أقلام وأراء

الياس خوري يكتب – اللعبة الإسرائيلية ومنصور عباس

الياس خوري *- 9/3/2021

أصيب الكثيرون بالذهول من مفاجأة طبيب الأسنان وعضو الكنيست الإسرائيلي منصور عباس حين وصف، في مقابلة له مع إحدى القنوات الإسرائيلية، الأسرى الفلسطينيين بالمخربين!

قيل إنها زلة لسان، وأن الرجل لم يقصد المخربين بكلمة مخربين، وقيل إنه انساق وراء تعبير «مِخَبْليم» الذي قالته مقدمة البرنامج.

لو توقفت زلات لسان عباس هنا لقلنا إن الرجل انزلق كلامياً إلى حيث لا يريد.

لكن زعيم الحركة الإسلامية الجنوبية لم يكتف بما قاله، بل قرر أن يتزحفط، فأتى بنتنياهو بالاشتراك مع علي سلام إلى ناصرة توفيق زياد «فاتحاً» وقرر أن يبيعنا قدرته على التأثير على السلطة الإسرائيلية، متناسياً أو ناسياً أن قانون القومية جعل منه ومن أقرانه الفلسطينيين في إسرائيل مواطنين من الدرجة الثانية.

أعرف أن السيد عباس سوف يعترض على وصفه بالفلسطيني، فشرط الدور الذي ارتضاه لنفسه ولحركته، ولقائمته الانتخابية، هو التماهي مع اللغة الصهيونية. فهو بحسب هذه اللغة، ينتمي إلى عرب أرض إسرائيل، وفي صيغة أخرى إلى عرب 48، وكان الله بالسر عليماً.

سبب ذهولنا هو أننا تناسينا ماذا يجري في الإقليم وتأثير ذلك على الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، أي في داخل الداخل.

فالصورة التي ارتسمت في أذهاننا هي صورة شعب صامد يواجه النكبات، ويتمسك بأرضه وهويته. فهذه الشريحة من الشعب الفلسطيني التي عزلتها إسرائيل وعزلها الخطاب القومجي العربي عن محيطها الفلسطيني والعربي، نجحت ليس في أن تصمد فقط، بل في تقديم صورة بهية، مثلتها قامات سياسية وثقافية كبيرة كالإميلين توما وحبيبي، وجسّدها شاعر وقائد كاريزمي من قامة توفيق زياد.

سمحت مرحلة العزلة تلك، على الرغم من أخطائها، ببلورة إرادة شعبية صنعت نضالات كبرى، ووصل هذا النضال إلى ذروته في يوم الأرض (30 آذار- مارس) الذي صارت ذكراه السنوية عيداً وطنياً فلسطينياً.

في زمن العزلة تلك، كانت المواجهات تميل إلى الوضوح، هناك العملاء الذين ارتضوا خدمة سيدهم الإسرائيلي، وكانوا أدواته من أجل تدجين الفلسطينيين على الذلّ، وهناك الوطنيون في مختلف تنويعاتهم من الحزب الشيوعي بعد انفصاله عن صهاينة «حزب ماكي» إلى حركة الأرض وأبناء البلد.

في تلك المرحلة، ولدت اللغة المقاومة التي لعب راشد حسين، أول شعراء ما بعد النكبة، دوراً كبيراً في تأسيسها، قبل أن يحمل شعلتها محمود درويش وتوفيق زياد وسميح القاسم، ويصوغ إميل حبيبي مراراتها الساخرة الساحرة.

أما في الزمن الحالي، زمن «اتفاقيات إبراهيم» و»زَحْفَطت» المماليك العرب الذين قايضوا «سلامهم» بأمنهم. (زحفطة من زحفطون، وهي عبارة صكّها سعيد تقي الدين من إدغام كلمتي الزحف على البطون). واستسلموا صاغرين أمام إسرائيل التي وعدتهم بحماية عروشهم مقابل قيامهم بالتغطية على الجريمة المتمادية في فلسطين. في هذا الزمن الذي يريدونه ملتبساً وفاسداً وخالياً من القيم والمعاني، نتطلع إلى أخواتنا وإخوتنا في الداخل بأمل مَنْ فقد الأمل. فتاريخهم النضالي الناصع قادر على أن يُشكل بداية يقظة فلسطينية وعربية لمقاومة هذا الزمن.

هل صحيح أن التذاكي يفيد في شيء؟ وهل صحيح أن رفع شعار أن فلسطينيي داخل الداخل ليسوا في جيب أحد، وأن دورهم هو التأثير وجني المكاسب عبر تحالفات بالقطعة مع اليمين الإسرائيلي، سوف يؤثر على السياسة الإسرائيلية؟

يفترض هذا التذاكي أن الناس بلا ذاكرة، وأنه يمكن التأثير على من أصدر قانون القومية، ويقوم بهدم البيوت على رؤوس ساكنيها، ويدمر الضفة ويستولي على أرضها، ويحرق غزة!

هل يستطيع المقموع أن يقيم توازناً مع القامع، عبر استعطافه؟ أم أن التوازن يحتاج إلى تغيير في موازين القوى؟

لا أستطيع أن أفهم هذه اللعبة ومعها ألاعيب من يدافعون عنها بلغة «نضالية» صارت نافلة، سوى عبر ربطها بالمناخ العام في زمن تطبيع الاستبداد الذي يصنعه تابعون قرروا أن يُستتبعوا (بضم الياء) بملء إرادتهم.

ولأن زمن نتنياهو فاسد وقذر، فقد استخدمت لغة فاسدة في معركة منصور عباس ضد القائمة المشتركة، ولهذه اللغة الفاسدة عنوانان: الأخلاق، والطائفية.

أما في الأخلاق، فمن العجب أن يدّعي حماية الأخلاق من لا يشارك في النضال ضد التمييز العنصري والاحتلال والقمع. عن أية أخلاق تتحدثون؟ فالأخلاق في بلاد محتلة تبدأ في مواجهة المحتلين والدفاع عن الأرض، وإدانة الجريمة التي أفلتتها إسرائيل من عقالها في المدن والبلدات الفلسطينية. مقياس الأخلاق هو الدفاع عن الكرامة، فمن تخلى عن كرامته لا يحق له أن يتبجح بالأخلاق بلغة ذكورية فاقعة.

كما أن الطائفية هي لعبة الاحتلال، الدولة الطائفية العنصرية التي تحتل فلسطين حاولت كثيراً اللعب على الوتر الطائفي وعلى فصل المسيحيين عن هويتهم الوطنية، وفشلت. من الخوري النداف الذي حاول أن يخترع هوية أخرى ويدعو إلى تجنيد المسيحيين في جيش الاحتلال إلى آخره… ويبدو أن الندافين الجدد، وقد لبسوا الثوب الإسلامي، يريدون تكرار هذه اللعبة الفاشلة.

هدف القائمة العباسية هو تحطيم الوحدة التي بنتها القائمة المشتركة. صحيح أن هذه الوحدة لا تزال هشة، لكن يجب المحافظة عليها ودعمها ونقدها في الآن نفسه.

نحن نعلم أن القائمة المشتركة باتت في حاجة إلى بلورة رؤيتها وشكلها التنظيمي. كما نعلم أن الانتخابات لن تغير في المعادلة الإسرائيلية الآن، لكن بناء جبهة وطنية فلسطينية راسخة الأركان هو شرط التأثير وشرط خلخلة البناء العنصري الصهيوني.

مع القائمة المشتركة كي نصد لغة الانحطاط واستعطافات العبيد.

قائمة منصور عباس يجب أن تُهزم في الانتخابات، وبعد ذلك يبدأ بناء معادلة جديدة ديموقراطية تحمل عبء الدفاع عن شعب صمد أكثر من سبعة عقود في أرضه، وسيبقى صامداً حتى يفتح صموده أفقاً وسط ليل العرب الطويل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى