#أقلام وأراء

السفير ملحم مسعود يكتب – مع إدوارد سعيد … في قبرص 4

بقلم السفير ملحم مسعود – 14/3/2021

في اخر ايام زيارة إدوارد لجزيرة  “ إفروديتي ” بعد برنامجا حافلا قبل التوجه إلى المطار …

بدأنا في ذلك اليوم بزيارة ( د. إحسان علي ) القبرصي التركي والذي كانت تربطني به علاقة صداقة ومحبة منذ سنوات , وكنت قد إتصلت به قبل وصولنا إلى بافوس ,وطلبت منه موعدا للقاء مع شخصية فلسطينية قادمة من امريكا …  وإشترط عليأن تكون الزيارة على العشاء او الغذاء … وقلت له قد لا نتمكن من شرف كرمه القبرصي لضيق الوقت ورجوته إذا كان لقاؤنا بعد الغد صباحا على فنجان  قهوة لضيق الوقت حيث سيغادر صديقي قبرص مساء اليوم … وقال على مضض إن كرمنا القبرصي  للضيف لا يقل عن  الكرم العربي ... اهلا وسهلا بكم دائما .

كان د. إحسان علي طبيبا … من ابناء الطائفة التركية , تربطه علاقات وطيدة مع المطران مكاريوس وكان لبعض الوقت مستشارا له , كان ضد العنف , ورفض الرحيل من بيته عندما نزح أبناء الطائفة التركية من الجنوب إلى الشمال … وابناء الطائفة اليونانية من الشمال إلى الجنوببعد أحداث عام  1974 تاركين بيوتهم واملاكهم خوفا من بطش المجموعات المتطرفة من كلا الطرفين … في تلك اللحظات كان د. إحسان علي يدعو إخوانه من أبناء الطائفة التركية للبقاء في مساكنهم واملاكهم أينما كانوا وحاول طمانتهم وضمان أمنهم … لكن اجواء الخوف والرعب من الإنتقام كان سيد الموقف , الذي حال دون تلبية نداءاته ولم يتبقى إلا القليل منهم في الجانب اليوناني … وكما قالوا لاحقا … ندَم  الجميع على هذا النزوح المتبادل .

وصلنا إلى سكن الدكتور إحسان علي وبدا يعاتبني على عدم  ترتيب الإمور لتناول الغذاء في بيته … وإستمرت زيارتنا أكثر من ساعتين وهو يجيد الإنجليزية حيث درس في بريطانيا , وربما كان النقاش تكملة للقاء إدوارد مع ( علي زوغلو … القبرصي التركي ) في مساء أول يوم لوصوله إلى الجزيرة ( مقالنا 1 على الموقع ) حيث كان الدكتور إحسان علي وما لديه من معلومات واضحا في شرح ( الحالة ) القبرصية التركية وعدم تفاؤله بحلول قريبة … وأكد أن النزاع بين تركيا واليونان حول وضع الجزيرة سيستمر ربما لأجيال وسوف يدفع الثمن القبارصة انفسهم  من أبناء الطائفتين  .

غادرنا سكن الدكتور إحسان علي ليقول لي إدوارد سعيد مختصرا إنطباعاته عن الزيارة :

( القضية القبرصية من جوانب كثيرة …  تتشابه مع القضية الفلسطينية … وأهميتها في هذا الموقع الجغرافي ) واضاف اعتقد إنني اصبحت على علم وإطلاع على دواخل هذا النزاع … الذي أصبح ضمن إهتماماتي … هذا ما كنت اريد أن أسمعه .

غادرنا بافوس وعلى بعد 12 كيلومتر شمالا , على أطراف شبه جزيرة ( أكاما ) حيث التكوينات الجيولوجية والتنوع الفريد , وصلنا إلى شاطئ ( لارا ) وهو أحد الشواطئ المميزة في أوروبا لمحبي السلاحف الخضراء وهي تقوم ببناء أعشاشها والأنواع المتعددة من النباتات والحيوانات المستوطنة … والمنطقة بكاملها من المحميات , كل ذلك جعل بافوس بأكملها  ضمن لائحة اليونسكو للتراث العالمي .  

سألني إدوارد إلى أين الآن … فقلت له إلى اداء مراسم الحج … بإستكمال ( فريضةالزيارة ) طالما  أنت في بافوس حيث معبد إلهة الحب والجمال الإغريقية أفروديت، (واحدة من آلهة الأولمب الإثني عشر، ) التي تقول الأسطورة إنها ولدت في البحر . فيمغارة قديمة تحت ظلال شجرة تين بوسط الخضرة، كما تقول الأسطورةأيضا أن الإلهة أفروديت كانت تستحم في هذه البقعة والمعروفة بإسم ( حمامات إفروديتي ) ، والتي إعتادت تجميل نفسها هناك حيث قابلت محبوبها أدونيس عند بقعة الجمال عندما توقف للحصول على الماء حيث وقع في حب أفروديت في اللحظة التي تناول فيها الماءويا لها من اساطير … وميثولجيا يونانية  , وهذا حديث آخر .

ويقال تخليداً لهذه الأسطورة، يلتف عشرات العشاق في ليالي اكتمال القمر، حول صخور أفروديت الواقعة على الساحل الجنوبي للجزيرة، ويسبحون ويمرحون حولها كأنهم في حوض سباحة، ولايزال القبارصة يعتقدون حتى الآن أن المرء الذي يلف ثلاث مرات حول هذه الصخور، ينعم بقصة حب خالدة لا يمحوها الزمان ... سبحان الله  ..

لم يبقى لنا متسع من الوقت لرؤية المزيد في هذه  المنطقة  وآثارها ( اختيرت بافوسلاحقا لتصبح عاصمة الثقافة الأوروبية في عام 2017 مشاركة مع مدينة آرهوس في الدينمارك
) بعد هذه الزيارة السريعة أخذنا طريقنا الرئيسي بإتجاه المطار وهو طريق قديم رئيسي يربط غرب الجزيرة بالعاصمة شرقا والمدن الاخرى وويمر من وسط أراضي تحت السيادة البريطانية ( أخيرا تم شق طريق حديث بعيدا عن الأراضي البريطانية ) أقاليم ما وراء البحار   قاعدةأكروتيرياو قاعدة السيادة الغربية وهي الأكبر والاهم في جنوب غرب قبرص والشرق الأوسط ,  بالمقارنة مع  القاعدة الثانية ديكيلياأو قاعدة السيادة الشرقية في شرق الجزيرة … لتشكل هذه القواعد دولة داخل الدولة , وتضم أجزاء كبيرة من مناطق قروية واسعة من حولها . وسوف نرى حجم القاعدة ومنشآتها العسكرية والسكنية كوحدات وتجمعات وخدمات على أراضي واسعة وتتمتع  بإكتفاء ذاتي   وتستخدم بعض السكان المحليين من القرى المجاورة  في أعمال وخدمات هامشية وثانوية , وفي القاعدة مطار بعتبر الأضخم والأكثر جاهزية  لكافة الإستخدامات ومدرجاته الأكبر والأطول في الشرق الأوسط , وهي قاعدة التشغيل الرئيسية للطائرات والعمليات في المنطقة , وتضم مقر جناح الدعم الجوي الملكي ( 903 ) وعبرها يتم تنفيذ مهام القيادة المتطورة … وتوفر كل الإمكانيات لخدمة التحالفات العسكرية الغربية …

كنت أشرت  لإدوارد أن لا يتفاجأ  إذا إستوقفتنا دوريات بريطانية ونقاط تفتيش على الطريق , وتسال عن هوياتنا وربما يلقوا نظرة على ما نحمل من متاع  كإجراء إحترازي يقوم به العسكر وكأنهم يقولون للمواطنين والزائرين :  ها … نحن هنا وهذا الأمر نادرا ما يحدث على الطريق  …

عبرنا ( الحدود ) واصبحنا داخل القاعدة … الأراضي البريطانية وسط ذهول إدوارد من هذا المشهد الإستعماري بكل ما يرى … وفجأة كانوا هناك على الطريق واشاروا لنا بالتوقف والسؤال عن هوياتنا … قدم لهم إدوارد جواز سفره الأمريكي … وكانت مفاجاة الجندي بهذا السائح الأمريكيورحب بنا وتمنى لنا وقتا  سعيدا … إنهم الإنجليز.  

بعد مغادرتنا الربوع البريطانية بقليل , وإنفعال إدوارد بما رأى وعلى بعد أقل من عشرة كيلومترات …

غيًرت الحديثوقلت له إن الحركة الصهيونية كانت قد جعلت من قبرص موطئ قدم في ظلال الإستعمار البريطاني , من جهة والإنتداب البريطاني في بلادنا في نفس الوقت ليس بعمليات نقل اليهود وإدخالهم إلى فلسطين  خلسة بإستعمال قبرص كمحطة أخيرة  في ظروف  االثورة الفلسطينية الوطنية ورفض التهويد فقط  …

بل كانوا  أيضا يخططون ويعرفون ما يريدون … لأتوقف فجاة واقول من فضلك إنزل واقرا هذه اللافتة باللغة الإنجليزية …غادرت السيارة قبله وتقدمت امامه لأمتار قاطعاأي حديث ليقرا الآتي على لافتة كبيرة وبخط اضح :

Cyprus-Palestine  Plantation  CO      

وقف طويلا في محاولة فهم ما يقرأ … لم يتحرك … طواه الصمت المطلق … أخذنا السيارة ومضينا في طريقنا … شعرت وكأنه مصدوم وإسترجع ما كنت أتحدث به قبل قليل كيف كانت الصهيونية تعمل وتخطط , ليقول لي إن هذه الرحلة رغم قصرها بالنسبة لي كانت رحلة مفاجآت … لم أسمع منك أو أرى أو أقرا  شيئا لا يحمل لي مفاجاة …

أرجوك ما هي حكاية هذه المزرعة … ؟؟؟

نظرت إليه وقلت له نحن ما زلنا نسير على سياج المزرعة المترامية الاطرافمحاطة باشجار الكافور والسرو والحور … الخ . كمصدات للرياح مساحتها 603 هكتار مزروعة بالحمضيات الجريب فروت والليمون والبرتقال  ( اليافاوي ) الفلسطيني الذي جلبوا أشتاله من يافا الحبيبة  , والمنتشر والمعروف الآن في أنحاء  قبرص بالبرتقال  ” اليافيتكو ”

أقيمت هذه المزرعة عام 1931 من القرن الماضي برأس مال يهودي …قبرصي  ”  كما جاء عن وضع الشركة في المراجع والوثائق القبرصية , وأشكشخصيا بمقولةالمال القبرصي… ومن كان في ذلك الزمان من القبارصة يملك مثل هذه الإمكانيلت المالية  ؟؟؟

 لكنها الطموحات الصهيونية حول فلسطين , وأهمية قبرص للمخططات الصهيونية في ذلك الوقت المبكر

( حاليا وكما يُقال  تنقلت ملكية الشركة لمُلاك قبارصة … من مالك إلى آخر…وأشك في مصادر هذه الأموال … والملكية ” الحقيقية ” التي آلت إليها اخيراقبل كتابة هذا المقال حسب معلومات وثيقة )

واصلنا الطريق وإقتربنا من مطار لارنكا بعد الساعة الثانية وكان لدينا الوقت الكافي  للراحة واحاديث ما قبل الرحيل …

إقترحت عليه تناول وجبة سمك  طازج على شاطئ البحر , وما تتميز به أسماك البحر الأبيض التي لا تتوفر في امريكا أوغيرها … ولم يتردد …

إتصلت بصديق قبرصي  درس في بريطانيا , والده من مناضلين منظمة ( أيوكا ) من أجل الإستقلال يعمل في صيد السمك وله زبائن من أمثالي يرتادون  ” محله ” السيط الذي كان  بمثابة ( عريشة ) وبضع كراسي  أو ما شابه ذلك على شاطئ البحر الرملي بجوار قاربه القديم … ونسيم البحر العليل , يقدم ما تيسر من صيد البحر وخيراته تساعده زوجته , وسألتالصديق القبرصي عما إذا كان ” المحل ” مفتوح وبعد عتاب قال لي أنا في إنتظارك هناكوقلت له معي ضيف عزيز ( بلدياتي )  جاء من أمريكا … وزاد عتابه أكثر وأكثر للتحضير والقيام بالواجب … سنتوقف هناك لنتناول بعض ماتيسر … وصلنا إلى ” العريشة ” لأجد الجميع في إنتظارنا وقضينا معا  وقتا ممتعا بين أحديث وذكريات وأطباق سمك المتوسط وما جاد به علينا البحر في ذلك اليوم  …

وبدأتطوشة ” قبرصية عندما فتح إدوارد حافظة نقوده … وذكره صديقي أنه في قبرص … وصف إدوارد هذا الموقف واصفا إياه باهلنا البسطاء وعاداتهم وكرمهم …

إنها قبرص يا أخي العزيز إدوارد  حيث  في  نيقوسيا المكان الفريد من نوعه، حيث تستطيع سماع صوت الآذان من مسجد ( السليمية ) من الجانب التركي، في الوقت الذي تسمع  فبه إلى الترنيم الأرثوذكسي من كنيسة (فانيروميني ) من الجانب اليوناني

وصلنا إلى المطار قبل ساعة من موعد الإقلاع  … وإذا بتأخير موعد إقلاع الطائرة قرابة ساعة … وقلت له هذه فرصة أخرى لنا للحديث ... لانني لا أدري متى واين نلتقي المرة القادمة .

تجاذبنا أطراف الحديث وقال لي يالها من صدفة كيف كان حالي لو لم أتعرف على هؤلاء الناس والمعلومات والمشاهدات التي اغنته بالمعلومت التي كان يبحث عنها , في هذه الزيارة لولا هذا التعارف الذي وفًره لي اخونا ( القائد الفلسطيني ) …

رحم الله الجميع

فجاة سالني هل لك ان تزور أمريكا ؟؟؟ أمريكا … ماذا أفعل في هذه القارة الواسعة ؟؟؟

إقترح علي إدوارد الحضور إلى أمريكا  وتوفير كل ما يلزم للدخول , ولك هناك فرصا واعدة …

شكرته قائلا له لي أخت واخ في المراحل النهائية من الدراسات العليا في أمريكا … سألني في أي ولاية ؟

قلت له إنديانا و كانساس , ورغم إلحاحهم المستمر علي بزيارتهم لم ارغب أبدا في السفر إلى أمريكا , تعودت على العيش في الأماكن الصغيرة , حيث نشات ودرست وأعمل اليوم … ( في قبرص وأخواتها … )

وآخر ما قال لي سنعود لهذا الموضوع يوما مرة أخرى … ربما أغير رأيي …

حدثني عن اشياء كثيرة عن أمريكا والمجتمع الأمريكي , ومفهوم وطريقة عمل المؤسسات في هذا البلد … والكثير الكثير في هذا الوقت القصير الذي توفر لنا بسبب تأخير إقلاع الطائرة …

ما زلت أتذكر كلماته قبل توجهه إلى الطائرة يودعني  وهو يقول لي … سنلتقي يوما … حتى ذلك الحين أرجو ان نتواصل …  

وودعته قائلا وكانني أعرفه منذ ستوات :

صحبتك السلامة في حِلِّك وتَرْحالك …..

بقينا على إتصال وتواصل … إلتقينا بالصدفة في تونس عام 1984 في مقر القيادة الفلسطينية في فندق سلوى … لمَحني من بعيد وجاء مقبلٍ مدبرٍ معًا( مع الإعتذار لأمرؤ القيس ) وامضينا وقتا طيبا … أشياء كثيرة تغيرت وتجددت … تحدثنا عن كتاباته وإنشغاله … تحدثنا عن ( الإستشراق ) وسألني إذا قراته وقلت له بالتاكيد …   إستعدنا ذكريات قبرص …على امل تجديدها يوما … 

وقال لي بعد هذه السنوات هل غيًرت رايك في الحضور إلى امريكا ؟؟؟

وقال لي مرة أخرى  ستكون لك هناك فُرصا واعدة … ضحكت وقلت له لم يبقى لي خيارات كثيرة وابحث الآن عن مكان صغير وأخير …  لأحط به الرحال … 

كانت هذه المعرفة  والعلاقة سببا لمتابعتي لكتاباته  في الصحف والكتببإستمرار , وهي لا تنتهي بالعطاء الوافر لما كَتب…  وما كُتب عنه التيإستطعت من قراءتها  وغيرها مما تيسر لي … باب واسع  لثقافة واسعة لي شخصيا كنت حريصا عليها حتى الآن .

إتفقنا … وتوافقنا على أشياء أخرى قادمة … كان القدر اقوى من كل المواعيد والمشاريع  رحل إدوارد سعيد من عالمنا إلى عالم البقاء في 25 سبتمبر 2003 في نيويورك , إفتقدناه في الليلة الظلماء … إفتقدناه ونحن في أمس الحاجة اليوم إلى صوت فلسطيني تعرفه وتحترمه الأوساط الفاعلة في المجتمع الأمريكي … في الوقت الذي نسعى فيه لتثبيت عدالة قضيتنا على رقعة المؤسسات الأمريكية , وسياساستهاالضبابية … لا ننسى نضاله  وعمله وصلابة مواقفه  لإسماع الصوت الفلسطيني في أوساط أمريكية راقية  … رحل ولا نملك سوى أن نقول اليوم … القول الكريم :

الرَّبُّ أَعْطَى وَالرَّبُّ أَخَذَ،فَلْيَكُنِ اسْمُ الرَّبِّ مُبَارَكًا

وكما قال الإمام الشافعي في قصيدته المعروفة ( الناس للناس )

مات قوم وما ماتت فضائلهم   وعاش قوم وهم في الناس أمواتم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى