القدس

المسجد الأقصى: المسارات المحتملة في ضوء صفقة ترامب والإجراءات الإسرائيلية

تقدير استراتيجي (119) * – 21 آب/ أغسطس 2020.  

ملخص :

جاء قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني ليتوج التحول إلى تبني موقف اليمين الصهيوني من القدس ومقدساتها، ولتنص صفقة القرن على الرعاية الصهيونية وتقسيم الأقصى باعتبارهما الحل النهائي فيه، وقد منح ذلك غطاءً لعدوانٍ صهيوني واسع على الأقصى، يمس صلاحيات ترميمه وإدارته، ويحصر دور الأوقاف في إدارة الحضور الإسلامي في المسجد، ويفرض الصلوات اليهودية العلنية فيه، ويحاول قضم زاويته الجنوبية الغربية إلى جانب باب الرحمة وساحته الشرقية. في المقابل، كان الفعل الشعبي المقدسي والفلسطيني القوة المركزية التي أبطأت هذا العدوان وأوقفته أحياناً وفرضت عليه تراجعات أحياناً أخرى، بموازاة تراجع عربي رسمي واسع وتراجع أردني أمام كل تقدم صهيوني على الأرض، بعد أن حصل على الغطاء الأمريكي. وأمام توظيف جائحة كورونا لضرب إرادة الفعل الشعبي، هناك أربعة احتمالات متعلقة بالأقصى اليوم تتراوح على الترتيب بين التراجع النسبي، والمراوحة في المكان، والتراجع الشامل، والمواجهة الشاملة.

أولاً: تبدل الموقف الأمريكي وصولاً إلى صفقة القرن:
شكل قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني ونقل السفارة الأمريكية إليها علامة فارقة وتبدلاً تاريخياً في الغطاء السياسي للاحتلال الصهيوني للمدينة، وقد وصل هذا الموقف اليوم ذروة تبنيه لموقف اليمين الصهيوني مع إعلان صفقة القرن التي منحت المحتل غطاء يحاول استثماره لفرض واقعٍ جديدٍ في الأقصى، لكنه يصطدم بفعل شعبي ويحاول ضربه وتقويض مسيرته.

شهد الموقف الأمريكي من القدس تحولاً تاريخياً تدريجياً، من التزام موقف متحفظ على ضمها صهيونياً، وهو الموقف الذي ورثته عن بريطانيا، الراعي الاستعماري السابق للمشروع الصهيوني، إلى تبني موقف اليمين الصهيوني من القدس ومقدساتها الإسلامية والمسيحية، بل والتقدم عليه في بعض الأحيان.

أعلن الكيان الصهيوني القدس عاصمةً له على لسان ديفيد بن جوريون David Ben-Gurion في 13/12/1949، وفي 23/1/1950 أكد الكنيست على ذلك بقانون تأسيس مقر الحكومة الصهيونية في القدس. [1] لم تعترف الولايات المتحدة بهذه الخطوة، ولم تنقل سفارتها من تل أبيب إلى غربي القدس، بل حافظت على مسافة عنها على الرغم من الغطاء الإجمالي الذي منحته للمشروع الصهيوني، وهذا ما ظهر واضحاً في موقفها التصويتي الذي سمح بتمرير قرارات مجلس الأمن 237 [2]، و242 [3]، و252 [4]، و271 [5]، و425 [6]، و478 [7]، وهو موقف كان مشروع التقسيم بقرار الأمم المتحدة 181 لسنة 1947 قد أفصح عنه حين اقترح تقسيم فلسطين إلى دولتين مع مصير مختلف للقدس يضعها تحت نظامٍ خاص بإدارة الأمم المتحدة، وهو امتداد لخط السياسات البريطانية الذي أسسه مشروع لجنة بيل Peel Commission لتقسيم فلسطين لسنة 1937، الذي اقترح تقسيم فلسطين إلى دولتين مع بقاء القدس وبيت لحم تحت انتداب بريطاني دائم.

شهد الموقف الأمريكي بعد ذلك تحولاً تدريجياً بدأت أولى محطاته سنة 1995 بقرار الكونجرس نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، تبعه تحول تدريجي في خطاب الخارجية الأمريكية باعتبار مصطلح “جبل المعبد Temple Mount”، كمصطلح أساس للإشارة إلى المسجد الأقصى المبارك، وهو ما تجلى في تقرير الحريات الدينية الصادر عن الخارجية الأمريكية في 2010 مع نقد “حرمان السلطات الإسرائيلية لغير المسلمين من ممارسة حريتهم الدينية فيه” [8]، وتأكد ذلك في تفاهمات جون كيري John Kerryالتي أعلنها من عمّان، والتي ذكر فيها المصطلح 8 مرات قدّم المعبد على الحرم في 5 منها [9]، واختلق خلالها وزير الخارجية جون كيري معادلة “المسلمين هم من يصلون على جبل المعبد، وغير المسلمين يزورون” [10]، بما يجعل الزيارة حقاً لغير المسلمين ليس متوقفاً على إرادة الهيئة الإسلامية المسؤولة عن الأقصى.

توجت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب Donald Trump التحول الأمريكي تجاه القدس بقرار الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني في 6/12/2017، ونقل سفارتها إلى القدس في 14/5/2018، ثم أكملت تحول الموقف من المسجد الأقصى المبارك بمشاركة سفيرها ديفيد فريدمان David Friedman، ومبعوث إدارتها إلى عملية السلام جيسون جرينبلات Jason Greenblatt، والزعيم الجمهوري البارز في مجلس الشيوخ ليندزي غراهام Lindsey Graham في افتتاح حفرية في سلوان في 30/6/2019، وقد عدَّ فريدمان تلك الحفرية في سلوان “إرثاً أمريكياً” [11]، وصولاً إلى نص صفقة القرن الذي أعلن في 28/1/2020 باسم “السلام من أجل الازدهار Peace to Prosperity”، وتضمن صفحاتٍ من الخطاب التوراتي تجاه القدس، وتبنى موقف اليمين الصهيوني تجاه المسجد الأقصى عبر نقطتين:

1. اعتبار الكيان الصهيوني الراعي الحصري للمقدسات وللمسجد الأقصى المبارك: “دولة إسرائيل تستحق التقدير على رعايتها الأماكن الدينية للجميع”، وبأن “هذه الممارسة يجب أن تستمر” [12]، دونما إشارة إلى الأوقاف أو الأردن أو ذكر لأي هيئة أخرى، ما يجعل وجود ومصير تلك الهيئات منوطاً بالإرادة الإسرائيلية بنظر تلك الصفقة.

2. تبني تقسيم الأقصى باعتباره الحل النهائي المقبول، والتأكيد على تمكين غير المسلمين من أداء شعائرهم كاملة في الأقصى: “الناس من كل دين يجب أن يسمح لهم بالصلاة في جبل المعبد/ حرم الشريف، بطريقة تحترم تماماً دينهم، آخذين في الاعتبار أوقات الصلوات ومواعيد الأعياد لكل دين، والعوامل الدينية الأخرى كذلك” [13]، والجملة الأخيرة تبقي الباب مفتوحاً لمزيد من التوسع الصهيوني تحت بند مراعاة “العوامل الدينية الأخرى”.

استهلكت بلورة صفقة القرن ومحاولة طرحها معظم وقت الولاية الأولى للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وزادت الأزمة السياسية الإسرائيلية الداخلية من طول تلك الفترة 18 شهراً، حتى اضطر ترامب إلى طرحها على رئيس حكومة تسيير الأعمال الإسرائيلية وزعيم المعارضة معاً، لعله يقنعهما بالتوحد على أساسها بعد الانتخابات، وكاد أن يخفق في ذلك، وزاد تعقيد أزمة كورونا والاحتجاجات ضده من ضبابية المشهد، ما اضطره إلى خفض الدفع لتنفيذها، ومحاولة التفرغ للانتخابات لحسم مصير ولايته الثانية، ويبدو أن هذا العنصر سيكون ذا أثرٍ محوري على مصير صفقة القرن التي تشكل مزيجاً من الرؤية الجمهورية يمينية ورؤية شخصية لترامب وعائلته، ويصعب الحفاظ عليها كرؤية استراتيجية أمريكية لإدارة الصراع.

ثانياً: التوظيف الإسرائيلي لتبدل الموقف الأمريكي:
جاء قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة للصهاينة ليعزز مساراً متصاعداً لليمين القومي – الديني الصهيوني، وَضَعَ بناء الهيكل في محل الأقصى وعلى كامل مساحته، في قلب أهداف الكيان الصهيوني، بعد أن كان في هامشها؛ وليدفع قدماً أجندةً كانت ماضية لتقسيم الأقصى زمانياً ومكانياً وصولاً للاستيلاء عليه. وقد حاولت الحكومة الإسرائيلية الاستفادة من الغطاء الأمريكي على جبهة باب الرحمة في شباط/ فبراير 2019، لكنها اصطدمت بردّ شعبي أجبرها على التراجع. كما حاولت العمل على جبهة نزع صلاحيات الترميم من الأوقاف، إذ بدأت عملية ترميم طويلة للسور الجنوبي الغربي في كانون الثاني/ يناير 2019 وهي ما تزال مستمرة حتى اليوم، وتتحدث تقارير عن نفاذها إلى التسوية الجنوبية الغربية عبر فتحات صنعتها في السور خلال الترميمات. [14] ركز المحتل اهتمامه بعدها على محاولة فرض سمو التعريف اليهودي للمسجد على تعريفه الإسلامي بتكريس الأعياد اليهودية كمناسبات اقتحام حتى وإن تقاطعت مع مناسبات إسلامية، وهذا ما حصل في اقتحام 28 رمضان الذي وافق الأحد 2/6/2019، [15] ثم اقتحام يوم الأضحى في 11/8/2019، [16] والذي شارك فيه مكتب نتنياهو شخصياً بنشر خبر كاذب بأن نتنياهو قرر منع الاقتحام، ليسحبه بعد انفضاض حشد المصلين، ويمكّن للمقتحمين دخول الأقصى تحت عدوان القوات الخاصة. [17]

في أيلول/ سبتمبر 2019 باتت الأولوية هي لفرض الصلوات اليهودية في الأقصى، وشهدت تلك الفترة اقتحامات وصلوات جماعية، لكن الرد الشعبي جاء بعد شهور في حملة الفجر العظيم بين كانون الأول/ ديسمبر 2019 وحتى آذار/ مارس 2020. ثم جاءت جائحة كورونا ليستثمرها المحتل لإطالة أمد إغلاق المسجد الأقصى 69 يوماً خلال الفترة 22/3-31/5/2020، وهي أطول فترة إغلاقٍ للأقصى منذ الحروب الصليبية، كشفت عنه غطاءه الشعبي، واستغلها الاحتلال لفرض وقائع لم يتمكن منها طوال 52 عاماً، فأغلق جميع أبواب الأقصى باستثناء بابين، وعزل إدارة الأوقاف القائمة في المدرسة المنجكية إذ بقي باب المجلس الذي يفصلها عن الأقصى مغلقاً، وباتت شرطته تلعب دور الأصيل الذي يسمح أو يمنع دخول موظفي الأوقاف بحسب مواقع عملهم ومواعيدها فقط بناء على قائمة سربت إليه من داخل الأوقاف. [18] وقد فرض إغلاق الأقصى بعد ثلاثة أيامٍ من إعلان نتنياهو إجراءات طوارئ، [19] وبعد أيامٍ من فرض مجلس الأمن القومي الإسرائيلي تحديد عدد المصلين في دور العبادة بعشرين شخصاً، وجاء فتح الأقصى بعد أيام من موافقة المجلس نفسه على فتح دور العبادة ورفع القيود العددية عن المساحات المفتوحة، في مسارٍ استخدمه الاحتلال لتأكيد سيادته على الأقصى. وظهرت تسريبات عن اتفاق سري بين الخارجية الأردنية ونظيرتها الإسرائيلية، تتكشف إن صحت عن خسارةٍ أكبر وأعمق. [20]

خلال فتح الأقصى، حرص الاحتلال على فرض صورة التساوي و”الفتح المتزامن” [21] تطبيقاً لسياسة جديدة بدأت من أروقة محكمة الاحتلال العليا، وبنت عليها شرطة الاحتلال تعهداً بفتح الأقصى للمقتحمين بمجرد فتحه للمسلمين. وبمجرد فتح الأقصى بدأت شرطة الاحتلال تفرض مجموعة من الممارسات المستجدة: فباتت تخلي مسار المقتحمين من كل المصلين قبل الاقتحام، وعادت لتفتح جبهة تفريغ مصلى باب الرحمة باعتقال المداومين على الصلاة فيه، وإبعادهم عن الأقصى وضربهم. [22] وبدأت جماعات الهيكل تعمل على تعزيز نفوذها مستكشفة اتجاهات عدة تشمل المطالبة بفتح الأقصى أمامها السبت، [23] وصولاً لتكريسه يوماً حصرياً للصهاينة في الأقصى، ومحاولة تكريس حضورها في الجهة الغربية من الأقصى عند درج البائكة الغربي لقبة الصخرة، [24] ويبدو أنها تستهدف الاستيلاء على باب السلسلة وإلحاقه بباب المغاربة.

إذا ما وضعت هذه التطورات في مسارات عامة تستقرئ أهدافها، فيمكن القول إن الحكومة الصهيونية وجماعات الهيكل يعملون على إعادة تعريف الأقصى باعتباره مقدساً مشتركاً بين المسلمين واليهود عبر المسارات الأربعة التالية:

1. تحديد مهام وصلاحيات الأوقاف الإسلامية في القدس باعتبارها تدير “الوجود الإسلامي في الأقصى” ولا تدير الأقصى بذاته باعتباره مقدساً إسلامياً، وذلك بموازاة هيئة أخرى تتولى إدارة حضور غير المسلمين فيه.

2. تمكين الصهاينة من أداء كامل الطقوس في المسجد الأقصى المبارك.

3. إعادة إغلاق باب الرحمة، واستعادة مسار التقسيم المكاني.

4. توسيع نطاق الحضور الصهيوني في يوم السبت زمانياً، وبالسيطرة على باب السلسلة ومحيطه والتسوية الجنوبية الغربية مكانياً.

في البعد الشخصي لصانع القرار الصهيوني ينبغي أن لا يُغفل تطلع نتنياهو إلى تسجيل إنجازٍ دائمٍ باسمه، بعد أن أصبح أطول رؤساء الوزراء حكماً في تاريخ الكيان، وبعد التحديات الانتخابية والقضائية التي تهدد استمراريته. وقد جاء تحديده لموعد 1/7/2020 تاريخاً لفرض الضم مدفوعاً أساساً بهذا الدافع؛ ويشكل تغيير الوقائع في الأقصى وفرض الوجود اليهودي الدائم فيه إغراء تاريخياً مشابهاً، قد يكون تتويجاً لخطوة الضم إن فُرضت، أو تعويضاً عنها إن أعيقت، وهو ما يجعل خط العدوان على المسجد الأقصى خطاً مستمراً في الحالتين مع احتمالية تعززه في الثانية، ولعل المؤثر النسبي عليه اليوم هو استقرار الوضع السياسي الإسرائيلي الداخلي.

ثالثاً: تراجع الموقف الأردني وتخلخل الموقف العربي:
في مقابل تبدل الموقف الأمريكي نحو تبني عدوان اليمين الصهيوني المتصاعد على الأقصى، وقف الأردن أمام معضلة وادي عربة التي منح نصها الكيان الصهيوني موقع الأصيل الذي يحترم الدور الأردني ويضمنه، [25] والتي جعلت الدور الأردني الحالي في الأقصى مؤقتاً؛ إذ أقرت الحاجة إلى إعادة تعريفه في أي حل نهائي، وهذا ما يراه الصهاينة اليوم في صفقة القرن، ولم تحصنه بإرجاعه إلى أي قرارات شرعية دولية مثل قرار مجلس الأمن 271 لسنة 1969، ولم تحله إلى أي صيغة تحكيمية في حال الخلاف. وقد تعزز مأزق وادي عربة بالثورات والتغيرات في المنطقة العربية، وميل الأردن للتكيف معها، بالاعتماد أكثر على الدعم الأمريكي والاقتراب سياسياً أكثر من الكيان الصهيوني من خلال تفعيل الاستفادة من ميناء حيفا، [26] والمنطقة الحرة المشتركة في الأغوار الشمالية، [27] ومشروع تشغيل الأردنيين في إيلات، [28] واتفاقية الغاز بما تؤسسه من اعتمادٍ استراتيجي في الطاقة، [29] ومحاولة تحريك مشروع ناقل البحرين. [30]

في المحصلة، انتهى هذا الواقع إلى تراجعٍ أردني أمام كل تقدم صهيوني في الأقصى، بعد أن بات يتحلى بالغطاء الأمريكي، فانتزع الاحتلال صلاحيات ترميم أسوار الأقصى لأول مرة في كانون الثاني/ يناير 2019، ومر ذلك ببيانات استنكار على مستوى وزارة الأوقاف وأوقاف القدس، وانتزعت صلاحية ترميم الخلوة الجنبلاطية التي تحتلها منذ 1982 كمقر للشرطة في 29/5/2019، واكتفى الأردن بتصريحات توضيحية لمشايخ في الأوقاف. [31] وفي شباط/ فبراير 2019، حاولت إدارة الأوقاف استبدال قفل بقفل صباح الثلاثاء 19/2/2019 لتحاول إنهاء التوتر دون تصعيد شعبي، [32] كما أبقت باب التفاوض على مصيره مفتوحاً حتى الآن، وكرست إغلاق الأقصى وفتحه خلال جائحة كورونا باتفاقية مع الخارجية الصهيونية، كشف عنها وزير الأوقاف في حديثه لعدد من النواب في مناسبات مختلفة، [33] ثم اضطرت لنفيه نفياً خجولاً بعد انكشافهن [34] وأخيراً جاء تعميم مدير الأوقاف في 28/7/2020 ليستبق عدواناً واسعاً على الأقصى في 30/7/2020، وليمنع موظفي الأوقاف والحراس من نشر أي خبر عن الأقصى إلا بموافقته الخطية، [35] وليضع غطاء من السرية على هذا العدوان الذي كان هدفه المركزي فرض الصلوات الجماعية، والذي تقول المصادر الميدانية إنه شهد 30 سجوداً لصهاينة على أرض الأقصى، وأكثر من 45 صلاة جماعية بصوتٍ عالٍ.

رابعاً: خط التصدي الشعبي وبلبلته خلال جائحة كورونا:
شكل التصدي الشعبي الخط المقابل الوحيد لاتجاهات العدوان الصهيوني والغطاء الأمريكي والتراجع العربي، وقد تجلى ذلك في محطات معاصرة متعددة من هبة النفق 1996، وانتفاضة الأقصى 2000، إلى تجربة الرباط المؤسسي الممتدة حتى 2015، وانتفاضة السكاكين 2015، وهبة باب الأسباط 2017، وهبة باب الرحمة 2020، وصولاً إلى الفجر العظيم مطلع سنة 2020 والذي كان حراكاً متصاعداً وعابراً للحدود قطعته جائحة كورونا، التي استخدمها الاحتلال لضرب روح الرباط والحراك الشعبي في القدس، فعزل المناطق عن بعضها واستفرد بها، وبدأ حملات اعتقالات في الأحياء انتهت إلى اعتقالات إدارية وإبعادات عن القدس وتحويل للمحاكمة. لقد شكلت تلك الفترة من الكمون “الاضطراري” الشعبي فترة مثالية لفك شيفرة الحراك الشعبي في بيئة مواتية للاحتلال.

ثم جاءت التراجعات العربية المتتالية لتشكل ضربة نفسية للحراك الشعبي، والبلبلة التي سببها الموقف الرسمي الأردني والأوقاف المتراجع في وجه الهجمة الصهيونية ليضرب تماسك صفه الداخلي. ويمكن القول اليوم إن الفعل الشعبي المقدسي أمام تحدٍّ وجودي اليوم، لكن التجربة التاريخية تقول إن هذا الفعل طالما تمكن من تخطي هذه التحديات، فاستجاب لتجربة ضرب الفصائل بصعود الرباط المؤسسي، ثم جاء الفعل الفردي النوعي ليسد فراغ حظر الفعل المؤسسي في 2015، وليتأسس حراك شعبي واسع عابر للتوجهات والتيارات تجلى في محطات باب الأسباط وباب الرحمة والفجر العظيم، وأمام التحدي الوجودي الحالي المحدق في الأقصى فإن المساحة الوحيدة المتاحة والمرشحة لاجتراح الإجابات هي الفعل الشعبي الفلسطيني.

خامساً: السيناريوهات المتوقعة لتطور المشهد في الأقصى:
بناء على التحليل السابق، يمكن الوصول إلى خمسة عوامل أساسية مؤثرة في تحديد تطور المشهد في الأقصى: استمرار زخم الموقف الأمريكي؛ ويشكل استمرار ترامب في الحكم محدداً مؤثراً فيه، وتصاعد العدوان الصهيوني واستقرار المشهد السياسي الداخلي يؤثر فيه نسبياً، وحضور فعل شعبي فلسطيني، وتطور جائحة كورونا، وأخيراً تطور الموقف العربي عموماً والأردني باعتبار دوره الخاص في الأقصى. وعلى ذلك فإن السيناريوهات المحتملة تتلخص في أربعة سيناريوهات كما يلي:

 النتائج

الاتجاهات الدافعة

السيناريو

الأول: التراجع النسبي في الأقصى

1. صعود رئيس ديموقراطي، أو حصول أزمة انتخابية في الولايات المتحدة.
2.
استقرار الحكومة الصهيونية.
3.
عدم بروز فعل شعبي واسع.
4.
تطور موجة ثانية للوباء.
5.
اقتصار التراجع العربي على دول طرفية.

إغلاق محتمل لمصلى باب الرحمة.
فرض طقوس يهودية أوسع.
تطور العدوان الموسمي دون تثبيت خطوات إضافية.

الثاني: المراوحة في المكان (استمرار الوضع الراهن(

1. صعود رئيس ديموقراطي، أو أزمة انتخابية أمريكية.
2.
أزمة داخلية صهيونية.
3.
بروز فعل شعبي محدود.
4.
توقف قطار الانهيار العربي.

توسع العدوان الموسمي في الأقصى دون تثبيت مكتسبات دائمة.

الثالث: التراجع الواسع

1. التجديد لترامب بشكل مستقر.
2.
استقرار الحكومة الصهيونية.
3.
عدم بروز فعل شعبي واسع.
4.
انضمام السعودية علناً إلى قطار الانهيار العربي.
5.
تجدد موجة ثانية للجائحة.

إغلاق باب الرحمة.
انتزاع السبت كيوم للصهاينة.
احتمالية فرض حضور صهيوني في الجهة الجنوبية الغربية للأقصى.
تحول الأوقاف الإسلامية لهيئة مناصفة تتولى الشق الإسلامي من العبادات فيه.
التطور لإغلاق مبانٍ أخرى في الأقصى.

الرابع: المواجهة الشعبية الشاملة (من الممكن أن يتطور الموقف من الثالث إلى الرابع)

المحدد المركزي هو اندلاع شرارة فعل شعبي في لحظة انطلاقٍ عفوي مواتية، والظروف الأشد قسوة في السيناريو أعلاه يمكن أن تعزز هذا الاتجاه. يضاف إلى ذلك حدوث فراغ في رأس السلطة الفلسطينية بوفاة محمود عباس.

فرض تراجع محدود أو واسع على الوجود الصهيوني في الأقصى وفي الضفة الغربية عموماً اعتماداً على شدة الفعل واتساع مداه ومدته، وانخراط فلسطينيي الداخل المحتل وقطاع غزة في هذه المواجهة.

والسيناريوهات مرتبة بحسب احتمالية حصولها، أي أن الأكثر ترجيحاً هو الأول يليه الثاني فالثالث ثم الرابع. إلا أن المشهد في المنطقة يتسم بكثرة المتغيرات وسرعة الحركة بشكل يجعل الترجيح يبنى على الاتجاهات المنظورة عند بنائه، واحتمالية تطور المشهد لسيناريوهات خارج التوقع تبقى قائمةً كذلك.

سادساً: توصيات:
1. ضرورة تقدير أهمية المعركة في الأقصى، والارتقاء إلى مستوى المواجهة، باعتبارها المسار المركزي لتصفية قضية فلسطين على مستوى الهوية، ولمنع تصفيتها كذلك بالمقابل، على مستوى النخبة السياسية الفلسطينية.

2. الضرورة والأولوية الملحة لدعم الفعل الشعبي في القدس من كل المكونات الفلسطينية في الداخل والخارج، ومن كل القوى العربية والإسلامية.

3. ضرورة تعزيز الموقف المستقل للمرجعيات الدينية في القدس.

* مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 21/8/2020

الهوامش

[1] Site of The Knesset, Click Here

[2] قرار يعد الأراضي التي احتلها الكيان الصهيوني 1967 أراضٍ محتلة تنطبق عليها اتفاقية جنيف الرابعة 1967، أيدت الولايات المتحدة القرار. اضغط هنا (United Nations, Security Council, Resolution 237 (1967) of 14 June 1967, S/RES/237 (1967), 14/6/1967, Click Here)

[3] قرار يطالب الكيان الصهيوني بالانسحاب من الأراضي التي احتلت في حرب 1967 (أراضٍ بحسب النص الإنجليزي)، أيدت الولايات المتحدة القرار. اضغط هنا (United Nations, Security Council, Resolution 242 (1967) of 22 November 1967, S/RES/242 (1967), 22/11/1967, Click Here)

[4] قرار يعد كل التغييرات التي قام بها الكيان الصهيوني لتغيير مكانة القدس القانونية لاغية وباطلة ولا يمكنها تغيير مكانة القدس، امتنعت الولايات المتحدة عن التصويت. (United Nations, Security Council, Resolution 237 (1967) of 14 June 1967, S/RES/237 (1967), 14/6/1967.)

[5] قرار يدين إحراق المسجد الأقصى المبارك ويحمل الاحتلال الصهيوني المسؤولية عنه، ويطالب بتمكين المجلس الإسلامي الأعلى من ترميم المسجد الأقصى بالتعاون مع دول إسلامية أو مجتمعات ذات غالبية إسلامية، امتنعت الولايات المتحدة عن التصويت. اضغط هنا (United Nations, Security Council, Resolution 271 (1969) of 15 September 1969, S/RES/271 (1969), 15/9/1969, Click Here)

[6] قرار أدان الاستيطان في الضفة الغربية بما فيها شرقي القدس، واعتبر ما ينشأ عنه لاغياً وباطلاً، امتنعت الولايات المتحدة عن التصويت. اضغط هنا(United Nations, Security Council, Resolution 425 (1978) of 19 March 1978, S/RES/425 (1978), 19/3/1978, Click Here)

[7] قرار رفض إعلان القدس عاصمة أبدية موحدة للكيان الصهيوني واعتبره لاغياً وباطلاً، امتنعت الولايات المتحدة عن التصويت. اضغط هنا
United Nations, Security Council, Resolution 478 (1980) of 20 August 1980, S/RES/478 (1980), 20/8/1980, Click here

[8] International Religious Freedom Report 2010, U.S. Department of State, Bureau of Democracy, Human Rights and Labor, Click Here

وكان التقرير في السنوات السابقة يعتمد مقدمة تبدأ بالاعتقاد الإسلامي ثم اليهودي عن المكان، وتعتمد المصطلح معكوساً “Haram al Sharif/ Temple Mount”. انظر التقرير ذاته لعام 2009، اضغط هنا

[9] Remarks, John Kerry Secretary of State, Amman Marka Airport, Amman, Jordan, October 24, 2015, U.S. Department of State, Click Here

[10] Ibid.

[11] Haaretz newspaper, 30/6/2019, Click Here

[12] Peace to Prosperity: A Vision to Improve the Lives of the Palestinian and Israeli People, White House, January 2020, p. 16, Click Here

[13] Ibid.

[14] موقع الجزيرة.نت، 17/7/2020، اضغط هنا

[15] الجزيرة.نت، 2/6/2019، اضغط هنا

[16] الجزيرة.نت، 11/8/2019، اضغط هنا

[17] Site of The Times of Israel, 11/8/2019, Click Here

[18] موقع عربي 21، 9/5/2020، اضغط هنا

[19] Haaretz, 19/3/2020, Click Here

[20] عربي 21، 11/5/2020، اضغط هنا

[21] Israel Hayom newspaper, 28/5/2020, Click Here

[22] انظر مثلاً اعتداء شرطة الاحتلال على 5 فتيات في مصلى باب الرحمة، الجزيرة.نت، 21/6/2020، اضغط هنا

[23] وقد علق نتنياهو على تلك المطالبة بصيغة أقرب إلى الوعد في اجتماعه مع جماعات الهيكل بعد الانتخابات الأخيرة التي لم يتمكن اليمين من الفوز فيها منفرداً وبفارق أصواتٍ بسيط: “كنت سأفوز بالانتخابات لو أني وافقت على دخول اليهود إلى جبل المعبد أيام السبت”، اضغط هنا (The Times of Israel, 7/3/2020)

[24] الجزيرة.نت، 16/7/2020، اضغط هنا

[25] أعيد تعريف الدور الأردني في القدس بموجب نص البند الثاني من المادة التاسعة من اتفاقية وادي عربة بهذا النص المختصر: البند الثاني من البند التاسع في الاتفاقية ليقول التالي: “في هذا الشأن، وبما يتماشى مع إعلان واشنطن، فإن إسرائيل تحترم الدور الحالي الخاص للمملكة الأردنية الهاشمية في الأماكن الإسلامية المقدسة في القدس. عندما تحصل مفاوضات الحل النهائي، فإن إسرائيل ستعطي أولوية قصوى للدور الأردني التاريخي في هذه الأماكن”. اضغط هنا

[26] موقع عمون، 4/2/2013، اضغط هنا

[27] عربي 21، 5/2/2019، اضغط هنا

[28] موقع قناة المملكة، 8/3/2019، اضغط هنا

[29] بقيت بنود الاتفاقية سرية لسنوات إلى أن كشفها النائب في البرلمان الأردني صالح العرموطي، للاطلاع على أبرز بنودها اضغط هنا موقع حبر، 4/8/2019، اضغط هنا

[30] موقع قناة المملكة، 19/11/2019، اضغط هنا

[31] عربي 21، 29/5/2019، اضغط هنا

[32] الجزيرة.نت، 19/2/2019، اضغط هنا

[33] حديث مباشر لعدد من النواب المعنيين مع المؤسسة.

[34] موقع قناة المملكة، 18/5/2020، اضغط هنا

[35] تعميم رقم 1/4/18/1210 بتاريخ 28/7/2020 صادر عن مدير عام أوقاف القدس وشؤون المسجد الأقصى المبارك.

* خالص الشكر لباحثي مؤسسة القدس الدولية على إعداد المسودة التي أتاحت إصدار هذا التقدير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى