أقلام وأراء

العميد أحمد عيسى يكتب القدس والإنتخابات ومستقبل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي

العميد أحمد عيسى * 25/4/2021

قطع الفلسطينيون شوطاً طويلاً في التحضير للإنتخابات التشريعية والرئاسية وتلك الخاصة بالمجلس الوطني، حيث يستعد الشعب الفلسطيني في مناطق الدولة الفلسطينية الموعودة بعد أن إنتهت فترة الترشح والإعتراض والطعون، للتوجه لصناديق الإقتراع يوم السبت الموافق 22 مايو/ أيار القادم، إذا ما ضمن الفلسطينيون إجراء الإنتخابات في مدينة القدس عاصمة الدولة الموعودة، وذلك لإختيار القائمة/ القوائم التي يرى الناخبون وفقاً لمعاييرهم الخاصة أنها الأقدر على توفير إحتياجاتهم وتلبية تطلعاتهم وتحقيق أمالهم بالحرية والإستقلال.

وفيما بلغت إستعدادات الفلسطينيون للإنتخابات نقطة الذروة التي اتجهت فيها أنظارهم ومعهم العالم بأسره نحو القدس وسط تصميم فلسطيني رسمي وشعبي على عدم إجراء الإنتخابات بدون القدس، صعدت حكومة إسرائيل (التي أصبحت في نظر كثير من اليهود سواء المواطنين في إسرائيل، أم الذين يعيشون خارجها دولة تمييز عنصري ابارتيد)، من إجراءاتها التهويدية والإستيطانية في القدس الشرقية، كما سمحت بزيادة وتيرة إقتحام الجماعات الدينية المتطرفة للمسجد الأقصى المبارك، بما في ذلك قطع الكهرباء عن مكبرات الصوت لمنع رفع الآدان خشية إزعاج اليهود الذين يحتفلون في باحة سور البراق بذكرى إستقلال الدولة التي تعني نكبة الفلسطينيين.

وقد وصلت الإجراءات التهويدية التي تفوح بالعنصرية ذروتها يوم الخميس الموافق 22 من الشهر الجاري عندما نظمت جماعة من تنظبم (لهافا) اليهودي المتطرف الذي أسسه العام 1999 أحد تلاميذ مئير كهانا مؤسس حركة كاخ العنصرية المتطرفة، تظاهرة إستفزازية في باب العمود لإثبات أن القدس وكل فلسطين ملك خالص لليهود وفقا لتصريحات أحد منظمي التظاهرة، وبالتزامن مع ذلك منع وزير الأمن الداخلي (أوحانا) تجمع الشباب المقدسي على مدرجات باب العمود، هذا التجمع الذي يعتبر من تقاليد شهر رمضان المبارك في القدس الشرقية، الأمر الذي دفع أهل القدس شيباً وشباناً إلى الخروج للشوارع في كل أحياء القدس والإشتباك بالأيادي مع قطعان المستوطنين والجماعات المتطرفة التي أعدت نفسها جيدا بالترتيب مع شرطة أوحانا التي أصبحت تشبه في سلوكها شرطة النظام العنصري في جنوب أفريقيا في فترة حكم النظام العنصري الأبيض دفاعاً عن القدس والمسجد الأقصى.

صحيح أن الحملة الإنتخابية في فلسطين لم تبدأ بعد، إذ من المقرر أن تبدأ في الأول من شهر أيار/مايو القادم وفق أحكام قانون الإنتخابات النافذ في فلسطين، إلا أن ما جرى ويجري في القدس يرسم محددات ويحدد محتوى الدعاية الإنتخابية للقوائم الإنتخابية التي تنشد الفوز بالإنتخابات واحتلال مكانة تحت قبة البرلمان، والأهم أن ما يجري بالقدس ينذر بإندلاع موجة وربما إنتفاضة ثالثة في المناطق الفلسطينية، الأمر الذي يمكن ملاحظته في سرعة إندلاع مواجهات بين الفلسطينيين والجيش الإسرائيلي في معظم أرجاء الضفة الغربية، علاوة على مبادرة فصائل المقاومة في غزة إلى إطلاق عشرات الصواريخ نحو مستوطنات غلاف غزة مساء يوم الجمعة الموافق 23/4/2021.

في الواقع تختلف هذه الهبة في القدس عن سابقاتها من الهبات، الأمر الذي يكسبها أهمية تفوق أهمية ما سبقها، ويعود ذلك لعدة اسباب منها توقيت حدوثها، ثم أطرافها، وأخيراً ما كشفته من حقائق يتوجب على الفلسطينيين التوقف أمامها وتطوير ما يلزم من تدخلات بناء عليها.

فمن حيث التوقيت تتزامن هبة القدس مع إزدياد وتيرة التحولات التي تجري في البيئة الإستراتيجية الفلسطينية (الدولية والإقليمية والمحلية)، إذ من الناحية الدولية يقف النظام الدولي على أعتاب فترة تاريخية تنطوي على مخاطر وتهديدات للشعب الفلسطيني وقضيته، ربما تفوق في حجمها ما تنطوي عليه من فرص وأمال، حيث من جهة ينهار النظام العالمي القديم الذي ظلم الفلسطينيين كثيراً، ومن جهة أخرى ما زال النظام العالمي الجديد لم يقف على قدميه بعد، ولا يبدو أن النظام الجديد عازم حقاً على تصحيح ما مضي وإنصاف الشعب الفلسطيني، الأمر الذي يجعل من التموضع بصورة صحيحة بين التيارات المتلاطمة لهذا الواقع العاصف بمثابة الضمان الوحيد لبقاء شعب صغير وضعيف ووحيد كالشعب الفلسطيني.

أما من الناحية الإقليمية فقد فقد الشعب الفلسطيني بعضاً من عمقه الإستراتيجي من خلال إنحياز بعض من الأنظمة العربية الرسمية لصالح الرواية الصهيونية في فلسطين والقدس على حساب النكبة الفلسطينية.

ومن الناحية المحلية فقد إندلعت أحداث القدس عشية الإنتخابات التي إنتظرها الشعب الفلسطيني طويلاً وسط قناعات متزايدة في أوساط قطاعات واسعة من الشعب أن النظام السياسي الفلسطيني سواء ذلك المتمثل بالسلطة الفلسطينية، أم ذلك المتمثل بمنظمة التحرير الفلسطينية لم يعد يعكس واقع الشعب، كما لم يعد قادراً على تلبية إحتياجات وتطلعات الشعب، وفوق ذلك أن تشكيك الشعب بشرعية هذا النظام آخذة بالتزايد.

أما من حيث طبيعة الأطراف المنخرطة في هذه الجولة من الهبات، فليس خافياً أنها تختلف عن سابقاتها من الجولات، إذ لم يعد الفلسطينيون في مواجهة مع أفراد الشرطة والجيش وحرس الحدود فقط، بل علاوة على ذلك أصبحت مواجهتهم مع قطعان المستوطنين وأفراد المنظمات اليهودية العنصرية التي اصبحت مشاركة في رسم السياسة الخارجية للدولة بعد جولة الإنتخابات الأخيرة في إسرائيل.  

ومن حيث الحقائق التي أبرزتها هذه الهبة فهي تنقسم إلى قسمين، يتعلق الأول بواقع إسرائيل الإستراتيجي ومكانة اليمين المتطرف في رسم سياسة الدولة، ويدور القسم الثاني حول مكانة القدس والرواية الفلسطينية في تحديد الإستراتيجية الفلسطينية في قادم الزمن.

وفيما يتعلق بواقع إسرائيل الإستراتيجي فلم يعد بإمكان الدولة إخفاء فشلها في مواجهة التهديدات الداخلية والخارجية إعتماداً على الجيش لوحده الذي أنيطت به مهمة حسم الصراع مع الفلسطينيين وفي نفس الوقت حماية حدود الدولة من التهديدات الخارجية، ولذلك رأينا تدخل الشعب، لا سيما قطعان المستوطنين بقيادة جماعة كهانا، إلى جانب الجيش والشرطة في حسم الصراع مع الفلسطينيين بالقوة، الأمر الذي يعني أننا سنشهد المزيد من المواجهات بين الفلسطينيين وقطعان المستوطنين بحماية الجيش والشرطة في القدس وعلى إمتداد الضفة الغربية في قادم الأيام.

وحول القسم الثاني من الحقائق التي كشفتها هبة القدس، فيتجلى أبرزها وأكثرها وضوحاً في مكانة القدس والرواية الفلسطينية العروبية في فكر القوى السياسية الفلسطينية التي تسعى لكسب ثقة الشعب في جولة الإنتخابات القادمة والحصول على تفويض منه لقيادته خلال السنوات الأربع القادمة، ففاقد البصيرة من لم يبصر بأم العين أن الهبة العفوية في القدس حددت بصدق ووضوح نوع القيادة التي يريدها الشعب وهي بلا شك القيادة التي تجعل من القدس والرواية الفلسطينية العروبية في فلسطين مركز فكرها والناظم لسلوكها، فبوركت القدس ومن يحج إليها، وبئست كل العواصم التي تخلت عن القدس ومن يحج إليها.

* المدير العام السابق لمعهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى