلسطينية في الوطن دون خوف من رقابة المخابرات ، أو مصلحة الضرائب ، وتحدث شاب لبناني ، هادئ ، ورصين كان اسمه الدكتور يوسف سلام حول فائدة تنظيم العمل من زاوية الفائدة ، والدعم التكنولوجي ، والمعلوماتي وتجنيد خبراء للتدريب على المخترعات الكنولوجية المفيدة ، وذكرأن للعرب خبراء كثيرون يعملون في أبحاث متقدمة ، وهامة يمكن أن يفيدوا ، ويدعموا النضال العربي .

قمنا بعقد سلسلة من الندوات للجالية العربية في سان فرنسيسكو ، وطلبة الجامعة ” اميركيون وعرب ” ، وتم ترتيب لجنة الدعم ، والقيادة الحزبية ، كان عدد الداعين قليل نسبيا لأن كل الذين كانوا طلبة كانوا يتابعون تحصيلهم العلمي العالي في بيركلي ، وكان معظمهم في ميادين الفيزياء النووية ، والهندسة الالكترونية ، لكن في لوس اجلوس كان الوضع مختلفا ، فقد فوجئت بحجم الشباب العرب القادم من الجزيرة العربية للتحصيل الجامعي العالي في مراحله المختلفة ، وكان عدد كبير منهم في السنوات الدراسية الاولى ، وكذلك من دول الخليج وفلسطين ولبنان ، كان عشرات منهم ينتمون لعائلة واحدة ، ويسكنون في بنايات تتسع لهم فقط  وأذكر أن عائلة الزامل بعدد أبنائها الذين كانوا يحصلون العلم في لوس انجلوس ، وكان واضحا أن من يوجههم ، ويحافظ على مسيرتهم كان عبدالرحمن الزامل الذي كان جديا وحريصا على حسن مسارهم ، وكان الرجل قوميا ملتزما ، ومتفانيا في التحصيل العلمي والدفاع عن قضايا الامة العربية .

أنهينا المهمات في تلك المنطقة ، وتم تشكيل لجنة الدعم وقيادة التنظيم ، وحسب جدول السفر كان أمامي يوما كاملا دون أي ترتيب ، فاقترح أحد الاخوة أن نذهب الى والت ديزني لاند وسألوني ان كنت أحب زيارة ديزني لاند ، وقال أحد الاخوة مشجعا للفكرة : قد لاتتاح لك فرصة اخرى يجب أن ترى ديزني لاند ، فوافقت ، وقمنا بجولة واسعة ومتعبة ، وفي أحد الأقسام نصبت سكة حديد تصعد ، وتهبط ، وتلتوي ، وتعلو ، وتنزلق ، ويسير عليها قطار “عربات ” ، بسرعة فائقة ، وعند الصعود يبدو لك أن القاطرة ستستمر في الصعود بسرعة وتخرج عن القضبان ، وهكذا عند الهبوط … كانت لعبة مرعبة ، وقال أحد الاخوة : دعونا نصعد مع الأخ بسام في القطار كل واحد في قاطرة ، ولنر كيف يتحمل الفدائي هذه المخاطرة …. صعدت للقاطرة صعدوا في القاطرات الاخرى ، وعندما بدأت القاطرات بالتحرك أدركت بأي كمين أوقعوني ، اذ لم يصعد أحد منهم لأن ذلك كان يعتبر مخاطرة قد تؤدي الى كارثة وبالفعل شعرت بالفزع ، وأنا أرى القاطرة التي أركبها تتجه بأقصى سرعة نحو الفضاء وكأنما تريد أن تقفز خارج السكة ، وخارج القضبان نحو الهواء لكنني بعد جولة أو أكثر تمتعت بما أرى من ذلك العلو ، وعندما هبطنا بسلام التف حولي الشباب يصفقون ويضحكون كان يوما جميلا ، ونهاية زيارتي للوس انجلوس ، واختتمت مهمتي في الساحل الغربي باجراء اتصالات مع الجاليات ، والطلبة العرب في مواقع لم يكن لحركة القوميين العرب فيها وجود تنظيمي ، أو أنصار من هذه المواقع سان دييغو وسان خوسيه ، وكان نجاحنا في هاتين المدينتين كبيرا ، فقد اجتمعنا بعدد كبير من ممثلي الجالية العربية والاسلامية ، ونظمنا أول خلايا تنظيمية ( نمت وكبرت مع مرور السنين ) ، وفي سان خوسيه جرت لقاءات مع منظمات سياسية ، وحقوقية اميركية ، وجرى بيني ، وبين موشيه منوحيم لقاء تاريخي فموشي منوحيم هو مؤلف كتاب ” تلاشي اسرائيل –( Decadence Of Israel ) الذي أغضب  وأثار الحركة الصهيونية ، وكان ابنه أشهر عازف وملحن على الكمان في العالم ، وكان له موقف معارض لاسرائيل كان اللقاء بيننا في مزرعة صغيرة يملكها موشيه منوحيم على تلة مطلة على سان خوسيه ، وتحدثنا مطولا ، وكان رأيه واضحا ، وتوقعاته واضحة اذ قال بوضوح ان دولة اسرائيل ستذوي مع الزمن بسبب عنصريتها ، واستنادها الكلي على الولايات المتحدة الاميركية ، وحسب رأيه التحكم الاميركي بالعالم لن يستمر طويلا ، وسيتلاشى تدريجيا ، ومع تلاشي نفوذ وسيطرة الولايات المتحدة ستنهار اسرائيل العنصرية ، وتابعت الجولة الى واشنطن ، وعدنا بالسيارة مع  أعضاء من التنظيم ، فأنجزنا العمل في واشنطن العاصمة كانت فنادق واشنطن مكلفة جدا ، وأردنا غرفة في فندق لتغطي ليلتين ، فكانت الأسعار مرتفعة ، ولم نتمكن من ايجاد فندق متواضع الأسعار ، وهمس رجل في اذن الشباب أن نذهب للجزء الآخر من واشنطن ، أي الأحياء السوداء ، فتوجهنا اليها رغم تحذيرات من أكثر من شخص بأن تلك المناطق غير آمنة ، وقد نتعرض للسوء … توجهنا ، وعند أول فندق وجدنا ضالتنا ، فقد استأجرنا غرفة لأربعة أشخاص بسعر غرفة واحدة في واشنطن البيضاء ، وكان هذا مدخلي لمعرفة الصراعات من داخل المجتمع الاميركي ، والنابعة من نفوذ العنصريين في مؤسسات الدولة ، وعدم تطبيق القوانين الرافضة للكراهية ، والعنف العنصري أنجزنا المهمة ، وقمت بزيارات لمراكز أبحاث حول الشرق الأوسط ، ولجمعية الخريجين العرب – الجامعات الاميركية بدأ الوقت يداهمنا – وتبين أن البرنامج الذي وضع لم يكن دقيقا من حيث الوقت الذي يتطلبه العمل في كل موقع ، فأنهيت الجولة بزيارات سريعة ” لكن منتجة ” ، لنيويورك ، وبوسطن ، وماساشوتس ، وشيكاغو على أن أكمل العمل في زيارة لاحقة كان علي أن أعود للوطن لمتابعة مهمات أساسية ومركزية ، نجحنا في اقامة أول شبكة من خلايا التنظيم ولجان الأنصار في الولايات المتحدة ، وهذا الأساس المتين شكل مدماكا هاما تمكن الشباب من بناء أقوى شبكة عمل اعلامي ، وسياسي ، ومسان] في الولايات المتحدة ومازالت قائمة حتى الآن جيلا بعد جيل ، ومن المهم الاشارة هنا الى أن شباب الجزيرة والخليج ، واليمن ، والسودان يشكلون نسبة عالية من الناشطين لقضية العرب الاولى فلسطين من خلال هذه اللجان .

بعد أن رتبت أمور عودتي ، والحجوزات على الطائرات ( البحث عن أرخص التذاكر كان دائما على رأس الاهتمامات ) ، وقبل صعودي للطائرة في مطار شيكاغو أبلغت بأن علي النزول في لندن لأن برنامجا لمدة أربعة أيام قد رتب من حيث المبدأ ، هبطت في لندن واستقبلتني مجموعة من الطلبة العراقيين يدرسون في انجلترا كان البرنامج مكثفا : محاضرات باللغة الانكليزية للطلبة في جامعات لندن ، وويلز ، واسكتلندا ، ومانشستر ، وبريستول وكارديف ، ولقاءات موسعة مع العمال في المصانع في هذه المدن ، وكان أهمها وأكثرها حماسا محاضرة ألقيتها في جامعة دورهام باسكتلندا وكان على رأس الجسم الطلابي شاب رائع يتحلى بصفات مميزة ، وعالي الثقافة ، والأخلاق وميض نظمي ” علمت أنه توفي رحمه الله ” ، وظن وميض نظمي أنني لا أتقن الانكليزية فهدأ من روعي ، وقال انه سيترجم لي كلمتي من العربية ، فقلت له لا داعي لأنني سألقيها بالانكليزية ، فوجئ وميض نظمي ، وعندما أنهيت كلمتي عانقني محييا أمام الجميع ، وقال ثقتي الآن بمستقبل الثورة أكثر وأنشأنا أقوى شبكة لجان أنصار من العمال في كارديف ، ومانشيستر،  وبريستول والطلبة والشبيبة بين لندن وأدنبرة ، والجامعات الاخرى ومنها امبريال كوليدج ولندن ، وعدت الى بيروت مثقلا بالعناوين للمتابعة الجادة .

وهكذا بدأنا أقوى وأوسع شبكة اعلام ، وتعبئة ، ودعم منذ العام 1948 ، وكان علينا المتابعة الجادة ، فاجتمعت ، وكان غسان كنفاني يترأس الاجتماع ، وأقيمت في مقر الهدف خلية مركزية لمتابعة الاعلام ، والتنظيم الخارجي كانت تضمني ، وتضم شريف الحسيني ، وبالفعل أصبحت خلال سنوات قليلة أقوى ذراع للثورة الفلسطينية في الخارج .

تنقلت في بريطانيا ، واسكتلندا ، وويلز بقطار البضائع ، ونمت في محطات القطارات وتناولت السمك النيء مع عمال كارديف على شاطئ البحر ” ويلز ” ، وألقيت محاضرات في أكبر الجامعات ، وأنا ألبس الجينز وبلوزة . كانت تلك أيام التأسيس العظيمة يوم كنا ندفع اشتراكا لكي نكون أعضاء ، ولا نقبض معاشات كي نناضل !

*كاتب وسياسي فلسطيني .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى