ترجمات أجنبية

بروجيكت سينديكيت – الحرب وتأثيراتهـا في الاقتصاد العالمي

بروجيكت سينديكيت ٦-٣-٢٠٢٢ – بقلم نورييل روبيني *

نعم مما يريح النفس الاعتقاد بأن الحرب التي شنتها روسيا على أوكرانيا لن يكون لها تأثير كبير في اقتصاد العالم، نظراً لأن الأولى لا تمثل سوى 3% من الاقتصاد العالمي؛ ولكن صناع السياسة والمحللين الماليين عليهم ألا يركنوا كثيراً لهذا الأمل؛ فالتأثير سيتجاوز النفط والغاز الطبيعي لأن الدول الآن في حالة تعاف «هش» من تبعات الوباء وما زالت تحت وطأة الضغوط التضخمية لذا فإن الآثار غير المباشرة للأزمة الأوكرانية والكساد الجيوسياسي الأوسع الذي تنذر به لن تكون عابرة على الإطلاق.

إذا ألقينا نظرة سريعة على الفترة الماضية نجد أن في أواخر ديسمبر/ كانون الأول تم التحذير من أن العام 2022 سيكون أكثر صعوبة من 2021 وهو العام الذي كانت فيه الأسواق والاقتصادات في جميع أنحاء العالم جيدة بشكل عام حيث زاد النمو بعد الركود الهائل في عام 2020، وبالفعل مع مطلع هذا العام أصبح من الواضح أن تصاعد التضخم لن يكون مؤقتاً وأن فيروس كورونا المتحور باستمرار سيواصل زرع زعزعة الثقة بجميع أنحاء العالم، وأن المخاطر الجيوسياسية التي تلوح في الأفق أصبحت أكثر حدة؛ والتي بدأ بعضها الآن ينزل إلى أرض الواقع.

بعد كل هذا يجب النظر في العواقب الاقتصادية والمالية لهذا التطور التاريخي، والبداية تكون برصد الأحداث الجيوسياسية الكبيرة وهي التصعيد الكبير للحرب الباردة الثانية، حيث تتحدى أربع قوى تعديلية (الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية) الهيمنة العالمية الطويلة للولايات المتحدة والنظام الدولي الذي يقوده الغرب، والذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية؛ ونجد في هذا السياق أننا قد دخلنا في كساد جيوسياسي ستكون له عواقب اقتصادية ومالية هائلة بعيداً عن أحداث أوكرانيا. تحديداً من المتوقع اندلاع حرب ساخنة بين القوى الكبرى خلال العقد المقبل، وفي الوقت الذي يتصاعد فيه التنافس الجديد في الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والصين ستصبح تايوان أيضاً، وعلى نحو متزايد، منطقة مهمة مما يضع الغرب في مواجهة مع هذا التحالف الناشئ للقوى التعديلية.

يتمثل الخطر الرئيسي الآن في أن المحللين في مجال الأسواق والسياسة يقللون من الآثار المترتبة على هذا التحول في النظام الجيوسياسي، ومع الإغلاق في 24 فبراير (يوم الغزو) ارتفعت الأسهم الأمريكية على أمل أن يؤدي هذا الصراع إلى إبطاء خطوة بنك الاحتياطي الفيدرالي والبنوك المركزية الأمريكية الأخرى لرفع أسعار الفائدة، لكن حرب أوكرانيا ليست مجرد صراع بسيط من ذلك النوع الذي شهدناه في العقود الأخيرة ولم يؤثر اقتصادياً ومالياً؛ ولا يجب على المحللين والمستثمرين ارتكاب ذات الخطأ الذي ارتكبوه عشية الحرب العالمية الأولى عندما لم يتوقع أحد حدوث صراع عالمي كبير؛ فالأزمة الحالية قفزة نوعية جيوسياسية لا يمكن التقليل من شأنها فيما يتعلق بآثارها المهمة وطويلة المدى.

فيما يتعلق بالاقتصاد فمن المرجح الآن حدوث تضخم عالمي مصحوب بركود كبير، ويتساءل المحللون أنفسهم عما إذا كان الاحتياطي الفيدرالي وغيره من البنوك المركزية الرئيسية يمكن أن يحقق هبوطاً سلساً في خضم هذه الأزمة وتداعياتها، وهو شيء لا يُعتمد عليه لأن الحرب في أوكرانيا ستؤدي إلى صدمة عرض سلبية هائلة في الاقتصاد العالمي الذي لا يزال يعاني كوفيد-19 وتراكم الضغوط التضخمية على مدار العام، وستؤدي الصدمة بدورها إلى تقليل النمو وزيادة التضخم في وقت أصبحت فيه توقعات التضخم غير مقيدة.

اتضحت بالفعل التأثيرات العاجلة للحرب في الأسواق المالية، وفي مواجهة صدمة التضخم المصحوب بركود بسبب العزوف عن المخاطرة فمن المرجح أن تنتقل الأسهم العالمية من نطاق عملية التصحيح الحالية (-10%) إلى منطقة السوق الهابطة (-20% أو أكثر) كما أن عائدات السندات الحكومية الآمنة ستتراجع لفترة ثم ترتفع بعد أن يصبح التضخم غير مقيد. أيضاً ستعلو أسعار النفط والغاز الطبيعي أكثر إلى ما يزيد على 100 دولار للبرميل، وكذلك أسعار العديد من السلع الأساسية الأخرى حيث تُعد كل من روسيا وأوكرانيا مصدرين رئيسيين للمواد الخام والمواد الغذائية، فيما تقوى عملات الملاذ الآمن كالفرنك السويسري ويزداد صعود أسعار الذهب.

بالطبع ستكون روسيا وأوكرانيا أكثر من يعاني التداعيات الاقتصادية والمالية والصدمة التضخمية الناتجة عن الحرب، يليهما الاتحاد الأوروبي بسبب اعتماده الشديد على الغاز الروسي ولكن حتى الولايات المتحدة ستعاني أيضاً؛ فنظراً لأن أسواق الطاقة العالمية متكاملة للغاية فإن الارتفاع الحاد في أسعار النفط العالمية – الذي يمثله معيار برنت – سيؤثر بشدة في أسعار النفط الخام الأمريكي (غرب تكساس الوسيط)، وبالتأكيد الولايات المتحدة الآن مُصدِّر صافٍ ثانوي للطاقة لكن التوزيع الكلي للصدمة سيكون سلبياً لأنه بينما تجني مجموعة صغيرة من شركات الطاقة أرباحاً أعلى، في المقابل ستعاني الأسر والشركات صدمة أسعار هائلة، مما يجعلهم في حالة من تقليل الإنفاق. بالنظر إلى هذه الديناميكيات يتضح أن حتى الاقتصاد الأمريكي القوي سيعاني تباطؤاً حاداً، ويميل نحو هبوط النمو، كما أن الظروف المالية المتشددة والتأثيرات التي سوف تؤثر في ثقة الأعمال والمستهلكين والمستثمرين ستودي جميعها إلى تفاقم العواقب الكلية السلبية في الولايات المتحدة وعالمياً نتيجة هذا الغزو.

إن العقوبات على روسيا، بغض النظر عما إذا كانت كبيرة أو محدودة ومدى أهميتها للردع في المستقبل، حتماً ستوقع الضرر ليس فقط على روسيا بل أيضاً الولايات المتحدة والغرب والأسواق الناشئة كما أوضح الرئيس الأمريكي جو بايدن مراراً وتكراراً في تصريحاته العامة للشعب الأمريكي عندما قال: «الدفاع عن الحرية نحن أيضاً سندفع ثمنه هنا في بلادنا؛ نحن بحاجة إلى أن نكون صادقين بشأن ذلك». علاوة على ذلك لا يمكن استبعاد احتمال أن تستجيب روسيا للعقوبات بإجراءاتها الخاصة المضادة؛ أي خفض حاد في إنتاج النفط من أجل رفع أسعار النفط العالمية بشكل أكبر، وخطوة كهذه تحقق فائدة صافية لروسيا طالما أن الزيادة الإضافية في أسعار النفط أكبر من خسارة صادراته خاصة وأن بوتين يعلم أن بإمكانه إلحاق أضرار غير متكافئة بالاقتصادات والأسواق الغربية لأنه أمضى الجزء الأكبر من العقد الماضي في بناء صندوق حرب وإنشاء درع مالية ضد أي عقوبات اقتصادية إضافية.

الصدمة التضخمية العميقة هي أيضاً سيناريو يشكل كابوساً للبنوك المركزية حيث تجعل هذه البنوك بغيضة في الحالتين، إذا قامت بردة فعل وأيضاً إذا لم تقم بها؛ فمن ناحية إذا كانت تهتم بشكل أساسي بالنمو فعليها تأخير رفع أسعار الفائدة أو تنفيذها بشكل أبطأ ولكن في بيئة اليوم – حيث يرتفع التضخم وتتخلف البنوك المركزية بالفعل عن المنحنى – قد تؤدي سياسة التشديد الأبطأ إلى تسريع فك توقعات التضخم مما يؤدي إلى تفاقم التضخم المصحوب بركود. من ناحية أخرى إذا واصلت البنوك المركزية التشدد (أو أصبحت أكثر تشدداً) فإن الركود الذي يلوح في الأفق سوف يصبح أكثر حدة لأن مكافحة التضخم ستتم من خلال سياسة رفع أكثر لمعدلات الفائدة الاسمية والحقيقية مما يؤدي إلى زيادة أكبر، وبالتالي إضعاف الاقتصاد الكلي؛ وقد رأينا هذا الأمر مرتين من قبل في وقت صدمات أسعار النفط في عامي 1973 و1979، ولكن إعادته الآن ستكون أسوأ.

على الرغم من أن البنوك المركزية يجب أن تواجه عودة التضخم بقوة إلا أنها ستحاول على الأرجح التلاعب بها كما فعلت في السبعينات وسوف تجادل بأن المشكلة مؤقتة وأن السياسة النقدية لا يمكن أن تؤثر أو تلغي صدمة العرض السلبية الخارجية ولكن عندما تحين لحظة الحقيقة من المحتمل أن يختاروا وتيرة أبطأ من التشديد النقدي لتجنب التسبب في ركود أكثر حدة. هذا بدوره سيفك المزيد من توقعات التضخم. في هذه الأثناء سيحاول السياسيون تخفيف صدمة العرض السلبية، وسوف تسعى الولايات المتحدة للتخفيف من الزيادة في أسعار البنزين عن طريق خفض احتياطاتها البترولية الاستراتيجية وحث المملكة العربية السعودية على رفع الطاقة الإنتاجية لإنتاج المزيد من النفط؛ لكنها جميعاً إجراءات لن يكون لها سوى تأثير محدود لأن المخاوف المنتشرة من ارتفاع الأسعار المتزايد ستؤدي إلى اكتناز عالمي لإمدادات الطاقة.

في ظل هذه المستجدات سيثقل كاهل الولايات المتحدة ضغط التوصل إلى تسوية مؤقتة مع إيران (مصدر محتمل آخر للنفط ) بشأن إحياء الاتفاق النووي لعام 2015 غير أن إيران متحالفة بشكل قوي مع الصين وروسيا ويعلم قادتها أن أي صفقة يبرمونها اليوم قد يتم إلغاؤها في عام 2025 إذا وصل دونالد ترامب، أو أحد المتشبهين به، إلى السلطة في الولايات المتحدة وبالتالي من غير المرجح إبرام اتفاق نووي جديد مع إيران؛ والأسوأ من ذلك أنه في حالة عدم وجود اتفاق ستستمر إيران في تطوير برنامجها النووي مما يزيد من احتمال قيام إسرائيل بشن هجوم على منشآتها، وهو ما قد يؤدي إلى صدمة عرض سلبية مزدوجة في الاقتصاد العالمي؛ والنتيجة هي أن القيود الجيوسياسية المختلفة ستحد بشدة من مقدرة الغرب على مواجهة الصدمة التضخمية المصحوبة بركود اقتصادي التي سببتها الحرب في أوكرانيا.

لا يمكن للقادة الغربيين الاعتماد على السياسة المالية لمواجهة الآثار المثبطة للنمو بسبب صدمة أوكرانيا لسبب واحد وهو أن الذخيرة المالية تنفذ الآن من الولايات المتحدة والعديد من دول الاقتصادات المتقدمة الأخرى بعد أن استنفذت جميع ما تستطيعه استجابةً لوباء كوفيد-19، فقد تراكم بشكل متزايد على الحكومات عجز غير مستدام وستصبح خدمة هذه الديون أكثر تكلفة في بيئة ترتفع فيها معدلات الفائدة. أضف إلى ذلك أن الحوافز المالية استجابة سياسية خاطئة لصدمة العرض المصحوبة بركود تضخمي؛ فعلى الرغم من أنها ربما تقلل من تأثير الصدمة السلبية في النمو إلا أنها ستزيد من الضغط التضخمي، وإذا اعتمد صانعو السياسة على كلٍ من السياسة النقدية والمالية في الاستجابة لها فإن عواقب الركود التضخمي ستصبح أكثر حدة بسبب التأثير المتزايد في توقعات التضخم. لم تكن سياسات التحفيز النقدي والمالي الهائلة التي بدأتها الحكومات بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008 تضخمية لأن مصدر تلك الصدمة كان من جانب الطلب مدفوعاً بأزمة ائتمانية في وقت كان التضخم فيه منخفضاً وأقل من الهدف أما اليوم فالوضع مختلف تماماً فنحن نواجه صدمة عرض سلبية في عالم يرتفع فيه التضخم بالفعل ويتجاوز الهدف.

* خبير اقتصادي أمريكي 

مركز الناطور للدراسات والأبحاث  Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى