أقلام وأراء

المحامي زياد أبو زياد يكتب – صائب الجندي الذي أرسلوه ليقاتل بدون سلاح

بقلم  المحامي زياد أبو زياد – 15/11/2020

لا أبالغ إذا قلت بأن رحيل الأخ والصديق صائب عريقات كان خسارة شخصية لي إذ فقدت صديقا إنسانا كنت دائما أجده حين أريده وكنت دائما أعول عليه في كثير من المناسبات السياسية حين كان يُطلب مني أن أجد من يستطيع أن يتحدث في الشأن الفلسطيني ويطرح وجهة نظر شعبه وقيادته في المؤتمرات والندوات واللقاءات الدولية.

وكدأبنا نحن الفلسطينيون لا نعرف قيمة بعضنا البعض إلا بعد الرحيل ، وقد قلت ولا أزال أقول بأن من لديه كلمة طيبة عن إنسان ما فليقلها له في حياته لا أن يبخل بها ثم ينطلق يرددها بعد وفاته.

كنت أسمع الكثير من النقد وأحيانا التهكم في حياته وأعترف بأنني ذُهلت من حجم الكلام الجميل الذي قيل فيه بعد مماته والذي أعطاه حقه مع أني كنت أتمنى لو سمع صائب في حياته عُشر هذا الكلام.

عرفت صائب مذ عاد الى البلاد وعمل في جامعة النجاح في أواخر السبعينيات وكان يتردد على جريدة القدس ويكتب فيها حينما كنت في جريدة ” الفجر ” المنافسة وكنت لبعض الوقت مديرا ً للتحرير.

كانت ” الفجر ” هي لسان حال منظمة التحرير وكانت ” القدس ” مستقلة رغم العلاقات والقنوات المفتوحة التي تيقنت من وجودها فيما بعد بين المرحوم محمود أبو الزلف والعديد من قادة م ت ف. الذين كانوا يحرصون على العلاقات الطيبة معه. وظلت علاقتي مع صائب بين مد وجزر إلى أن انعقد مؤتمر مدريد وتم اختيار أعضاء الوفد الى مؤتمر مدريد وكان صائب واحدا منهم ، وكنت أنا من ضمن مجموعة صغيرة من الأشخاص بقيادة الشهيد فيصل الحسيني تم تكليفنا باختيار أعضاء الوفد لمؤتمر مدريد وكنا نعمل من بيته في الصوانة بالقدس.

وقد ذاع صيت صائب آنذاك لأنه أصر على حضور الاجتماعات وهو ملفع بالكوفية الفلسطينية مما أثار حفيظة الإسرائيليين الذين رأوا في الكوفية رمزا ً لأبي عمار وللمنظمة مع أنهم هم والأمريكيون كانوا يصرون على عدم مشاركة المنظمة بأي مفاوضات.

توطدت علاقتنا منذ ذلك الحين وأصبحنا على تواصل دائم سواء في الاجتماعات التي كان يعقدها الرئيس الشهيد عرفات على هامش مؤتمر مدريد ومن ثم مفاوضات واشنطن أو كأعضاء في مجلس الوزراء أو نواب في المجلس التشريعي الأول أو في اللجان المختلفة. ثم ابتعدت عن الإطار الرسمي بعد عام 2006 ولكن صائب كان من القلائل جدا ً من المسؤولين الذين احتفظت بعلاقتي معهم.

كان صائب بمثابة أرشيف متنقل للقضية الفلسطينية تحضره التواريخ وأرقام قرارات مجلس الأمن والجمعية العمومية وبيانات وقرارات العديد من الأطر الدولية والهيئات والمحاكم وكان يجيد الربط بينها واستخلاص النتائج منها. وكان خير محام مدافع عن قضية شعبه وتطلعاته الوطنية.

وكنت أسمع اللغط حينا والمماحكة أحيانا بشأن دور صائب في المفاوضات. وكان كتابه الذي أسماه ” الحياة مفاوضات ” من أكثر الأمور مادة للانتقاد أو المداعبة غيرحسنة النية.

كانت السذاجة لدى البعض تعتقد بأن نتائج المفاوضات هي نتيجة لقدرة وكفاءة المفاوض ، وأنه طالما أن صائب فاوض قرابة ربع قرن دون نتيجة فهو إذن مفاوض فاشل. وهذا هو الخطأ بعينه والظلم بعينه والتجني على الحقيقة بعينه. فالمفاوضات هي أخذ وعطاء والمفاوض يلعب بأوراق الضغط المتوفرة لديه وللأسف فإن كل الذين كانوا أو ما زالوا ينتقدون صائب كمفاوض لم يسألوا أنفسهم في أي يوم من الأيام ما هي وسائل الضغط التي وفرتها القيادة السياسية التي بعثت صائب وغير صائب للتفاوض ؟

المفاوضات ليست محكمة تعتمد على الحجج والبينات والمستندات والوثائق ، مع أن كل هذه مهمة ، وتحكم بموجبها . وليست سوق عكاظ يفوز فيه من يحسن البلاغة والكلام. فكلتا هاتين الصفتين كانتا متوفرتين في صائب ، ولكن الشيء الذي لم يتوفر له ولغيره من المفاوضين هو وسائل الضغط التي تجعل المفاوض على الجانب الآخر يرضخ لمطالبنا.

فنحن من قبل مؤتمر مدريد قبلنا بالشروط الأمريكية وهي القبول غير المشروط بالقرار 242 ونبذ الإرهاب والاعتراف بحق إسرائيل في الوجود.

القرار 242 كان لمعالجة نتائج حرب 1967 ولا صلة له من قريب أو بعيد بحقوق الشعب الفلسطيني التي تم الاعتداء عليها عام 1948. ونبذ الإرهاب كان بمثابة ” كود ” يعني نبذ المقاومة المسلحة والتنازل عنها ووضعها تحت مسمى الإرهاب. فماذا بقي للمفاوض الفلسطيني ليتسلح به على طاولة المفاوضات؟

صائب كان جنديا مقاتلا أرسلته قيادته الى الحرب ، المفاوضات ، ولكن دون سلاح. وصائب وغيره من المفاوضين كانوا أشبه بأفراد الجهاد المقدس بقيادة الشهيد عبد القادر الحسيني الذي ناشد الجامعة العربية والدول العربية أن تمده بالسلاح ولكنهم رفضوا وسقط شهيدا يدافع عن القدس في معركة القسطل ، وصائب هو كأفراد وجنود الجيش المصري الذين كانوا في الفاوجة وكانوا بأمس الحاجة للسلاح ولكن حكومتهم آنذاك أمدتهم بالسلاح الفاسد ليقعوا في الحصار ولكنهم رفضوا الاستسلام.

صائب هو حكاية مسيرة بدأت خطأ وانحرفت عن المسار ، ومع ذلك ظل صائب يقاتل بقلمه في أهم الصحف العالمية وبلسانه وهو يلتقي العديد من الوفود من كل المستويات السياسية والأكاديمية والطلابية يشرح لهم قضية شعبه ووطنه.

لاحظت بعد أن تشافي صائب من عملية زرع الرئة أنه عاد للنشاط المكثف وبدأت أقلق عليه واضطررت ذات يوم أن افاتحه في الأمر ، فقلت له أنه يبالغ في العمل وأن عليه أن يكف عن ذلك وأن يقلل ويخفف من نشاطاته لكي لا تؤثر على صحته. فماذا كان رده ؟ قال لي: عملي هو رأسمالي وهو مدى شعوري بقيمتي وأستمد ذلك الشعور من مقدار ما أستطبع أن أعمل. لا استطيع أن أقعد ولا أن أخفف.

رحم الله صائب الإنسان الصديق الوفي والوطني والمخلص لشعبه وقضيته ، رحم الله الشهيد صائب عريقات وطيب ثراه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى