أقلام وأراء

المختار الدبابي: انتخابات تونس: تأكيد لعزلة المعارضة أم تراجع شعبية قيس سعيد

المختار الدبابي 16-12-2022م: انتخابات تونس: تأكيد لعزلة المعارضة أم تراجع شعبية قيس سعيد

قبل ساعات من الصمت الانتخابي، لا يشعر التونسيون بالحماس للمشاركة في الانتخابات التشريعية، وهو ما يعكسه تضاؤل أخبارها والنقاشات حولها في الأماكن العامة وعلى مواقع التواصل الاجتماعي. صحيح أن هناك عاملا موضوعيا ساهم في التغطية عنها، وهو تزامن الحملة الانتخابية مع اهتمام الناس بمقابلات كرة القدم، وأخبار النجوم، وخاصة مشاركة تونس ثم المغرب في المونديال.

كان خطأ الإبقاء على موعد الانتخابات بعد تثبيت فيفا في يناير الماضي موعد المونديال بين شهري نوفمبر وديسمبر. كان من الممكن تغيير موعد الانتخابات إلى يناير، لكن السعي لربطها بذكرى انطلاق احتجاجات السابع عشر من ديسمبر 2010 غلب على الاحتياط السياسي لوضع الانتخابات في مواجهة لعبة شعبية لا يمكن أن يحرف الأنظار عنها أي شيء.

وبالنتيجة، فإن الحملات الانتخابية كانت محدودة، واكتفى المرشحون بتدخلات قصيرة في التلفزيون وبعض الإذاعات. وكان حضورها في مواقع التواصل الاجتماعي عكسيا، وهي القناة المؤثرة رقم واحد في تونس، حيث تناقل النشاط نكتا عن مداخلات تتحدث عن طبقة الأوزون وأخرى عن زيادة الأمطار.

لا بد من الاعتراف بأن السبب المباشر لمحدودية الحملات الانتخابية يأتي من القانون الانتخابي الذي ضيق على مشاركة الأحزاب التي تمتلك ماكينات للتحرك وقادرة على تمويل الحملات والوصول إلى الشارع. لكن في هذه الحملة غابت صور المرشحين من الشوارع ومن واجهات المباني كما اختفت الخيام المخصصة للدعاية الانتخابية، واقتصر نشاط بعض المرشحين على توزيع بيانات انتخابية تتضمن برامجهم على المارة في الشارع.

لكن هل يعني فتور الحملة الانتخابية وتواضعها أنها نجاح للمعارضة ودعوات المقاطعة التي أطلقتها؟ بالتأكيد لا، لأن المعارضة باتت معزولة لاعتبارات تتعلق بتجارب الناس مع السياسة والسياسيين، فأغلب من يدعون إلى المقاطعة شاركوا في حكومات سابقة، ووقف الناس على حقيقة أنهم لا يمتلكون أفكارا ولا برامج، ولا يقدرون على إدارة الدولة.

ببساطة لقد عادوا إلى دورهم الذي يتقنونه، هو الجلوس في مقعد المعارضة، وإصدار البيانات والتصريحات النارية التي تصور ما حولهم على أنه خراب وظلام، وأن لا حياة دونهم. لكن الناس لديها ذاكرة، وخاصة الفئات الفقيرة والمهمشة التي تضررت من تجربة السنوات العشر الماضية، حيث غابت الدولة بشكل كامل في مواجهة الغلاء والاحتكار والفساد الواسع، واهتم الجميع بالقضايا السياسية.

وبدا وكأن الذين حكموا في السنوات الماضية ينتقمون من الدولة لأن الذين حكموا قبلهم قلصوا هامش المشاركة السياسية ووضعوا ديمقراطية على المقاس، فقاموا هم بالعكس تماما، حيث أغرقوا البلاد في السياسة والقوانين والتعديلات، ولا يخرج الناس من انتخابات إلا ليدخلوا أخرى، ويروا بأعينهم كيف حوّل السياسيون البلاد إلى ما يشبه الكرة يتقاذفونها حسب مصالحهم.

إذا كان الناس قد قاطعوا الانتخابات، أو شاركوا بالحد الأدنى، فهذا رد فعل عكسي على فشل السياسة والديمقراطية والأحزاب والحكومات والرؤساء.

ويكفي الوقوف على حجم الذين شاركوا في مظاهرة السبت التي دعت لها جبهة الخلاص التي ينظر إليها على أنها واجهة لحركة النهضة لنكتشف أن الأحزاب فقدت بريقها، حتى من داخل أنصارها، وأن الاكتفاء بالتظاهر في الشارع ليس تأكيدا على القوة بل على افتقاد أدوات التأثير الأخرى وغياب الأفق، حتى بدا وكأنه تسجيل حضور لتقول الجهات الخارجية المتابعة إن الحزب الفلاني مازال موجودا، وإن الشخصية الفلانية لم تعد طي النسيان.

وبالنتيجة، فإن الاستعراض في الشارع تحول إلى حجة على الأحزاب وليس حجة لها، حتى أن التحالف الخماسي (حزب العمال والجمهوري والتيار الديمقراطي والتكتل والقطب) اضطر لإلغاء مظاهرة السبت الماضي حتى لا تظهر محدودية مشاركة أنصاره خاصة أن التوقيت قد تزامن مع مظاهرة النهضة.

لكن هل تعني عزلة المعارضة قوة الرئيس قيس سعيد وحكومته؟

الوضع تغير تماما عما كان عليه في الأشهر الأولى لإجراءات الخامس والعشرين من يوليو 2021 والتي كان من بينها تجميد البرلمان وحل حكومة يوسف الشاهد في وقت كان الناس يحملون المنظومة القديمة مسؤولية انتشار الفساد والعجز عن إدارة الدولة، ويدعمون إمساك الرئيس سعيد بكل دواليب الحكم اعتقادا منهم بأن النزاهة ونظافة اليد وعدم انتمائه لأي حزب كلها عناصر تجعل منه المنقذ الذي تنتظره تونس للقضاء على ما بات يعرف بـ”العشرية السوداء”.

لكن الرئيس سعيد وقع في نفس المطب الذي وقع فيه سابقوه، حيث ركز جهوده على البعد السياسي، بدءا من تركيز السلطة بيده، وصولا إلى اختزال السلطات كلها في مؤسسة رئاسة الجمهورية، والأهم جعل الاهتمام منصبا على سن مراسيم تركز على البعد التشريعي الخادم لرغبته في بناء حكم جماهيري جديد وليس حكما ديمقراطيا كلاسيكيا.

صحيح أن النوايا والخطط والأدوات تختلف من سعيد إلى المعارضة، لكن النتيجة واحدة، وهي الاستغراق في تنمية البعد السياسي على حساب الأبعاد الأخرى التي تهم مصالح الناس.

وإذا كانت المعارضة التي حكمت في السابق قد تركت الحبل على الغارب ودفعت الملف الاقتصادي بيد التكنوقراط، ومنعت أي إصلاحات تتعارض مع اللوبيات المهيمنة، والتي كان البعض منها يمول ويدفع لأحزاب وشخصيات، فإن الرئيس سعيد قارب المسألة بشكل مختلف، ولكن من دون أن يؤدي إلى نتائج ذات قيمة.

صحيح أن الحملة على الاحتكار والفساد واللوبيات أعادت الأمل للتونسيين في الخروج من النفق، وخاصة لرجال الأعمال والمال من أجل أن يعملوا في مناخ مشجع على العمل والاستثمار، لكن المقاربة لم تخرج من مربع الوعود والتصريحات المتكررة حتى شعر الناس بالملل واكتشفوا لاحقا أن الحكومة ليست لديها الحلول التي يبحثون عنها، وزاد في ترسيخ هذه الصورة أن الحكومة لا تتكلم، ولا تدافع عن خياراتها، خاصة موضوع الإصلاح الاقتصادي الذي ينتظره الناس لإخراج البلاد من الوضع الصعب، وتمكين اقتصادها من أن يعود إلى سالف عهده، قادرا على خلق مواطن العمل، جاذبا للسياح والمستثمرين.

وتعود محدودية المشاركة في الانتخابات في جزء منها إلى هذه الصورة التي لم يعرف الناس من خلالها هل الحكومة في مستوى وعود الرئيس أم لا، وهل أن تلك الوعود مسنودة برؤية للتغيير أم هي مواقف شخصية أقرب إلى الانطباعية منها إلى شيء آخر، خاصة أن الرئيس سعيد دأب على اتهام جهات مجهولة بالتعطيل وعدم الاستجابة لانتظارات الناس مع أن السلطات بيده، ويمكنه أن يحوّل أفكاره إلى وقائع.

ولم ينجح خطاب الحكومة في التواصل مع الناس بشكل دائم وسهل لإقناعهم بحقيقة الوضع. الثقافة الاجتماعية التي تأسست منذ 1956 ترى أن الدولة عليها أن تتدبر الأموال وتدفع دائما لتحسين الأوضاع وزيادة الرواتب والمزايا للموظفين، وفي ظل شعبوية المعارضة واتحاد الشغل، والإضرابات والمطالبات التي ترضخ لها الحكومة تحت الضغط، تترسخ لدى الناس فكرة أن الأموال موجودة، وأن عليهم أن يحتجوا وأن يرفعوا سقف المطالب لتستجيب.

لم تفلح الحكومة في أن تقنع الناس بأن البلاد في أزمة، وأن التحولات الدولية تزيدها أعباء على أعباء، وأن على الجميع أن يتقشف ويتحمل للخروج إلى بر الأمان. وعلى العكس فهناك وزراء يظهرون ليقولوا إن الحكومة لن تقلص الدعم، ولن تتراجع عن الخدمات المقدمة للناس. صحيح أن الهدف هو سحب البساط من تحت أقدام المزايدين، لكن النتيجة هي تأجيل الإصلاحات بدل التسريع بها.

محدودية المشاركة في الانتخابات وتراجع النسب نتاج طبيعي لغلبة البعد السياسي الذي يعيق المصارحة وكشف الحقائق للناس.

مركز الناطور للدراسات والابحاثFacebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى