#أقلام وأراء

السفير ملحم مسعود يكتب رحيل ميكيس ثيوذوراكيس حياة صاخبة بين السياسة والإبداع الموسيقي

السفير ملحم مسعود – اليونان 11.9.2021 

أخيرا وصل  ميكيس ثيوذوراكيس إلى مثواه الأخير في أرض أجداده , بناء على وصيته  بعد تأخير وتعقيدات إختلقتها إبنته ” مارجريتا ” على مكان الدفن … الأمر الذي  حسمه القضاء لصالح وصيته بالإجماع … وكانت إبنته ( المناكفة ) أبدا  مصدر إزعاج له في حياته وفي مماته …

في صباح اليوم الخميس الماضي … إنتقل ميكيس  ثيوذوراكيس إلى مثواه الأخير  في مسقط راس اجداده في جزيرة كريت  بناء على رغبته , واعلنت الدولة الحداد ونُكسٍت الأعلام لمدة ثلاثة ايام وجرت  الصلاة على روحه في كنيسة المتروبيلتان في العاصمة في جو مهيب  بحضور رئيسة الجمهورية ورئيس الوزراء وزعماء الأحزاب  , قبل نقل جثماته إلى جزيرة كريت … الذي وصل وصل في اليوم التالي وكانت بإنتظاهره  جماهير غفيرة لوداعه الأخير … بكل ما يتميز به أهلها من حماس ووطنية وخصوصية عن باقي اليونان … كما إنتقلت الدولة إلى هناك للوداع الأخير .

وكان قد توفي الموسيقار اليوناني ميكيس ثيودوراكيس عن 96 عاما في أثينا، بعد حياة حافلة تداخلت فيها مسيرته الفنية و النضال الوطني  ضد النازيين وديكتاتورية الكولونيلات، أمضى بعض أعوامه خالالها  وراء القضبان و في المنفى، ما جعل منه احد رموز المقاومة في بلده، وحمله إلى العمل النيابي والوزاري … فيما كانت ألحانه تٌعرٍف العالم بموسيقى بلده ورقصاته الشعبية … وكان يلقب بموسيقار الإنسانية لأنه لم يترك قضية عادلة محقة إلاّ ودعمها وله مع القضية الفلسطينية صولات وجولات في المواقف والممارسات الميدانية … ( ضمن قوالب وادبيات الحزب الشيوعي اليوناني ) .

إنه الموسيقار ميكيس ثيودوراكيس التي صدحت موسيقاه في أنحاء العالم أجمع ( قيل في الايام الأخيرة …  أنه من  لحًن النشيد الوطني الفلسطيني … وهذا القول غير دقيق وساعود له بعد قليل لأهميته ).

في عالمنا وفي كل مكان تبرز شخصيات واسماء تتجاوز شهرتها السياسية أوالفنية او العلمية أو الأدبية او العسكرية … الخ . الحدود وعادة ما تبقى وتتردد أسماءها ونشاطاتها وأفعالها على مدى التاريخ . في اليونان ( الحديث ) كان هناك اسماء لها من ذلك نصيب وقد خرجت للفضاء العالمي نذكر منها :

في السياسة :

أصبح  اليوناني  سبيرو اغنيو نائب  رئيس الولايات المتحدة ريتشارد نيكسون رقم 39 من عام 1969 حتى استقالته في عام 1973 إثر فضيحة او فضائح فساد … وهو ثاني وآخر نائب رئيس يستقيل من المنصب حتى الآن  . وتصادف ذلك قبل إستقالة  نيكسون نفسه وباقي القصة بات معروف … 

وفي أمريكا أيضا اليوناني ” ميكل دوكاكيس ” الذي تم  ترشيحه من قبل الحزب الديمقراطي لمنصب الرئيس في انتخابات عام 1988 ، وخسر  أمام المرشح الجمهوري حينذاك  نائب الرئيس جورج دبليو بوش . وكان الحاكم الاطول خدمة في ماساتشوستس … في تاريخ الولايات المتحدة   وسبق ان حكمها قبله  اليوناني سبيرو اغنيو … وكان دوكاكيس يفتقد إلى كرازمية الزعامة , او كما يقال خالي الدسم … (الجدير بالذكر أن اللوبي اليوناني احد القوى الجماعات  الفاعلة في الساحة الأمريكية ) 

في الادب والفنون :

زارت ( نوبل ) اليونان من بوابة الأدب حيث حصدت الدولة الأورومتوسطية صاحبة الحضارة العريقة، جائزة نوبل في الأدب مرتين الأولى عبر إبداعات الشاعر ” جيورجيوس سفريس ” والأخرى بفضل الشاعر ” أوديسو إليتيس ”  أحد الدعاة الرئيسيين للحداثة الرومانسية في العالم … وخرج  الأدب اليوناني إلى العالمية … 

( تنشر اليونان من الكتب أكثر من مجموع ما تنشره الدول العربية  ) . 

 العلاقات العامة :
تحضرني هنا  اسماء وشخصيات يونانية كان لها حضور وإطلالات عالمية اذكر منها ( ارسطو اوناسيس … ) عاش وصنع أحداث تراوحت بين السعادة والحزن … اقرب في بعضها إلى الدراما اليونانية القديمة .
ولد في ازمير , إنتقلت عائلته إلى اليونان عام 1923 بعد أن فقد والده كل ثروته   …  هاجر بعدها  إلى الأرجنتين ولا يحمل سوى  63 دولارا …  تاجَر بالتبغ  … ثم الشحن البحري … ليصنع ثروته شيئا فشيئا  … تزوج في عام 1948 من  إبنة أحد كبار أصحاب سفن الشحن اليونانية  … وانجب منها إبنه ألكسندر  الذي توفى في حادث  تحطم طائرة صغيرة كان يتدرب عليها … وإبنته كريستينا 1950 التي توفت في الإرجنتين بجرعة مخدرات زائدة 1988 … وكات قد أقام علاقة غرامية مع مغنية الأوبرا اليونانية الشهيرة ماريا كالاس وانجبت له طفلا  1960  ولكنه توفى بعد فترة قصيرة …  وفي 20 إكتوبر 1968 تزوج جاكلين كنيدي …   

كان يملك أسطول من السفن التجارية وناقلات الزيت، وأسس أيضًا الخطوط الجوية اليونانية الوحيدة وذلك في عام 1957 حتى تولتها الحكومة في منتصف السبعينيات , و كان يتخذ من يخته المسمَّى ( كريستينا ) مقرا له لكي ينجو من الضرائب علي دخله .

لكنه … ترك خلفه مؤسسة ( اوناسيس ) ما زالت تعمل و قائمة ولها نشاطات متعددة منها دعم  الطلبة بمنح مالية … كذلك أقام احدث مستشفى  لجراحة القلب في العاصمة  … ودعم مشاريع إنسانية كثيرة 

الموسيقى والفنون :

ماأكثر ما أجادت به اليونان من رجال ونساء في مجال الفن والموسيقى , وإذا تركنا ماريا كالاس مغنية الأوبرا العالمية والمنتج السينمائي غافراس منتج فيلم (زد) الفيلم العربي الوحيد ( عربي فرنسي )  الحائز على  جائزة أوسكار فئة الأفلام الجنبية  وكان ذلك عام 1969 وكليهما حلًقوا عالميا …

 أما في اليونان نفسها وفي الفنون خصوصا الموسيقار ثيوذوراكيس … ومانوس حجي ذاكيس , كانوا  أكثر من أصدقاء , وكانا الفن كله … لا ينافسهما على عرش الموسيقى والألحان أحد… وكان إنتاج الأخير من الألحان لا تحصى وكسب شهرة محلية لا ينازعه فيها أحد  .

 وعندما كان مانوس  مديرا للبرناج الثالث في مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الوطنية  ( موسيقي خالص ) في السبعينيات دعى زميله ميكيس وقدمه في مقابلة خاصة مستهلا اللقاء   قائلا على الهواء : هذا هو ميكيس ثيوذراكيس الذي لا تعرفوه … إن موسيقى ميكيس ثيذوراكيس لها جذور عربية وليست فقط كريتية ( ويعني جزيرة كريت حيث اجداده … ).  

  لكن مانوس خجي ذاكيس  لم تستهويه السياسة ودروبها … بعكس صاحبنا ميكيس ثيذوراكيس الذي رحل  بعد حياة حافلة تداخلت فيها مسيرته الفنية مع النضال ضد النازيين وديكتاتورية الكولونيلات، وما عاناه من الحكم العسكري  , بعد إنقلاب إبريل عام 1967 حيث أعتقل وعذب  مع الكثيرين الذي ناضلوا وتعذبوا في دهاليز وأقبية الدكتاتورية … والمنافي في الجزر النائية والمهجورة  , وتم حظر كافة أعماله الفنية من موسيقى واغاني … في اليونان .

في عام 1970 وقد كانت ممارسات الحكم وبطشه , والخوف والرعب يعم البلاد وفي هذا المناخ القاتم وصل من باريس جان جاك سيرفيان – شرايبر الناشر لمجلة ( لا-إكسبريس  )  وكان ” سطوة ” إعلامية وسياسية عالمية بما له من علاقات دولية … وناشد النظام الدكتاتوري بالإفراج الفوري عن ميكيس ثيذوراكيس … ( بالتي هي أحسن … ) وإنه  باقي هنا لن يغادر اليونان  إلا برفقة ميكيس ثيذوراكيس … وكان له ما أراد وغادر أثينا إلى باريس بصحبة الموسيقار ميكيس ثيذوراكيس … ليبدأ النضال السياسي والفني لإسقاط النظام الدكتاتوري في الوطن …

فيما كانت ألحانه تعرّف العالم بموسيقى بلده ورقصاته … وتصل اصدائها إلى الفضاء الخارجي .

 كنت شاهدا على  هذه الأحداث وتابعتها عندما كنت هناك …  ممثلا غير معلن للثورة الفلسطينية … وباقي قصة بدايات  الحضور الفلسطيني في اليونان  اشهر من أن يقال . 

العودة إلى ميكيس ثيوذوراكيس ،

كان الراحل الكبير مناضلاً دفاعاً عن أرض بلده اليونان إبان الحرب العالمية الثانية  نذر حياته وعبقريته الإبداعية في الموسيقى لتأييد كل القضايا والثورات العالمية وفي الوقت نفسه، قدم أهم النغمات الخالدة في مؤلفاته السيمفونية والموسيقى التصويرية لأفلام إقتنع بتوجهها وقيمتها الفنية قبل أن يوافق على التعاون مع أصحابها، ولا تزال موسيق فيلم “زوربا اليوناني”، تتردد على أسماع العالم كأنها نشيد الإنسانية الذي يُسمع في كل مكان وكأنه ملك كل الشعوب لأنه يمثلها …

 الفيلم مأخوذ من رواية  (الكاتب اليوناني الكبير نيكوس كازنزاكيس … من جزيرة كريت ) صدرت عام  1946تحت عنوان ( حياة وازمنة ألكسيس زوربا  الذي , يحكي قصة كاتب إنجليزي في جزيرة كريت تغيرت حياته عندما التقى بفلاح ودود يدعى، أليكسيس زوربا … ( لعب دوره الممثل أنتوني كوين ) وأصبح المشهد الذي يرقص فيه زوربا حافي القدمين على الشاطئ صورة شائعة للثقافة اليونانية. ولا يزال موضوع الفيلم، الذي فاز بثلاث جوائز أوسكار، أشهر قطعة موسيقية يونانية بعد أكثر من نصف قرن.

 وأصبح اللحن الرئيسي لهذا الفيلم بمثابة نشيد يرمز إلى اليونان وأجوائها وثقافتها. وساهم ثيودوراكيس في نشر الموسيقى اليونانية واكتسابها شعبية في كل أنحاء العالم، وكذلك آلة البزوقي الموسيقية ورقصة “سيرتاكي” المرافقة لها التي يؤديها السياح في المرابع الليلية اليونانية، وهي مزيج مبسط من رقصتي “هاسابيكو” و”زيبيكيكو” .

وربما الأهم تلحينه منذ عام 1960 وما بعدها قصائد الشعراء اليونانيين الذين حصلوا على جوائز نوبل وغيرهم  و ( معلقاتهم … ) الوطنية إن صح التعبير لتبقى مصدر إلهام وطني تتوارثه الأجيال  … كما في حالة المعلقات العربية  وأشعار  شعرؤنا  في العصور المختلفة …  التي غنت وألهمت  بها الأجيال العربية .

أما عن النشيد الوطني الفلسطيني , وما يقال أن ثيوراكيس قد كتبه أو أعاد توزيعه الموسيقي  قكانت مبادرته ( بمثابة خطوة رمزية )   وكتبها   فعلا  … وكُنت قد تسلمتها منه شخصيا في اثينا عام 1984 عندما كُنت مديرا للبعثة الدبلوماسية في العاصمة اليونانية … وبقت في طيات الإرشيف الفلسطيني … وبعد ذلك الله اعلم .

كان الرأي وبعد شُكره بالتأكيد على المبادرة  ,  ورغم عالميته الفنية ونضالاته السياسية التي نحترمها … لم يكن ثيوذوراكيس  قد عاش نبض الإنسان  الفلسطيتي التاريخي طوال العقود السابقة من الكفاح والنضال … ليتمكن وينجح في تسجيله موسيقيا كما فعل في الحانه في وطنه اليونان … وأوصلها للعالمية .

وكما هو معروف لكل دولة ذات سيادة نشيدها الوطني الذي يصبح متداولا بعد نيلها استقلالها، أما النشيد الوطني الفلسطيني فقد استبق الاستقلال، نشيد وطني فلسطيني غير رسمي، هو النشيد (موطني) للشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان وهو النشيد نفسه الذي استخدم أيام الجمهورية العربية المتحدة وهو أيضاً نفس النشيد الوطني العراقي وكان من ألحان الموسيقار اللبناني محمد فليفل مطلعه :

موطني… موطني..

الجلالُ والجمالُ والسناءُ والبهاءُ

في رُباكْ… في رُباكْ

والحياةُ والنجاةُ والهناءُ والرجاءُ

في هواك… في هواك

هل أراكْ… هل أراكْ..

سالماً منعَّماً وغانماً مكرَّماً؟

ويقال أن إسرائيل قد إشترطت عدم إستخدام نشيد موطني للجلوس في مفاوضات مع الفلسطينيين … إلا أنه لا يزال قطاع واسع من الشعب الفلسطيني ينشده دوما وإعتمد النشيد الحديث (فدائي) فقد أصبح متداولاً عام (1972م)، واعتمد نشيداً وطنياً للفلسطينيين بقرار من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في ذلك العام، وعرف آنذاك بنشيد الثورة الفلسطينية، وهو نشيد قامت حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح باستخدامه في سياق تحويل أسماء المؤسسات الفتحاوية إلى أسماء فلسطينية عامة ومؤلف نشيد فدائي هو الشاعر (سعيد المزين) المعروف بفتى الثورة، مؤسس أولى المجلات الفلسطينية المعاصرة التي كانت تصدر باسم (الثورة الفلسطينية)
وقد لحًن النشيد الوطني الموسيقار المصري الكبير (علي إسماعيل) وقد قام الموسيقار اليوناني (الكبير ميكيس ثيوذوراكيس) باعادة التوزيع الموسيقي للنشيد عام 1981 حسب ما جاء في مركز المعلومات الفلسطيني (وفا ) والله أعلم … عبًر من خلالها عن تضامنه مع الفلسطينيين وقضيتهم العادلة، فيما قام الملحن الفلسطيني (حسين نازك) بوضع التوزيع الموسيقي النهائي للنشيد عام (2005م) ومطلعه:
فدائي فدائي فدائي

يا أرضي يا أرض الجدود
فدائي فدائي فدائي

يا شعبي يا شعب الخلود
بعزمي وناري وبركان ثأري

وأشواق دمي لأرضي وداري
صعدت الجبالَ وخضت النضالَ

قهرت المحالا حطمت القيود

قصة الموسيقار اليوناني ثيذوراكيس هي قصة اليونان … هذا قليل من كثير سيكتب عن الموسيقار ثيوذوراكيس … وسنقرا اكثر عن هذه الشخصية التي ملأت الفضاء العالمي بفنه اليوناني طوال الأيام السابقة … وغطتها وسائل الإعلام العالمية … كان ميكيس عبقرية موسيقية حقا .. ووصلت اصداء موسيقاه إلى الفضاء الخارجي..
لكنه كان إنسان له ما له … وعليه ما عليه … وللحديث عن هذا أكثر من أن يُحاط به في هذا المقام

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى