#أقلام وأراء

السفير ملحم مسعود يكتب – مع إدوارد سعيد … في قبرص   3

السفير ملحم مسعود – اليونان 5.3.2021

اليوم الثاني

 في صباح اليوم الثاني من زيارة إدوارد سعيد  إتفقنا   على مغادرة  العاصمة نيقوسيا بإتجاه  سلسلة جبال طرودس حتى أعلى قمة جبل أوليمبيوس  على إرتفاع أكثر من 1952 متر فوق سطح البحر والتي تمتد عبر معظم جنوب غرب الجزيرة    , كنا على موعد مع زعيم سياسي ومناضل تاريخي من أجل الإستقلال , وعلامة فارقة  في المحافل الدولية   في بيته الصيفي في هذه المرتفعات  !!!  في طريقنا إلى مدينة بافوس على هذا الطريق الجبلي … الأمر الذي تركته كمفاجأة سارة لإدوارد سعيد .   

 قبل بدا رحلتنا إلى محطتنا القادمة … مدينة بافوس او ( القرية الكبيرة …) توقفنا قليلا بالقرب من وسط االعاصمة امام بناء من سبع طوابق كان يعتبر ( ناطحة سحاب قبرص … ذلك الزمان  ) في الوقت الذي شيٍد فيه في الخمسينيات من القرن الماضي بإستخدام  الحجر الرملي كما هو الحال في مباني   قبرص بشكل واضح , وقلت لإدوارد ( ادعوك… )  إلى الصعود إلى هذا المبنى لنرى منظر بانورامي للبلدة القديمة خصوصا نحو الشمال من العاصمة في هذا البلد المقسم  ويبدو بوضوح الجانب التركي  … 

صعدنا المبنى وأمام آخر طابق فتحت الباب (  بمفتاح ) كان في حوزتي ,  ودخلنا إلى سطح البناية الذي تملأه هوائيات الأجهزة اللاسلكية ( الذي  جعل إتصالاتي اللاسلكية من هذا الإرتفاع مع بيروت ممكنة وسهلة )  يضم غرفة بسيطة  تعج  بالأجهزة والكتب والصحف …  امام دهشة إدوارد سعيد الذي  سالني ما هذا ؟؟؟

 وقلت له هذا  مكان إقامة …  وعمل …  العبد الفقير إلى الله …

 أكتب هذه السطور اليوم وبعد كل هذه السنوات  … وانا اجتر ذكريات عزيزة على نفسي ,  ولا أنسى الدموع التي اغْرَوْرَقت فيها عيناه فجأة في تلك اللحظات  … وسادنا حالة صمت للحظات كسرتها  بجذبه نحو مشاهدة  الجوامع في الشق اليوناني …  والكنائس في الشق التركي … 

 مشهد تأثر له إدوارد كثيرا ,  و في الأفق البعيد تبدو  الجبال الشمالية للجزيرة المطلة على سواحل تركيا الجنوبية …  

 لدي غادرتنا  البناية …  لاحظ حركة ونشاط  في الطابق الاول والثاني  فيما البعض  يستوقفي ويتحدثون معي … وسألني ماذا يجري في هذا البناء ؟؟؟ 

فقلت له هنا مقر الحزب الإشتراكي وصاحب هذا  البناء هو  زعيم الحزب الدكتور ليساريدس ,  الذي وضع كل إمكانياته لمساعدة الوجود الفلسطيني المبكر في قبرص ووفر لي إمكانيات عديدة … وأهمها  التعارف والإتصال بشخصيات وفعاليات قبرصية  كثيرة .  كذلك تامين  حماية شخصية لي من حراساته الرسمية التي تخصصها له الدولة … وكان قد وفًر لي هذه الإمكانيات في المبنى لأسباب أمنية معروفة , قائلا لا نريد المزيد من الدماء الفلسطينية الزكية  التي سالت على  الأرض القبرصية جراء مطاردة وملاحقة  كوادر العمل الفلسطيني في قبرص من قبل  عملاء الأجهزة الصهيونية  … كان يسمعني إدوارد وهو في حالة من الدهشة والصمت المطلق …

 وفي النهاية …  أخبرته أننا على موعد وهذا ربما كان الاهم مع هذا الزعيم القبرصي الساعة الثالثة بعد الظهر  في بيته الصيفي على تلال جبل أوليمبيوس … في طريقنا نحو غرب الجزيرة  , وسوف تكون هناك زوجته الأمريكية  ”  بربارة كورنوول ”  من ولاية  ”  ديترويت ”  حيث وُلدت ودرست في جامعاتها التاريخ والصحافة , وعملت كمراسلة لصحف ووكالات انباء أمريكية في بيروت , كذلك مراسلة لبعض الوقت لمجلة ( تايم ) الأمريكية , وكانت قد غطت نشاط  المقاومة القبرصية ( منظمة أيوكا )  ضد الإحتلال  البريطاني 1955_1959  ثم أقامت في قبرص وتزوجت  من الدكتور ليساريدس  عام 1963  ولها  مؤلفات  عديدة ,  ومعروف عنها تضامنها وتأييدها لحركات التحرر العالمية ( توفت في قبرص  عن 85 عاما مارس 2019) وشعر إدوارد بالراحة والسعادة على ترتيب هذا اللقاء …

في طريقنا كانت المحطة الأخيرة لنا  قبل مغادرة نيقوسيا وتوقفنا لرؤية أطلال   القصر الجمهوري المهجور  الذي تم مهاجمته ودكٍه بالمدفعية  في صباح يوم الإثنين 15 يوليو 1974  أثناء وجود مكاريوس في مكتبه من قبل العسكر وبدعم الحكم العسكري في اليونان … قبل ان ( يجبره ) مرافقوه على الخروج  من الجهة الخلفية بإتجاه الجبل … وباقي القصة معروف.. .    

كان هذا  القصر الجمهوري يوما مقر الحاكم العسكري البريطاني في قبرص … واليوم  أنقاض وفي حالة مزرية , من إرث المحاولة الإنقلابية ضد مكاريوس , وتوقفنا طويلا ليستذكر إدوارد …  صعود , وهبوط الدكتاتوريات , وحكم العسكر وما يجلبه من تعاسة وفقر وإفلاس للنظم الديموقراطية …

( بعد عودة مكاريوس وعودة الشرعية إتخذ مكاريوس من أحد الأماكن الرسمية للدولة مقرا له  … وبعد فترة قامت شركة بناء قبرصية   بأعمال الإصلاحات والترميمات اللازمة  لإستعاة المبنى كما كان … وعاد مكاريوس إلى مقره في القصر الجمهوري )

تابعنا مسيرتنا  إلى جبال طرودس , وبدأنا  نشعر بمتعة الأجواء الجبلية ونحن نعبر القرى الجبلية الجميلة  المتناثرة  , وإنخفاض درجات الحرارة , وهبوب نسمات منعشة بعد اجواء نيقوسيا الحارة , لنتوقف في قرية صغيرة على الطريق   تجولنا بين بيوتها القليلة والواقعة على مجرى مائي من نبع قريب , و كانت  شهرتها في  مطعمها  ومقاعده الخشبية … على قارعة الطريق  وبالطبق  الوحيد ( لا غير )  الذي يقدمه لمرتاديه  من المارة  ,  الأكلة  الشعبية القبرصية  المعروفة بإسم   ( كليفتكو ) التي تتكون من اللحم والبطاطس يتم طهيها في افران خاصة من الطين … لا يخلو منها بيت قبرصي … وتشبه افران الطابون في بلادنا … وشعرت مدى سعادة إدوارد … وقلت له الطعام يمثل أحد معالم وتقاليد الشعوب … وربما أحد جوانب  ثقافاتها .

قاربت الساعة الثالثة وصلنا  إلى بيت الدكتورليساريدس  وكُنت قد تحدثت في طريقنا  عنه بإسهاب منذ كان طبيب مكاريوس الخاص , والمراكز المرموقة التي تولاها في البلد إضافة لنشاطه السياسي والحاضر أبدا في المحافل الدولية… الخ.   وعن  زوجته الأمريكية  بربارة كورنوول ونشاطاتها   , وصلنا إلى بيت صيفي بسيط  كانوا بإنتظارنا  ورحبوا بنا وإمتدت زيارتنا قرابة ثلاث ساعات من الحوار والنقاش في كل مشاكل الشرق الأوسط وغيرها … ولم يكن إعجاب إدوارد بالأمريكية والإعلامية  بربارة كورنوول وزوجها الزعيم القبرصي د. ليساريدس أقل من إعجابهم بالضيف الكريم … وشكروني بشكل خاص على هذه الزيارة , والتعرف على هذه الشخصية الفلسطينية المتميزة .    

تركنا بيت الزعيم القبرصي  وقبل إتخاذ المنحدرات الجبلية في طريقنا بإتجاه مدينة بافوس لاحظ إدوارد منطقة محاطة بالأسلاك والحراسات على قمم الجبل المحيطة والقريبة , ومنظر قبابها  اليضاء الكبيرة بوضوح , ليسالني عن هذه الأشياء التي لها طابع عسكري في مثل هذا المكان … وقلت له إنها ضمن  رواسب الإحتلال البريطاني يا عزيزي … 

 إنها محطة رادار إنجليزية  حافظت عليها بريطانيا بعد إستقلال قبرص حتى الآن … كما هناك  أشياء أخرى ستراها غدا يالطريق  , ويقال عنها أنها ترصد وتتنصت   وتتابع الحركة في فضاء واسع يصل حتى الأجواء الهندية … في ذلك الزمان .

لاحظ إدوارد كثرة إتصالاتي الهاتقية على طريقنا … زمان ما قبل الهواتف المحمولة … 

قلت له إنني أريد مساء اليوم الأخير معنا   الإنتقال إلى أجواء ثقافية وفنية … حيث  أقوم ببعض الترتيبات  , و سنلتقي بشباب  من خريجيين  الجامعات الأوربية , والذين يلتقون  عادة  في مكان  يسمى   ( بوات ) ليس حانة ,   ولكن يمكن وصفه ”  بالمنتدى ”  حيث يلتقي  هَؤُلاَءِ الشباب في مدينة  لا يتوافر فيه مسرح او دار سينما او مكتبة …يقضون أوقاتهم في  مناقشات وحوارات  حول أحوال  البلاد والعباد , وقضايا أخرى عالمية وغيرها … الخ . صاحبه الفنان ( رسًام )  جعله مركز ثقافي بإمتياز , في هذا الموقع الفريد  والمطل على القلعة التي تعود إلى العهد البيزنطي  وميناء صغير يستعمله الصيادين ,  كتحفة فنية بالرسومات , والآلات الموسيقية والبيانو …  الذي كان يتصدر المحل  و يدعو إليه شخصيات من رموز و فعاليات المجتمع القبرصي  في شبه ندوة مفتوحة في احد المواضيع … عادة  في عطلة نهاية الإسبوع حول قضايا إجتماعية وثقافية والقليل من السياسة … 

عندما سمع  كلمة (بيانو ) لاحظت أنها  شدًت إنتباهه ( لم أكن أدري عن علاقة إدوارد بالبيانو … والموسيقى ) 

وصلنا المدينة قبل غروب الشمس وذهبنا مباشرة  إلى شاطئها ( الكورنيش ) للسير على الأقدام  والتمتع بمنظر غروب الشمس الساحر    ومشهد  عائلات جاءوا زرافات ووحدانا  … حتى وصلنا القلعة المذكورة  وقلت له : فيهذا المكان  لنا موعد هذه الليلة بعد عشاء سريع  … وتوجهنا لفندق بافوس الوحيد في البلد ( كان زمان … بافوس اليوم شئ آخر تعج بالفنادق واماكن السياحة الحديثة … ومطار دولي وزحمة الطائرات الخاصة …  ) وطلب مني  أن أشاركه الإقامة في الفندق , إعتذرت  لأن مكان إقامتي محجوز دائما  لدي الأصدقاء …  وتفهًم ذلك … لنبدا بعد إستراحة قصيرة  برنامجنا  الذي   تم ترتيبه مبكرا  برفقة حلقة  قبرصية ( ضيقة ) من الأصدقاء وكالعادة تدعو واحد يحضر إثنين , أما إذا دعوت أربعة  فسيكونو عشرة  … قبل توجهنا إلى ( البوات ) المنتدى  الذي كان يعج  بالحاضرين  … وامام دهشة إدوارد وأنظاره تتجه إلى البيانو …  ويترقب المشهد , قام صاحب المحل بتقديمه للحاضرين  (  بالزائر الفلسطيني الكبير القادم من أمريكا إلى بلدنا  الجريح …  )

والمفاجأة كانت لي ربما اكثر من إدوارد نفسه أن بدا بعض الشباب ( رجال …  ونساء ) بالعزف على آلاتهم الموسيقية ألحان عربية جميلة … قبل الألحان اليونانية الثورية … والعاطقية . 

إقترب مني إدوارد وقال لي .. مش معقول … لا أصدق … 

إستمرت السهرة التي طغت عليها الثقافة والتاريخ والموسيقى والقليل في  السياسة عن  احول والتطورات السياسية في المنطقة وما يمكن أن تؤول  إليه الإمور … وكانت الأحاديث  الفنية والموسيقى قد طغت على  اي حديث …  الأمر الذي  أدهش القوم … نقاش وحديث لا ينتهي … إستمر حتى ساعة متأخرة من الليل …

 كان علينا الإنصراف , إستعدادا لليوم الأخير من زيارة إدوارد سعيد إلى قبرص …   وسط مطالبة الجميع من إدوارد البقاء … قائلين  إن بافوس جميلة تستحق تمديد زيارتك و البقاء معنا وما زال لدينا الكثير .  

وفي صباح اليوم التالي … وبدأ جولة صباحية  سريعة في البلد القديمة … كنا على موعد معبد إلهة الحب والجمال الإغرقية  أفروديت في الأساطير اليونانية …  قبل التوجه إلى المطار . 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى