شوؤن عربية

العراق والخيارات المحتملة للحرب

 بقلم لقاء مكي * – 28/12/2020

يعيش العراق حالة توتر وترقب لتطور الموقف بين الولايات المتحدة وإيران، والاحتمالات المتزايدة لاندلاع مواجهة عسكرية بين الطرفين يكون العراق ساحتها الرئيسية، قبل أن ينهي الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ولايته رسميًّا في العشرين من يناير/كانون الثاني المقبل.

تصاعدت حمى التوقعات بنشوب مثل هذا النزاع، بعد القصف الصاروخي الذي استهدف السفارة الأميركية في بغداد يوم العشرين من ديسمبر/كانون الأول، ووصفته مصادر إعلامية بأنه كان الأخطر من نوعه بسبب عدد الصواريخ ودقة إصابتها لمبان في السفارة. ومثل جميع المرات السابقة، لم تعلن أية جهة عن مسؤوليتها عن القصف، لكن واشنطن سارعت لاتهام ما وصفتها بأذرع ايران في العراق بالمسؤولية، وحمَّل الرئيس، ترامب، إيرانَ عواقب مقتل أي أميركي.

ترافَقَ تحذير الرئيس، ترامب، مع معلومات صحفية أميركية عن بحث فريق الأمن القومي في البيت الأبيض لخيارات الرد على إيران استعدادًا لعرضها على الرئيس الأميركي، فيما كثَّفت واشنطن من تحركاتها العسكرية، وأرسلت طائرات (بي 52) من الأراضي الأميركية للتحليق مرتين فوق أجواء المنطقة، ودخلت مياه الخليج الغواصة الأميركية (يو إس إس جورجيا) المجهزة بصواريخ توماهوك، وهي المرة الأولى التي يُعلَن فيها عن دخول غواصة من هذا النوع للمنطقة منذ 8 سنوات، كما نشرت وسائل إعلام إسرائيلية أن غواصة إسرائيلية توجهت أيضًا نحو مياه الخليج “تحسبًا لأي ردٍّ إيراني على مقتل العالم النووي، محسن فخري زاده، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي”.

وحسب ما صدر من مواقف، فإن واشنطن قلقة من احتمال قيام إيران أو (أذرعها) بعمليات انتقامية ضد المصالح الأميركية في المنطقة، ولاسيما في العراق في الذكرى السنوية لمقتل قائد فيلق القدس الإيراني السابق، قاسم سليماني، الذي يصادف الثالث من يناير/كانون الثاني المقبل. وقد أشار إلى ذلك قائد القيادة الوسطى الأميركية، كينيث ماكينزي، حينما نبَّه في تصريحات لشبكة “إيه بي سي” (ABC)، إلى وجود ما قال: إنه (خطر كبير) بأن تقوم طهران بتهديد المصالح الأميركية بالشرق الأوسط، مع اقتراب الذكرى السنوية الأولى لمقتل سليماني. وكشف عن معلومات استخبارية “رصدت احتمال حدوث هجوم داخل العراق، من قبل إيران أو جماعات مدعومة منها”.

في المقابل، نفت إيران علاقتها بالصواريخ التي استهدفت السفارة، وزار قائد فيلق القدس، إسماعيل قاآني، بغداد مرتين في غضون أسبوعين، ونقلت وسائل إعلام عن “مصدر عراقي” قوله: إن المسؤول الإيراني “أبلغ الحكومة العراقية رفض بلاده لقصف السفارة الأميركية”، وقالت طهران: إن “واشنطن تتحمل بالكامل مسؤولية عواقب أي عمل غير حكيم تقوم به في المرحلة الحالية”، ووصفت اتهامات واشنطن لطهران بأنها مكررة ولا أساس لها، واتهمت البيت الأبيض بفبركتها، وحذَّرت الرئيس ترامب من “خوض مغامرات خطيرة في الأيام الأخيرة من وجوده في البيت الأبيض”.

خيارات غير محسومة

برغم حدة التصريحات، ودواعي القلق من احتمالات انجرار التوتر الراهن إلى نزاع عسكري، إلا أن أسبابًا عديدة بالمقابل قد تخفِّف من المدى المتوقع الذي يمكن أن تنزلق إليه الأمور في المنطقة قبل رحيل ترامب.

في الجانب الأميركي، لا تبدو الحسابات المنطقية مفيدة كثيرًا، في ظل المفاجآت التي ميزت ولاية الرئيس ترامب وسلوكه، ولأنه سيبقى متمتعًا بكافة صلاحياته الدستورية حتى منتصف نهار العشرين من يناير/كانون الثاني المقبل، فلن يكون هناك حدود للتوقعات بشأن ما يمكن أن يُقْدِم عليه قبل ذلك التوقيت. ويدور كثير من التكهنات حول محاولته نشر الفوضى في المنطقة من خلال حرب حتى لو كانت محدودة، ليضع عقبات إضافية أمام الرئيس المنتخب، جو بايدن، لاسيما في سعي الأخير للعودة للاتفاق النووي مع إيران، وسيكون ذلك آخر خدمة يمكن أن يقدمها ترامب كرئيس لإسرائيل.

وقد وفرت عمليات القصف التي استهدفت السفارة الأميركية ببغداد، فرصة لمثل هذا الخيار، وما زالت كذلك، حتى لو أعلنت ايران أنها ليست مسؤولة عنها، ففي النهاية، تُتَّهَم الفصائل المسلحة الموالية لإيران بعمليات القصف، وليس هناك سواها من يمتلك هذه الإمكانات العسكرية أو الوجود المريح في مناطق انطلاق الصواريخ داخل بغداد أو في ضواحيها.

لكن تصريحات الرئيس الأميركي ربطت أية عمليات عسكرية ضد إيران أو أذرعها بمقتل مواطن أميركي، وهذا أمر لم يحدث حتى الآن وقد لا يحدث أبدًا، وحينها لن تكون هناك ذريعة واضحة لشنِّ عمليات عسكرية، وهو واقع قد يستمر حتى نهاية ولاية ترامب. وسيكون متوقعًا بقوة أن تمنع طهران الفصائل الموالية لها في العراق من القيام بأية عمليات انتقامية في ذكرى مقتل سليماني كما تتوقع واشنطن، وبالتالي فحينما تمر هذا المناسبة بهدوء، فربما لن تجد واشنطن سببًا مباشرًا لتنفيذ ضربات عسكرية كبيرة.

وإذا كان لدى ترامب دوافع شخصية وسياسية لتعقيد ملفات المنطقة من خلال حرب خاطفة قد تتطور لنزاع واسع، فإن إيران ليست راغبة بذلك بالتأكيد، وستحرص بكل طاقتها على حرمان ترامب من الذريعة التي قد يكون بانتظارها، وهو ما يفسر زيارات قاآني المتكررة لبغداد، وما تسرَّب عن اجتماعه مع الفصائل ودعوتها للهدوء في هذه المرحلة.

لكن مثل التكتيك الإيراني المفهوم والمتوقع لاسيما في سياق البراغماتية الإيرانية، قد لا يكون بالضرورة قابلًا للتنفيذ بشكل مثالي، بسبب الطبيعة المعقدة لأوضاع الفصائل المسلحة في العراق، وتحديدًا (الفصائل الولائية) المعروفة بموالاتها لطهران.

عقدة الفصائل

تعمل هذه الفصائل تحت غطاء (الحشد الشعبي)، وهو تشكيل عسكري تأسس عام 2014 لمواجهة تنظيم الدولة من ميليشيات شيعية ومن متطوعين، قبل أن يأخذ وضعه القانوني عام 2016 كجهاز عسكري مستقل تحت إمرة رئيس الوزراء الذي يتولى منصب القائد العام للقوات المسلحة. ورغم صدور العديد من الأوامر لتنظيم عمل هذه الفصائل، وضبط حركتها في إطار الدولة، وضمن سياق عسكري، إلا أن غالبيتها تجاهلت هذه الأوامر، وظلت تعمل ضمن سياق تبعيتها لقياداتها الحزبية والدينية والميليشياوية، وهؤلاء أعلنوا مرارًا ولاءهم لإيران.

كان كل من قاسم سليماني وأبومهدي المهندس يسيطران بشكل محكم على هذه الفصائل، وكان الأخير ينظم علاقتها بمؤسسات الدولة العراقية، ويمنع حدوث تماس أو احتكاك بينها وبين الجيش العراقي أو بين الفصائل ذاتها، فيما كان سليماني هو مهندس استخدام هذه الفصائل لتحقيق مكاسب تكتيكية محلية وإقليمية ضمن ما يعرف بـ(محور المقاومة)، وكثيرًا ما شمل هذا الأمر تنظيم قواعد اشتباكها مع القوات الأميركية في العراق، بطريقة تخدم السياسية الخارجية الإيرانية. تعرضت هذه الأدوار التي أداها بإتقان كل من سليماني والمهندس إلى نكسة كبيرة بمقتل الرجلين في غارة شنَّتها طائرة أميركية مسيَّرة قرب مطار بغداد، مطلع العام 2020، ومنذ ذلك الحين لم تعد الأمور مثلما كانت.

لم يتمكن كل من إسماعيل قاآني الذي خلف سليماني، ولا عبد العزيز المحمداوي (أبو فدك)، قائد كتائب حزب الله العراق، الذي تولى منصب المهندس، من السيطرة على الحشد الشعبي بالشكل الذي كان عليه؛ حيث انفصلت عنه فصائل تابعة لمرجعية آية الله علي السيستاني وتُعرف بـ(فصائل العتبات)، وأسست لها قيادة خاصة، لكن الأهم في سياق ما يحدث هو أن بعض الفصائل بدا أنها باتت تتصرف بمفردها خارج الآليات أو نظام السيطرة التي عرفته من قبل، ويعزز هذا الاستنتاج أن كل من الفصائل رسخت لنفسها موارد اقتصادية خاصة، وعناصر يوالونها داخل الجيش أو الشرطة والمؤسسات السياسية والإدارية.

ولن يكون سهلا وصف تفاصيل ما يجري في عالم الميليشيات المغلق والمزدحم بالعناوين والمصالح والمرجعيات، لكن حالة (التمرد) داخل هذه الشبكة المعقدة تبدت في أواسط ديسمبر/كانون الأول ، حينما اعتقل جهاز أمن الحشد الشعبي، قيادات (سرايا الخراساني) وقام بغلق مقراتها، في سابقة من نوعها، دون توضيح الأسباب. لم يكن هذا التطور عابرا، فهذه الميليشيا فاعلة، ولها أدوار في العراق وسوريا، وكان توقيت الاعتقالات بعد زيارة قام بها قاآني لبغداد، موحيا لجهة علاقة (سرايا الخراساني) بإطلاق الصواريخ على السفارة الأميركية، دون موافقة طهران،  وفي أعقاب زيارة قاآني الثانية بعد أقل من أسبوعين، اعتقلت القوات العراقية قياديًّا من عصائب أهل الحق، يوم الرابع والعشرين من الشهر الحالي، اتُّهم بقيادة عمليات إطلاق الصواريخ على السفارة الأميركية. تسبب الحادث بتوتر شديد في بغداد؛ حيث انتشر أعضاء هذا الفصيل بأسلحتهم في شوارع بالعاصمة، قبل أن يجري إنهاء التوتر بشكل مؤقت.

في الحالتين، لا يمكن إغفال أن إيران لم تعد تحتمل الأشخاص أو الفصائل التي بدأت تتصرف وفق أجنداتها الأيديولوجية أو ربما (المحلية)، ولن يكون مستبعدًا قيام قائد فيلق القدس بالاتفاق مع الحكومة العراقية على القيام (بما يلزم) لوقف حالة التوتر من خلال اعتقال مطلقي الصواريخ لمنع أي تصعيد عسكري ممكن من جانب واشنطن، مع فارق أن التعامل مع ميليشيا (العصائب) كان أكثر محدودية وحذرا، بسبب حجمها وأدوارها وعلاقتها العميقة مع طهران.

قد تنجح إيران بالتعاون مع الحكومة العراقية و(الفصائل الولائية) المطيعة لها في وقف عمليات القصف (غير المنضبطة) ضد المصالح الأميركية خلال الفترة المتبقية قبل رحيل ترامب، لكن ذلك ليس مؤكدًا حتى لو أرادت ذلك؛ لأن الفصائل المسلحة تحولت إلى مراكز قوى أساسية في العراق، تتوفر على موالين وأسلحة متطورة، وهي تدربت أيديولوجيًّا من قبل إيران على معاداة الولايات المتحدة، ومن يواليها في المنطقة، وربما يكون صعبًا ومعقدًا أن تجري السيطرة على الجميع في ظل الوضع الحساس الراهن، وسيكون لدى كثير من المجموعات المسلحة التابعة لهذه (الفصائل الولائية) قدرة على إطلاق هجمات صاروخية جديدة على المصالح الأميركية، سواء بدوافع أيديولوجية أو سياسية أو شخصية أو لمجرد (خطأ) في الحسابات، وحينها ستتحمل إيران اللوم، حتى لو تكن هي من أمرت بذلك، لأنها هي أصلًا من صنع هذه القوى وهيأها لهذه الأدوار.

الخيارات إذن مفتوحة، وخطورتها الأساسية تكمن في أن طرفيها ليسا تحت السيطرة، لا ترامب ومزاجيته ومفاجآته، ولا إيران التي لا تريد أن تمنح ترامب حربه، لكنها تواجه عواقب قوى مسلحة عنيفة هي من صنعها وطالما كانت أذرعها الخشنة، وبات بعضها يخرج عن السيطرة، وقد يكون لجزء من هذا البعض مصلحة في تفجير الأوضاع، فليس أفضل من الاضطراب والفوضى ليكون فيه لأمراء الحرب السلطة الحقيقية.

*لقاء مكي – باحث أول في مركز الجزيرة للدراسات، وأستاذ دكتور في الإعلام والدعاية من جامعة بغداد.

* مركز الجزيرة للدراسات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى