أقلام وأراءدراسات وتقارير خاصة بالمركز

اللواء محمود الناطور يكتب – وعد بلفور .. المؤامرة التي غيرت وجه الشرق الأوسط

اللواء محمود الناطور – أبو الطيب

في نهاية 1897، وبعد اكثر من عام من صدور كتابه “دولة اليهود”، نظم الصحافي والكاتب تيودور هرتزل في بال بسويسرا اول مؤتمر صهيوني شارك فيه نحو 200 مندوب قدموا من شرق اوروبا وخصوصا من روسيا. وأعلن المجتمعون في مؤتمرهم ان “الصهيونية تطمح الى تأسيس موطن للشعب اليهودي في فلسطين يضمنه القانون العام”. وأعلن المؤتمر انه يريد خصوصا تشجيع “استيطان مزارعين وعمال وحرفيين يهود في فلسطين” وتعزيز “الشعور القومي اليهودي” والحصول من مختلف الحكومات “على الموافقة الضرورية لانجاز تطلعات الصهيونية”. وسرعت المشاعر المعادية لليهود في أوروبا والعمليات ضدهم في روسيا انتقال العديد من هؤلاء الى فلسطين. وبلغ عدد اليهود في فلسطين 47 الفا في 1895 مقابل 24 الفا في 1882.

ومع دخول الحرب العالمية الاولى سنتها الاخيرة، وبينما كانت لندن تسعى الى تعزيز مواقعها والحصول على دعم الحركة الصهيونية النامية وسط السكان اليهود في أوروبا وامريكا ، بدأت في نهاية 1915، المملكة المتحدة والجمهورية الفرنسية البحث في تقاسم المناطق العربية التابعة للامبراطورية العثمانية المترنحة. وفي 1916، اتفق كل من الفرنسي فرنسوا جورج-بيكو والبريطاني مارك سايكس على وضع فلسطين تحت إدارة دولية في إطار تقسيم المقاطعات العربية التابعة للعثمانيين بين فرنسا وبريطانيا. لكن المملكة المتحدة لم تكن راضية عن فكرة التدويل، ولو انها حصلت بمقتضاها على الادارة المباشرة لمينائيحيفا وعكا. وسعت الى الاستفادة من الطموحات الصهيونية، معتبرة ان الاعتراف ب “وطن قومي يهودي” يخدم ضمان مصالحها في الشرق الاوسط. وبدأت الحركة الصهيونية من جهتها مفاوضاتها مع الحكومة البريطانية. وساعدها فيها تعيين آرثر بلفور المناصر لليهود بنهاية 1916 وزيرا للخارجية.

واستغرقت صياغة وعد بلفور 4 أشهر قبل الوصول إلى الصيغة النهائية، وذلك بعد مفاوضات استمرت ثلاث سنوات دارت بين الحكومة البريطانية من جهة، واليهود البريطانيين والمنظمة الصهيونية العالمية من جهة أخرى، واستطاع من خلالها الصهاينة إقناع بريطانيا بقدرتهم على تحقيق أهداف بريطانيا، والحفاظ على مصالحها في المنطقة..وحرصت وزارة الخارجية البريطاني ـ في تلك المرحلة ـ على الاقتضاب في تصريحاتها، وتحاشي التفاصيل، والاعتماد على العبارات المطاطية.

وفي الثاني من تشرين الثاني / نوفمبر 1917، وجه آرثر بلفور الى الممثل الاعلى للطائفة اليهودية البريطانية اللورد والتر روتشيلد رسالة صادقت عليها الحكومة البريطانية وطلب منه فيها ان يبلغ مضمونها الى الاتحاد الصهيوني. وجاء في نص الرسالة : “عزيزي اللورد روتشيلد، يسرني جدا أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرته: إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة مقام قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جليا أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر، وسأكون ممتنا إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علما بهذا التصريح. المخلص آرثر جيمس بلفور”.

وشكل هذا النص القصير المؤلف من 67 كلمة، نصرا كبيرا لرئيس الصهاينة في المملكة المتحدة حاييم ويزمان، الذي أصبح فيما بعد أول رئيس لدولة إسرائيل، حيث حصلوا على وعد بإقامة وطن لليهود الذين هم ليسوا سكان فلسطين، حيث لم يكن في فلسطين من اليهود عند صدور التصريح سوى  30 ألفا فقط من أصل عدد اليهود في العالم حينذاك، والذي كان يقدر بحوالي 12 مليونا، في حين كان عدد سكان فلسطين من أبنائها  في ذلك الوقت يناهز 650 ألفا من المواطنين الذين كانوا، ومنذ آلاف السنين يطورون حياتهم في بادية وريف ومدن هذه الأرض، ولكن الوعد المشؤوم تجاهلهم ولم يعترف لهم إلا ببعض الحقوق المدنية والدينية، متجاهلا حقوقهم السياسية والاقتصادية والإدارية.

وجاء هذا الوعد في ظل توافق بريطاني أمريكي ليفتح الطريق لاقامة دولة اسرائيل وزرع بذور الصراع الذي ما زال يمزق الشرق الاوسط ، ويشكل بداية حقيقة لتغيير مجرى التاريخ في منطقة الشرق الأوسطالتي لا تزال تعاني من آثاره. وكانت الحكومة البريطانية قد عرضت نص «وعد بلفور» على الرئيس الأمريكي ولسون، ووافق على محتواه قبل نشره، ووافقت عليه فرنسا وإيطاليا رسميا سنة 1918، ثم تبعها الرئيس الأميركي ولسون رسميا وعلنيا سنة 1918، وكذلك اليابان، وفي 25  إبريل/ نيسان سنة 1920، وافق المجلس الأعلى لقوات الحلفاء في مؤتمر سان ريمو على أن يعهد إلى بريطانيا بالانتداب على فلسطين، وأن يوضع وعد بلفور موضع التنفيذ حسب ما ورد في المادة الثانية من صك الانتداب، وفي 24 يوليو /’تموز عام 1922 وافق مجلس عصبة الأمم المتحدة على مشروع الانتداب الذي دخل حيز التنفيذ في 29  سبتمبر/ أيلول 1923، وبذلك يمكننا القول إن وعد بلفور كان وعدا غربيا وليس بريطانيا فحسب.

وبعد ثلاثة أيام فقط من إعلان صك انتداب بريطانيا على فلسطين، كشفت بريطانيا عن مضمون وعد بلفور، واحتج الفلسطينيون وحدثت اشتباكات لأول مرة بين الحرس البريطاني وأصحاب الأرض من الفلسطينيين، وأصدرت بريطانيا أوامرها إلى الإدارة العسكرية البريطانية الحاكمة في فلسطين، أن تطيع أوامر اللجنة اليهودية التي وصلت إلى فلسطين في ذلك الوقت برئاسة حاييم وايزمن خليفة هرتزل، وكذلك عملت على تحويل قوافل المهاجرين اليهود القادمين من روسيا وأوروبا الشرقية إلى فلسطين، ووفرت الحماية والمساعدة اللازمتين لهم.

وفي 11 ديسمبر/ كانون الأول 1917 أي بعد أسابيع فقط من الوعد، دخلت الجيوش البريطانية بقيادة «الجنرال ألنبي» القدس، الذي قال عبارته الشهيرة: «الآن انتهت الحروب الصليبية»، وفي مؤتمر فرساي يناير 1919 قدمت الحركة الصهيونية خطة تنفيذ مشروع استيطان فلسطين، ودعت إلى إقامة وصاية بريطانية لتنفيذ وعد بلفور، وأن تشمل حدود فلسطين ضواحي صيدا ومنابع الليطاني ونهر الأردن وحوران وشرق الأردن والعقبة وأجزاء من صحراء سيناء المصرية.

وفي نيسان/ابريل 1920، منح مؤتمر روما لندن الانتداب على فلسطين وبحسب نص الانتداب الذي أقر نهائيا في 1922 في عصبة الامم، تتولى المملكة المتحدة “مسؤولية ان ترسي في هذا البلد (فلسطين) وضعا سياسيا وإداريا واقتصاديا من شانه ان يضمن اقامة وطن قومي للشعب اليهودي”. وشكل ذلك نجاحا ضخما للصهاينة.

ومع صعود النازية في المانيا وبعد المذابح التي تعرض لها اليهود فيها أثناء الحرب العالمية الثانية، اتخذت هجرة اليهود الى فلسطين حجما كبيرا. وقامت مجموعات مسلحة صهيونية بزيادة الضغط على أهل فلسطين.

في تشرين الثاني/نوفمبر 1947، اعتمدت الامم المتحدة قرار تقسيم فلسطين الى دولتين: واحدة فلسطينية واخرى يهودية مع وضع القدس تحت الاشراف الدولي. في 14 أيار/مايو 1948، اعلن ديفيد بن غوريون اقامة دولة اسرائيل مع انتهاء الانتداب البريطاني لفلسطين.

وبذلك مثل الوعد سابقة في تاريخ العلاقات الدولية، على حساب الشعب  العربي الفلسطيني.. ودشن آخر جيوب الاستعمار في العالم، واقتلاع  أمة بأكملها من ديار أجدادها، ليستمر تدمير أجيال عدة من الفلسطينيين بعد عقود من الزمن.. بعد أن تمكن اليهود من استغلال وعد بلفور ومن ثم صك الانتداب، وقرار الجمعية العامة عام 1947، القاضي بتقسيم فلسطين ليحققوا حلمهم بإقامة إسرائيل في الخامس عشر من مايو/  أيار عام 1948، وليحظى هذا الكيان (المشروع الصهيوني) بعضوية الأمم المتحدة بضغط الدول الكبرى، ولتصبح إسرائيل أول دولة في تاريخ النظام السياسي العالمي التي تنشأ على أرض الغير، وتلقى مساندة دولية جعلتها تعربد في المنطقة، وتتوسع وتبتلع المزيد من الأراضي الفلسطينية والعربية.

اكثر من مئة عام مرّت على وعد بلفور ، الذي أعطى فيه من لا يملك لمن لا يستحق، والذي تم التوافق عليه ودعمه من أقطاب رأس المال الغربي ، وتم تحويل فلسطين إلى «وطن قومي» لليهود. وعلى الرغم من نص قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة إلى دولتين مناصفة، فإن إسرائيل تقوم اليوم على أكثر من 70% من أرض فلسطين التاريخية وتسيطر على البقية بالاحتلال كذلك، وما زال المشروع الإستيطاني الاحتلالي يمثل النقطة الأولى لمعاناة الشعب الفلسطيني ، من تهجير وقتل وتنكيل ومجازر بشعة أسفرت عن استشهاد آلاف الفلسطينين.

وعلى الرغم من كل هذا الظلم التاريخي المفضوح والمكشوف أمام العالم ، الذي وقع على الشعب الفلسطيني، ونتجت عنه نكبة عام 48 التي شرد نتاجها أهل الأرض الأصليين من وطنهم، قاوم الفلسطينيون بكل ما لديهم لصد هذه المؤامرة، وإثبات أن فلسطين أرض بشعب، وليس كما روّج الصهاينة آنذاك بأنها أرض بلا شعب، وجاءت انتفاضة النبي موسى عام 1920، وانتفاضة يافا عام 1921، وثورة البراق عام 1929، إضافة إلى العديد من الاحتجاجات والإضرابات التي كانت تنادي بضرورة رحيل اليهود عن أرض فلسطين. 

مرت السنون ولم تتبدد تلك المأساة ولم تنضب في وعي الفلسطينيين أصالة هويتهم العربية الفلسطينية، فما زال المفتاح بيمينهم وما زالت الأذهان قبل الشفاه، تذكر الأوطان في كل لحظة، لاجئون من كل بلدان العالم لم تنسهم السنون، ولم تمح من ذاكرتهم الأوطان وحقهم في الرجوع إليها.

ولم تكتف إسرائيل بأساليبها الاستفزازية تجاه الفلسطينيين من أسر وقتل واستيطان وممارسات عنجهية، ليدخل الفلسطينيون مراحل متتالية من الانتفاضات الشعبية السلمية التي قابلتها إسرائيل بالعنف الممنهج. ففي ديسمبر عام 1987 اندلعت انتفاضة الحجارة التي راح ضحيتها ما يزيد على ألف شهيد فلسطيني، وآلاف الجرحى والأسرى، وشكلت علامة فارقة في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، يوم أن واجه الحجر آليات الاحتلال. وفي سبتمبر 2000، اندلعت انتفاضة الأقصى التي فرضت معادلات جديدة على الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، حيث استمرت لخمس سنوات متتالية استشهد فيها أكثر من أربعة آلاف فلسطيني وأصيب عشرات الآلاف.

واليوم تأتي الذكرى ال102 للوعد ، في إطار خطوات دراماتيكية غير مسبوقة لتصفية القضية الفلسطينية؛ بدءًا بالاستيطان وسلب الأراضي، وإعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترمب مدينة القدس المحتلة عاصمة لـ”إسرائيل” ومحاولاته تصفية حق العودة، عن طريق تصفية وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا”، ومحاولة حصر اللاجئين بـ40 ألفًا ومنع انتقال صفة لاجئ لأبناء اللاجئين وأحفادهم، إضافة للمحاولات المستميتة للتوطين، في حين تستهدف سلطات الاحتلال الإسرائيلي فلسطينيي الداخل المحتل عام 48 م بقوانينَ عنصرية تستهدف وجودهم، ولعل أبرزها قانون “يهودية الدولة” القومية. ويحاول الرئيس الأمريكي دونالد ترمب تمرير “صفقة القرن” التي  هي أشبه بالوجه الثاني لوعد بلفور، فالأخير أعطى فلسطين هدية لليهود، في حين أعطى “سيد البيت الأبيض” القدس لكيان الاحتلال عاصمة أبدية. وتتواصل معاناة الشعب الفلسطيني، مع مرور قرنٍ وسنةٍ من الزمن على الوعد المشؤوم؛ فالفلسطينيون يتعرضون في كل أماكن وجودهم للظلم والاضطهاد. يعانون ويكابدون الألم والمعاناة، علّهم يومًا يعودون إلى الوطن الأسير. ويبقى الشعب الفلسطيني هم الشيفرة الأهم للصمود في وجه المحتل، وليبقى ملح الأرض ممثلاً برفض المؤامرة، هو الشاهد الأبرز على صمود هذا الشعب وأحقيته بوطنه بعد مرور أكثر من مئة عام على مؤامرة بلفور.

وبالرغم من هذه المؤامرات المستمرة ضد الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة ، وبالرغم من صعوبة الواقع السياسي الفلسطيني على الصعيد الداخلي والخارجي ، الا ان صلابة شعبنا ومقاومته لكل المؤامرات التي تحاك ضده وضد قضيته، فلا إسرائيل ولا حتى الإدارة الأميركية بمقدورها الوقوف أمام صمود هذا الشعب الذي يقطع الطريق أمام كل المؤامرات الساعية لفرض رؤى جديدة على قضيتنا الفلسطينية لا تتسق مع أهداف هذا الشعب ونضالاته التي يسعى إليها منذ زمن طويل، ولقد اثبتت جماهير شعبنا أن الحق لا يضيع طالما وراءه مطالب مهما مضت عليه السنون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى