أقلام وأراء

بسام ابو شريف يكتب الحلقة الخامسة – ساعات قبل ولادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين هكذا حررنا الدكتور جورج حبش من سجن الشيخ حسين في دمشق وهربناه الى لبنان ثم الى القاهرة

بسام ابو شريف *- 22/12/2020

كان من المفترض أن أكتب للأجيال الصاعدة عن انشاء التنظيم ، ولجان الدعم والاسناد في الساحل الغربي للولايات المتحدة ، لكن الحاح بعض الشباب علي بأن أكتب تفاصيل عملية تحريرالدكتورجورج حبش من سجن الشيخ حسين ، وتهريبه الى لبنان ، ثم الى مصر جعلني أتناول هذا الموضوع في هذه الحلقة الخامسة ، وسوف أنتقل بعدها للحديث المختصر عن جولة البناء التنظيمي ، والاسنادي في الساحل الغربي للولايات المتحدة الاميركية .

مؤتمر تموز- آب 1968 ، كما ذكرنا وصل الى طريق مسدود ، فقد رفض المؤتمرون “الأغلبية ” ، التقرير الذي قدمه نايف حواتمة للمؤتمر ، وكانت النقاط الرئيسية التي ” رفض بسببها ” ، أغلبية أعضاء المؤتمر التقريرهي تلك المتصلة بتصنيف البنية التنظيمية لحركة القوميين العرب ، وفكر الحركة والخلاصة غير العلمية ، التي اعتبرت هزيمة حزيران ، هي هزيمة البرجوازية الصغيرة ، وأنظمتها الوطنية ، وسقوط هذه الأنظمة ( وهذا يعني سقوط جمال عبدالناصر ) ، وضرورة أن تتسلم الطبقة العاملة بايديولوجيتها زمام قيادة المرحلة القادمة !! .. كان هذا يعني على صعيد المؤتمروالجبهة الاطاحة بقيادة الحركة ” القوميون العرب ” ، وصعود قيادة جديدة بديلة لجورج حبش ، ووديع حداد ، وابو علي مصطفى ، وابو سمير ، وابو عيسى … الخ ، وأن يحل محلهم نايف ومجموعته ( اذا دققت الآن تجد أنه لم يبق مع نايف من المجموعة الاولى ، التي خاض معها نايف مشروعه الانشقاقي كادر واحد فجميعهم تركوا ، أو انشقوا ، أو غادروا محيط نايف ، واستبدلوا بكوادر لا تسبح الا لنايف حواتمة ) ، ودفع هذا الهجوم على القيادات التاريخية المناضلة دفع الأعضاء الى رفض التقرير ، كان ذلك دفاعا عن النفس أولا ، ودفاعا عن فكر واستراتيجية حركة القوميين العرب وعن جمال عبدالناصر ، والانتصارات الوطنية والقومية التي حققتها ، والتي كان رد الامبريالية والصهيونية عليها محاولة تدمير جمال عبدالناصر ، والمد القومي الذي اتبعها عبدالناصر ( الجزائر ، واليمن ، والوحدة ، واذكاء الشعور بالعزة القومية في الجزيرة والخليج والعراق ، وسوريا ، ولبنان ، وفلسطين ) ، وخرج المؤتمر ( نتيجة حرص القوميين العرب على وحدة الصف ، واعتبار التناقض الداخلي أمر طبيعي ، وأن حله يتطلب أسلوبا ديمقراطيا داخل صفوف التنظيم ) ، شكلت قيادة طوارئ ، وعاد كل الى قواعده لاجراء انتخابات في ظل برنامج تثقيفي أدخلت عليه الأدبيات اللينينية على أن يعقد المؤتمر التأسيسي بعد انتهاء مؤتمر آب في شهر شباط 1969 .

كان هذا الموعد لعقد المؤتمر يشكل بالنسبة لوديع حداد النقطة النهائية في خطته لتحرير جورج حبش من السجن ، فقد رأى الجميع أن غياب الحكيم كان سببا من أسباب انفراد نايف بطرح تقييمه لمرحلة ماقبل هزيمة حزيران ، وتحليله لهزيمة حزيران ، وتحديده نتائجها وما يترتب على الحركة من تغييرات ايديولوجية ، وسياسية ، وتنظيمية استنادا لهذه الاستخلاصات  فكان هدف تحرير جورج حبش أولوية لدى وديع حداد وزملائه ، وزعت المسؤوليات واندفع كل لتنفيذ مهماته ، كان التحضير للمؤتمر شباط ، هو الهم الرئيسي ” انتخابات من القاعدة للقمة ” ، لكن الهم الأكبر كان بالنسبة للدكتور وديع حداد ، وابو علي مصطفى ، ومجموعة مناضلة ( لا أريد أن أذكر الأسماء لأن عددا منهم مازال حيا وقد يضر بهم ذكري لأسمائهم ) هذه هي الأجواء التي كانت سائدة بعد آب 1968 ، ( قيادات أبطال العودة ، وشباب الثأر كانت غاضبة جدا ، وكاد غضبهم بعد مؤتمرآب أن يفجر صراعا دمويا ) ، كان الحاج فايز جابر “رحمه الله – استشهد في معركة مطارعينتيبي ” ، والمناضل الكبير صبحي التميمي على رأس تنظيم أبطال العودة ، الذي كان قد بدأ في العام 1964 ، بانشاء الجهاز المقاتل السري لحركة القوميين العرب من خلال جيش التحرير الفلسطيني ، الذي أقر رسميا من جامعة الدول العربية وكان لأبطال العودة فضل كبير في تدريب عدد كبير من الكوادر ، وانخراط عدد في الكليات العسكرية العربية ، والتخرج منها ، وكان الشهيد فيصل الحسيني أحد هؤلاء اذ التحق بكلية حلب العسكرية ، وتخرج منها في العام 1967 ، عبر أبطال العودة شباب الثأر ، وكذلك كان عدد كبير من قيادات قوات التحرير الشعبية ” التابعة رسميا لجيش التحرير الفلسطيني كتنظيم سري ” ، تمحور الرد على ما يجري في قرارات اتخذها الدكتور وديع حداد مع قيادات ماكان يسميه نايف حواتمة ” التيار الناصري ” ، والذي نعته بالتخلف الفكري والبعد عن الابداع النضالي ، القرارات انصبت في الاتجاه النضالي ، وهو كان يعني تصعيد العمليات ضد العدو ، وتحرير جورج حبش من سجنه .

عملية تحرير جورج حبش

قبل أن يعقد مؤتمر تموز – آب تحول جهد القيادات بادارة وديع حداد نحو ثلاثة أهداف واستمرتوجيه العمل بهذا الاتجاه لتحقيق الأهداف الثلاثة بعد المؤتمر ، وأستطيع القول ان الفترة الزمنية ، التي انقضت بين مؤتمر تموز – آب 68 وشباط 69 ، كانت الفترة التي شهدت أعلى مستوى من النشاط لتحقيق : –

1- تصعيد في العمليات داخل الأرض المحتلة .

2- تصعيد في العمليات الخاصة الخارجية .

3- اتمام عملية تحرير جورج حبش .

كل هذا العمل كان يتم بقيادة وديع حداد ، وابو علي مصطفى ، وأعضاء قياديين من حركة القوميين العرب التحقوا بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، كان اهتمام وديع حداد ، وشباب الجبهة بتحرير الحكيم من سجنه بدمشق شغلا شاغلا قبل ، وبعد المؤتمر ، وشرع الفريق المكلف بمتابعة هذه العملية السرية في المراقبة ، والاستطلاع بعد شهر من اعتقال الحكيم اذ تأكد أن عبدالكريم الجندي لن يفرج عنه طالما أنه رفض طلب المحامين العرب ، والقادة العرب ، وجمال عبدالناصر .

في بداية الاستطلاع لجأ الدكتور وديع حداد الى ” تشغيل ” ، أقارب للدكتور جورج حبش يسكنون في دمشق منذ النكبة ، فأرسل أحد الكوادر الذي يعرف أقارب الحكيم ، وشجعهم على طلب تصريح زيارة لرؤيته ، والاطمئنان عليه ، وتوصيل بعض الحاجيات له ، وتم ذلك وان كان قد استغرق وقتا طويلا لتنفيذه ، وشجعت العائلة بعد الزيارة لجعل زيارتهم العائلية روتينية حتى يعتاد المسؤولون عن منح التصاريح ، ومراقبة الزيارة على هذا الروتين ويطمئنوا الى ” براءة  الزيارة ” ، ثم بدأت مرحلة ثانية من تلك الزيارات : كان ” زكي هلو – رحمة الله عليه ” ، قد كلف بزيارة العائلة قبل أن يقوموا بزيارة الحكيم ، وطلب منهم أن يدققوا في بعض الأمور المتعلقة بالسجن ، والمدخل ، والحراسات ، وحركة الحكيم ، وفي مرحلة ثالثة بدأ الدكتور وديع بارسال سيدات يحملن هويات ، وجوازات سفر دقيقة الصنع تحمل اسم العائلة ” صنعت في مختبرات الدكتور وديع ” ، لزيارة الحكيم ، وتوجيه بعض الكلمات المحددة له حتى يعرف الحكيم أنهن من طرفه لكن الرقابة الأدق كانت تلك التي كانت تتم في يوم التحقيق ، فقد جرت العادة أن ينقل الحكيم تحت الحراسة من السجن الى مقر المخابرات ليخضع للتحقيق من قبل عبدالكريم الجندي بنفسه ، فقد كان هو المسؤول عن ملف ” جورج حبش ” ، وكانت الرقابة أشد،  وأدق عندما يعاد الحكيم الى السجن بعد انتهاء التحقيق ( عدد الجنود المسلحين ، عدد السيارات ، الطرق التي يسلكونها ، هل تتابعهم دوريات مدنية أم لا ، وكم من الوقت تستغرق الرحلة للسجن ، وكم من الوقت تستغرق عملية الخروج من تلك الدائرة الى مكان بعيد بعدا يكفي لاستمرار الانطلاق نحو طريق ترابي يستخدمه المهربون من سوريا الى لبنان ، والعكس ) ، هذا الجزء أي الانطلاق من ” دائرة العملية ” ، الى عبور الحدود نحو لبنان تم اختبارها ، وتجربتها أكثر من عشرين مرة لمعرفة الوقت التقريبي الذي ستستغرقه تلك الرحلة !! لم تكن الفسحة الزمنية مريحة ، بل كانت خانقة ، وتم تدريب ثلاثة سائقين ، ولم تختلف الفسحة الزمنية كثيرا بينهم لذلك أقر استخدام سيارتين لاتمام تلك الرحلة …. في حال نجحت عملية الاختطاف السيارة الاولى كانت لها مهمة نقل الحكيم ، ومن معه من موقع العملية الى موقع على مسافة متوسطة من الحدود ، والسيارة الثانية كانت تنتظر ليصعد لها الحكيم ، وشخص آخر لينطلق السائق نحو لبنان ، اللجوء لذلك كان لاضاعة وقت الملاحقين الذي كان الدكتور وديع حداد متأكدا انهم سينطلقون في المطاردة ، والبحث بعد فترة قصيرة من عدم وصول جورج حبش للسجن عائدا من جلسة التحقيق .

وقبل التنفيذ بيومين استدعى الدكتور وديع ( بناء على ترشيح ابو علي مصطفى ) ، قائد المهمة ، وهو ضابط شجاع ، ومدرب تدريبا جيدا ، ومقاتل شرس ” ابو طلعت – استشهد في معارك ايلول في الاردن ” واسمه الحقيقي شحادة العجرمي من بئر السبع وطردت عائلته الى قطاع غزة عام 1940 ” .

خطة التحرير والهرب الى لبنان

بعد استطلاع دقيق ، ولمرات عديدة رسمت الخطة على الشكل التالي : –

1- في الوقت المحدد بروتين لنقل الدكتور جورج حبش من سجن الشيخ حسين لمقر عبدالكريم الجندي ” مدير المخابرات السورية ” ، تقوم مجموعة بسيارة ” تكسي ” ، عادية يسوقها شاب من التنظيم بمراقبة الموكب للتأكد من أن عدد السيارات العسكرية ، وعدد الجنود هو نفس العدد الذي سبق ، وأن رافق نقل الحكيم للتحقيق .

2- تقوم المجموعة هذه بابلاغ المجموعة الثانية المكلفة بالمهمة الأساسية بأن ” المعلوم ثابت “

3- تتهيأ المجموعة المكونة من ضباط ” المهمات الصعبة ” ، بالاستعداد .

4- الموكب العسكري السوري كان مكونا من ثلاث سيارات عسكرية واحدة أمام السيارة التي تقل الدكتور حبش ، وثالثة خلف السيارة التي تقله يحيط بالحكيم جنديان مسلحان ” انضباط عسكري MP” ،  كل سيارة مرافقة ” الأمامية والخلفية ” ، جنديان مسلحان السيارات كانت تسير تاركة مسافة بين الواحدة ، والاخرى .

5- عند نقطة الانقضاض تركت السيارة الاولى تمر دون صدام ، واندفعت سيارة عسكرية بنفس ألوان سيارات الانضباط العسكري السوري ، ومن نفس النوع أمام السيارة التي تقل الحكيم ، وهبط منها أربعة مسلحين أقوياء ، وتوجهوا فورانحو السيارة التي تقل الحكيم ، رفع الجنود والسائق أيديهم ، وقال أحدهم : ( سيدي نحنا ناقلين سجين سياسي ما النا علاقة)  فنهره أحد المسلحين المهاجمين في هذه اللحظة كان الحكيم قد نقل الى سيارة مجهزة ، وجاهزة للانطلاق ، لم تستغرق العملية عند لحظة الانقضاض أكثر من ثلاث ، أو أربع دقائق اذ انقض الفدائيون ، الذين كانوا يلبسون بزات الانضباط العسكري السوري ، ويستخدمون ذات السيارة ” نسخة طبق الأصل ” ، انقضوا على الحرس المرافق للحكيم مما دفع الحكيم للتدخل لمنعهم من ايذاء الحرس ، فصرخ به القائد ابو طلعت أن يصمت ، وشده من كتفه ، وأخرجه عنوة من السيارة ليستلمه آخرون دافعين به الى السيارة الرابعة الجاهزة للانطلاق دفعوه دفعا وكأنما يختطفونه ، وفوجئ الجميع بشاب جميل الطلعة بريء القسمات يرجو الحكيم أن يسمح له بالذهاب معه ، كان أحد حراس السجن ، وكان يرى في الحكيم مثلا أعلى ويحبه ويحترمه ، نظر الحكيم للمقاتلين ، وقال لهم دعوه يأتي معي قالها بلهجة الآمر هذه المرة فاندفع نحو السيارة .. ….. انطلقت السيارة بأقصى سرعة مما جعل عجلاتها تصرصرعلى الشارع ، كان سائق السيارة من أمهر سائقي الجبهة العسكريين ، وكان مسؤولا عن تهريب الأسلحة للاردن لتدخل الضفة ، وكان يعرف بدقة كل طرق التهريب ، وأماكن دوريات المكافحة ( ابو علي الطحلة كان بطلا من أبطالنا لايعرفه الا عدد قليل ، لكنه كان معروفا لدى القيادات املسؤولة عن السلاح والتسليح ) وقامت كل مجموعة بدورها على أكمل وجه مما ترك عبدالكريم الجندي مذهولا ، لقد أخرت مجموعة ثالثة تقدم السيارة الخلفية لدقائق ، وكاد ركابها أن يشتبكوا بالأيدي مع رجال الانضباط لعرقلتهم حركة السير مما أخر سيارة المرافقة عن اللحاق المبكر بالسيارة ، التي كانت تنقل الدكتور جورج حبش .

كان الحكيم يعلم أن ذلك اليوم سيكون يوم العملية ، فقد أرسلت له اشارة بذلك من خلال سيدة زارته بصفتها أخته ” مزورة ” ، حملت له تلك السيدة جملة واحدة فهم منها الحكيم أن العملية ستتم في اليوم التالي ” راح نرجع لصفد ان شاءالله ” ، تمكن الجميع من الخروج من تلك الدائرة الضيقة ، فقد تركت السيارات مكانها ، وانسحب كل المشاركين كل الى قاعدته بسلام .

أما السيارة التي أقلت الحكيم ، فقد سابقت الريح لتخرج من الأراضي السورية نحو لبنان قبل أن تلحق بها سيارات ، أو طائرات المطاردة والملاحقة ، وما أن عبرت الأراضي اللبنانية حتى استقبلها مسلحون من عشائر بعلبك ، ورجال الجبهة الذين كانوا على صلة وثيقة وتعاون مع العشائر في تلك المنطقة نقل الحكيم ، ومن معه الى سيارة اخرى انطلقت الى بيروت بينما أخفيت السيارة التي نقلته من دمشق الى لبنان ، وتحرك كل الى قواعده خلال ذلك بدأت دوريات المخابرات السورية تشاهد في بعلبك ، وشتورة ، وغيرها من مدن البقاع ، وأمر وديع حداد باعتقال المجموعات ، والتعامل معها بشكل حسن ، وتحميلها رسالة لعبدالكريم الجندي مضمونها ” اذا اعتديتم على أي فرد ، أو مقاتل من أعضائنا ، فسوف نرد بعنف نحن لم نستخدم العنف حتى الآن ، فلا تجبرونا ” .

وصلت الرسالة ، وانسحبت الدوريات ……

في بيروت أقام الحكيم في منازل لأصدقائه لبنانيين ، وفلسطينيين الى أن تم ترتيب توجهه للقاء جمال عبدالناصر في القاهرة ، وتم ترتيب ذلك من مطار بيروت الذي شهد استنفارعدد كبير  من المقاتلين داخل المطار لضمان صعود الححكيم بأمان على الطائرة الخاصة التي نقلته للقاهرة .

*كاتب وسياسي فلسطيني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى