#شؤون مكافحة الاٍرهاب

«السلفية» في لبنان.. مولود مشوَّه من رحم الانكسارات العربية

عبدالهادي ربيع – 26/8/2018

غزا الفكر السلفي، لبنان، منذ أواخر القرن التاسع عشر، نتيجة لتأثر اللبنانيين بالدروس الدينية في حلقات دمشق لأشهر دعاة السلفية في ذلك الوقت جمال الدين القاسمي، وطاهر الجزائري، ومن بعدهما محمد بهجة البيطار، وعبدالقادر بدران، إضافة إلى الدعوة السلفية الإصلاحية التي حملتها صفحات مجلة “المنار” لرشيد رضا، و”الفتح” لمحب الدين الخطيب. لكن البداية الحقيقية للتيار السلفي في لبنان- بصورته التتنظيمية- كانت مع بداية العقد الرابع من القرن العشرين، على يد مؤسس التيار السلفي سالم الشهال.

و”الشهال” تلقى هذه الأفكار بعد تأثره مباشرة برشيد رضا، إضافة إلى سفره للسعودية وتلقيه تلك الأفكار على يد مشايخ السلفية في المدينة المنورة، وعقب عودته إلى وطنه لبنان عمل على نشر دعوته في شمال لبنان، وللشمال خصوصية اجتماعية فريدة تغلب عليه الجوانب الدعوية والتعليمية والأعمال الخيرية، بعيدًا عن أي شكل من أشكال الصراع والعمل السياسي.

في ثلاثمائة قرية من القرى اللبنانية، لقي الشهال نجاحًا باهرًا نتيجة لتزامن دعوته مع الهزائم المتلاحقة التي ضربت العالم العربي بداية من حرب 1948، حتى نكسة عام 1967.

وتزامنًا مع هذه الهزائم العربية والانكسارات الإسلامية، كان لبنان يعاني العديد من التقلبات السياسية ويشهد الكثير من الضغوطات الاجتماعية، خاصة خلال الحرب الأهلية، ما أسهم في انضمام المزيد من الشباب اللبناني إلى التيار السلفي، الذين سعوا إلى إقامة إمارة إسلامية في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في عين الحلوة بين عامي 1982 و1985، وربما بإمارتهم المزعومة هذه سبقوا من لحقهم من التنظيمات الإرهابية إلى فكرة الإمارة الإسلامية والخلافة التي لا مكان لها إلا في أوهامهم فقط.

أشهر المدارس والمعاهد

بتاريخ الثامن من سبتمبر 2015 في برنامج “إسلاميون.. وبعد”، الذي يذاع على قناة الميادين، كان المذيع محمد علوش يحاور الداعية السلفي اللبناني الشيخ صفوان الزعبي حول السلفية فى لبنان، حيث أكد «الزعبي» أنه «رغم انتماء آلاف اللبنانيين إلى الفكر السلفي، فإنهم لا يمثلون قوة كافية لإحداث تغيير سياسي، أو تشكيل خطر ما، في حين أنّهم يمتلكون ظهيرًا إعلاميًا قويَا، يضخم من شأنهم وأعدادهم».

كما لفت «الزعبي» إلى أن هناك تسليطا إعلاميا وتضخيما لوضعهم الحالي، من أجل استخدامهم في مشاريع سياسية فيما بعد، قد تضر بالسلفيين أنفسهم.

رغم كل ما سبق، فإن الجمعيات والمعاهد السلفية في لبنان تنتشر في معظم أنحاء البلاد من الشمال إلى الجنوب مرورًا ببيروت، ومنها على سبيل المثال: جمعية «دعوة الإيمان»، ومعهد «كلية الدعوة والإرشاد» بطرابلس الذي يرأسه ويديره حسن الشهال زوج ابنة مؤسس السلفية وابن أخيه، في حين أن ابن مؤسس السلفية داعي الإسلام الشهال، انفصل عن مؤسسة «الجماعة مسلمون» والتي أطلقها أبوه، حيث بدأ الابن طرح نفسه كمؤسس التيار السلفي في لبنان من خلال جمعية الهداية والإحسان الإسلامية، التي تعمل حاليًا تحت اسم “وقف اقرأ الإسلامي”. وغيرها من المؤسسات والمعاهد والأوقاف الإسلامية السلفية.

كان بديهيًا بعد انشقاق داعي الإسلام الشهال عن منهج أبيه في حياته، أن تتفرع السلفية إلى أكثر من مدرسة -3 اتجاهات- رغم وحدة المنبع السلفي؛ حيث يصنف السلفيون في لبنان إلى ثلاثة أقسام رئيسية، هي: «السلفية العلمية، والسلفية الجهادية، والسلفية التكفيرية»، ويقود السلفية العلمية صفوان الزعبي، في حين يقود داعي الإسلام السلفية الجهادية رغم تراجع ممارسته الجهاد على أرض الواقع، وهم الذين سافروا فيما بعد للقتال في سوريا، أما السلفية التكفيرية فلم يستدل تحديدًا على قائد معين لها.

السلفية الجهادية والقاعدة

ألهبت الأوضاع الفلسطينية حماس الشباب السلفي اللبناني، وأشعلت شرارة أول مفاهيم السلفية الجهادية وليدة مخيم عين الحلوة، وكان يرأس المجموعات السلفية الجهادية الشيخ ابراهيم غنيم الفلسطيني، اللاجئ إلى لبنان بعد نكبة 1948 وأقام في حي المسلخ الشهير شرقي بيروت، وتلقى على يديه معظم علماء صيدا أفكار السلفية الجهادية، مثل الشيخ عبدالله الحلاق والشيخ جمال الخطاب والشيخ محرم العارفي.

وصلت هذه الأفكار إلى ذروتها خاصة أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982. لتظهر عام 1984 ما عرفت حينها بـ”الحركة الإسلامية المجاهدة” على يد الشيخ غنيم مع الشيخ عبدالله الحلاق والشيخ جمال الخطاب التي كانت موجودة، ولكن غير فاعلة منذ 1975، وبدأت المجموعات الجهادية الصغيرة تتحسس طريقها نحو الانتشار، ومنها تنظيمات: “جند الشام”، و”فتح الإسلام”، و”عصبة الأنصار”.

ورغم هذه المدة الطويلة التي مرت على النشأة الأولى للسلفية الجهادية في لبنان، فإن تلك السلفية لم تتورط في صدام مباشر مع الدولة إلا عام 2000، وذلك حين اندلعت معركة شرسة بين مجموعة سلفية وبين الجيش اللبناني في منطقة جرود الضنّية القريبة من طرابلس، تحت قيادة “أبو عائشة” بسام كنج، الذي سافر إلى أفغانستان والشيشان وتلقى الفكر التكفيري هناك، كما تدرب على استخدام السلاح وأصبح أحد المقربين من أسامة بن لادن، ومن رحم هذه الجماعات الجهادية ولد العديد من الإرهابيين الذين انضموا إلى تنظيمي القاعدة وداعش، ولكن سيظل أبرزهم، زياد الجراح، أو أبو طارق اللبناني، أحد منفذي أحداث الـ 11 من سبتمبر2001.

وفي السنوات الأخيرة عادت الظاهرة السلفية الجهادية إلى الواجهة من جديد، عقب تورطها في الحرب الدائرة في سوريا، رغم أن عامة السنة اللبنانيين لا يستسيغون الفكر السلفي الجهادي، فإن أعمال السلفية الجهادية في سوريا تكتسب تأييد الفئات المتحمسة، ما قد يعرض الداخل اللبناني إلى مشاكل أمنية خطيرة في الفترة القادمة في ظل توجّه داعش إلى اعتبار لبنان أرض جهاد لا أرض نصرة.

وتتضح علاقة السلفية الجهادية بالقاعدة، في ظل ما فعله حسام الصباغ (أحد أبرز دعاة السلفية الجهادية)؛ حيث كون “الصباغ” ميلشيا إرهابية من مئات السلفيين الجهاديين، سافروا للمشاركة في الحرب السورية خاصة مع كتيبة الفاروق، ورغم تأثرهم الشديد بأفكار أسامة بن لادن، فإنهم لا تجمعهم صلة مباشرة بتنظيم القاعدة، الذي حاول دمجهم عام 2007 عبر وساطة من دعاة سعوديين، إلا أن السلفيين الجهاديين رفضوا إنشاء تشكيل للقاعدة في لبنان، بدعوى انه لا داعي لذلك إذا كان مشروعهم واحدا، فلا حاجة للانضمام إلى التنظيم.

السلفيون والسياسة وحزب الله

عامة السلفيين على اختلاف مدارسهم في لبنان يؤمنون بمقولة ناصر الدين الألباني «من السياسة ترك السياسة» التي يصفها شيخ السلفية العلمية في لبنان، صفوان الزعبي بالمقولة الحكيمة.

ولا ينكر السلفيون اللبنانيون على بعضهم مسألة المشاركة في العملية السياسية من عدمها، في حين أن الاتجاه العام لهم المشاركة فيها منذ عام 2009 حين أدلوا بأصواتهم في الانتخابات، وكذلك حاول بعض الجماعات السلفية تأّسيس أحزاب سياسية، في حين يرى الباحث في الشؤون السلفية اللبنانية محمد علوش أن السلفيين في لبنان عاجزين عن تأطير أنفسهم في حزب سياسي، وكذلك العبور من الطائفية السياسية والمجتمعية، وأن معظم السلفية اللبنانية تنحو باتجاه العمل الاجتماعي والإغاثي.

ويحاول السلفيون التقرب من الرئيس اللبناني سعد الحريري – نجل رفيق الحريري – والذي يحافظ على علاقة متباينة مع السلفيين، نظرًا لحاجته إلى أصواتهم في الانتخابات البرلمانية لما يشكلونه من سيطرة واسعة على الشمال اللبناني، منذ أربعينيات القرن العشرين، إلا أنه لا يريد أن يقرب الجهاديين منه على الجهة الاخرى.

الثورة السورية

كشف معهد كويليام Quilliam Foundation لمكافحة التطرف أن أكثر من 900 لبناني يقاتلون ضمن قوات تنظيم داعش الإرهابي في سوريا، فمنذ اندلعت الثورة السورية عام 2011 فقد شكّل السلفيون عاملًا مهمًا في الثورة، إذ ساعد الجهاديون السلفيون من مخيم عين الحلوة –مركز السلفيين الجهاديين اللبنانيين- على تدريب المقاتلين من «جبهة النصرة» التابعة لـ تنظيم «القاعدة»، وهو ما أبرزته الأخبار المتداولة من الساحة الثورية، وأشهرها، مشاركة ومقتل نجل الداعية السلفي الجهادي اللبناني عمر بكري في صفوف تنظيم داعش بالعراق.

هذه المشاركة ازدادت أكثر بعد الدعم المادي واللوجيستي والعسكري، من«حزب الله» للنظام السوري، ما تسبب في ازدياد الهوة واشتداد حدة النزاع مع حزب الله الذي اعتبروه من حينها “حزب الشيطان”، كما امتد هذا التأثير للوضع السياسي، فانتقد السلفيون القيادة السياسية لعدم اتخاذها موقفًا واضحًا أو إجراءً فعالًا يحد من أنشطة «حزب الله» التي تستهدف السنة في سوريا.

نزاع السلفيين وحزب الله، جاء بعد فترة ليست بالقصيرة من علاقات مستقرة سادت بين الطرفين، عقب توقيعهما وثيقة تفاهم مشتركة بحضور أربع وعشرين جمعية وشخصية من التيار السلفي عام 2008 ونصت الوثيقة على تحريم أي اعتداء من فئة مسلمة على فئة مسلمة أخرى والقضاء على الفكر التكفيري عند السنة والشيعة ومنع الفتنة بين المسلمين.

ورغم أن تلك الوثيقة كان مصيرها التجميد، فإن الأمر لم يصل إلى حد الحرب بين الطرفين، بل اقتصر على مناوشات إعلامية وملاسنات بين الطرفين، إلا أن مشاركتهما في الحرب السورية سمحت بهذا الاقتتال، وتقويض مكاسب 4 أعوام من المصالحة بين التيار السلفي وحزب الله وهو ما بدأ يلاحظه كثير من دعاة السلفية الذين دعوا فيما بعد إلى عدم المشاركة في الحرب السورية وعلى رأسهم الداعية السلفي الشيخ عدنان إمامة، الذي يقول “لا نريد أن نحرق لبنان في أتون الثورة السورية”.

وحاول بعضهم الضغط الإعلامي، والدولي على حزب الله للتراجع عن المشاركة في الحرب وعلى رأسهم داعي الإسلام الشهال الذي أقام عدة مؤتمرات صحفية أشهرها مؤتمر 2012 الذي شارك فيه عديد من الأحزاب الإسلامية المصرية على رأسها “البناء والتنمية” الذراع السياسية للجماعة الإسلامية، وأحزاب (الإصلاح) و(الأصالة) و(الفضيلة) و(الشعب) و(الجبهة السلفية) والدعوة السلفية، حيث دعا في هذا المؤتمر إلى “النفير العام”، والدعم المادي والدعاء والصلاة وتقوى الله لنصرة الثورة السورية على حزب الله، على حد قوله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى