أقلام وأراءدراسات وتقارير خاصة بالمركز

السفير ملحم مسعود يكتب – حروب المياه 8 : السدود المائية

السفير ملحم مسعود – اليونان 29.5.2020

تصنع الجغرافيا أو بالأحرى ” الطبيعة ” مجاري الانهار  وتحدد مساراتها في السهول  والجبال للوصول إلى نقاط التصريف بحيرات … وبحار …الخ. بطبيعة الحال ومنطقيا خلق الله سبحانه وتعالى هذه  الطبيعة ووجدها الإنسان ليشرب  وياكل ويعيش منها وعليها … كجماعات وتجمعات تكتب وتسجل تاريخها وحضاراتها على ضفاف الأنهار اينما كانت على مر الزمان .

وأقرب شاهد على ذلك وقربنا إليه ورغم مرور  آلاف السنين ما نراه اليوم من حضارات ما زالت  آثارها حية ومتواجدة على ضفاف الانهار مثل الحضارة الفرعونية على ضفاف تهر النيل التي ما زالت باقية و واضحة ومعالمها شاهدة  على مدى رقيها وثرائها , في ما نراه في عظمة البناء سواء في أهرام الجيزة أو معابد ابو سنبل والمسلات التي ملأت الديار … إضافة إلى  مدن وعواصم عالمية وخصوصا إيطاليا وكان نصيبها الاكثر من هذه المسلات التي نراها في مدنها الجميلة , التي أبهرت الأباطرة الرومان ايام إحتلالهم لمصر  وحملوها إلى بلادهم لإضافة هذه اللمسات الفنية إلى قصورهم … دون ان ننسى المسلات المصرية التي تزين  ساحة الكونكورد  في باريس … وساحة السنترال بارك في نيويورك … وعلى ضفاف نهر التايمز في لندن , وإستنبول وغيرها واقفة وشامخةوكانها تحاكي التاريخ . وقد شهد عصر محمد علي باشا إهداء الكثير من هذه التحف الأثرية لحكام وزعماء دول أوروبية عديدة من أجل إقامة علاقات صداقة جديدة تساعده في بناء الدولة المصرية الحديثة التي كان يحلم بها … أكتب هذه اللمسة الحضارية كمثال على ما تصنعه أحواض الأنهار العابرة للحدود من حضارات وتراث . 

السدود المائية  ما لها وماعليها : 

تعتبر السدود من أكبر المنشآت المائية التي ينفذها الإنسان على الأنهار الدائمة الجريان أو الوديان الموسمية لتطويعها من أجل تخزين مياهها وتنظيم جريانها ودرء أخطار الفيضانات ومواسم الجفاف، واستخدام المياه في توليد الطاقة الكهربائية النظيفة، وتعويض النقص في مياه الشرب والاستخدامات المنزلية والصناعة والسياحة والزراعة المروية، وتنظيم الملاحة النهرية والمحافظة على البيئة.

عُرفت أهمية بناء السدود منذ القدم , بمقاييس ذلك الزمان , وكانت السيول والفيضانات  ربما أهم الأسباب لبنائها  لتجنب الكوارث الإنسانية , لكن أيضا الحاجة إلى المياه وخصوصا   في السنوات العجاف … نحن نتحدث عن زمن آخر وأعداد بشرية متواضعة مقارنة بما هو عليه الحال الآن , وكانت حياتهم وحضاراتهم تتمحور حول المياه  ومصادرها أنهار … وبحيرات … وينابيع … الخ.

وتاريخيا يعتبر  ” سد مأرب ”  اول سد في العالم ومازالت آثاره ومعالمه واضحة و موجودة الي الان .

اليوم يوجد في العالم نحو 800,000 سد، منها 45,000 مصنفة بالسدود الضخمة ويتجاوز ارتفاعها 15 متراً. وإذا كانت منافع السدود معروفة . لكن الطموحات البشرية تتجاوز حدودها … وقادته الى بناء سدود ضخمة، وصل ارتفاع بعضها الى 335 متراً (سد روغان في طاجكستان). ونتيجة لذلك، بدأت الآثار السلبية بالظهور، وبدأت حملات عالمية معارضة لبناء السدود.

وكما هو معروف تحمل مياه النهر الرواسب من أعلاه الى مصبه. لكن السدود تحتجز وراءها الرواسب، خصوصاً الحصى، فيصبح النهر بعد السد محروماً منها، ويتآكل قاعه، فينخفض مستواه. وعلى سبيل المثال فبعد تسع سنوات على بناء سد هوفرالشهير في الولايات المتحدة، انخفض قاع النهر أربعة أمتار. هذه الظاهرة تؤدي الى تآكل التربة عند أساسات الجسور والمنشآت على طول النهر، وانخفاض مستوى المياه الجوفية في ضفافه، مما يؤثر على النباتات. إضافة الى ذلك، فان حرمان النهر من الحصى يؤدي الى تهجير جماعات الأسماك التي تضع بيوضها هناك.

أما الفيضانات السنوية التي كانت تغطي ضفاف النهر بالطمي او ( الغرين ) والماء، والتي تعتمد عليها الحيوانات والنباتات للتكاثر والهجرة وغير ذلك،  فتوقفت مع بناء السدود. فقبل بناء السد العالي في مصر، كان نهر النيل ينقل 125 مليون طن من الطمي الى البحر سنوياً، وينشر منها 10 ملايين طن على ضفافه وهي مصدر هام لغناء التربة . أما اليوم، فيحتجز السد 98 في المئة من الطمي، ما أدى الى ضعف انتاجية الأراضي وأجبر المزارعين على استعمال المخصبات الكيميائية.

وتشكل مصبات الأنهار الطبيعية، حيث يختلط ماء النهر العذب بمياه البحر المالح بكميات معينة وأوقات معينة من السنة، إحدى أكثر الأنظمة الايكولوجية تنوعاً. لكن السد يقلل من كمية المياه العذبة الواصلة الى البحر، وهذا ما أدى الى انخفاض صيد الأسماك في خليج المكسيك على سبيل المثال بدرجة كبيرة.

ولقد تم التأكد من دور السدود في تأمين موطن مهم للبعوض الناقل للكوليرا في المناطق الاستوائية والذي يحب العيش فوق المياه الراكدة.

وثمة نظريات غير مثبتة تدّعي أن السدود الكبيرة تسبب الزلازل وتحرك الصفائح الأرضية نظراً لوزن الماء الضخم المحتجز في بقعة محددة .

ومن جانب آخر هناك إثباتات متنامية تؤكد أن السدود الضخمة لا تحقق وعودها الاقتصادية: فهي تكلف أكثر من المتوقع، وتمتلئ بالوحول في وقت أبكر من المتوقع، وتعطي طاقة أقل من المتوقع.

اليوم هناك اتجاه عالمي للاستعاضة عن السدود الضخمة بعدة سدود أصغر حجماً، بحيث يكون تأثيرها أقل وطأة على النظام النهري. وهناك اتجاه أيضاً لازالة السدود القديمة للسماح للأنهار والنظم البيئية بأن تستعيد وضعها الذي كانت عليه. ففي الولايات المتحدة، حيث يتحتم تجديد ترخيص العمل بسدود توليد الطاقة الكهربائية المائية كل 30 الى 50 سنة، تجاوزت معدلات إزالة السدود معدلات بنائها خلال العقد الماضي. وبعد سنتين من إزالة سد إدواردزفي ولاية ماين ارتفع معدل عودة مجموعات الأسماك والطيور، وتحسنت تهوئة المياه بحيث أصبحت قادرة على التنقية الذاتية. ولكن تنبغي الاشارة الى أن إزالة السدود قد تؤدي الى مشاكل مثل إطلاق رواسب سامة، أو غزو لبعض أنواع الأسماك الدخيلة .

ونذكر بعض أشهر السدود العالمية في عصرنا هذا وربما كان أكبرها ضخامة واكبر مصدر في العالم لتوليد الكهرباء سدالممرات الثلاثة المقام على نهر ” اليانغتسي ” في الصين ثالث أطول  نهر في العالم , وبني السد على حساب الكثير من المناطق الفائقة الجمال في الصين , حيث غُمر اكثر من ألف موقع أثري لتشييده و كما هٌدمت حوالي مئة بلدة وقرية  , الامر الذي اسفر على حركة تهجير واسعة للسكان بما يقارب 1,24 مليون من البشر ( عكس ماحدث في تشييد السد العالي في مصر حيث تم إنقاذ الآثار بالكامل ضمن حملة عالمية غير مسبوقة بقيادة اليونسكو ) .

ورغم كل ما يقال عن متانة هذا السد الصيني وقدرته على الصمود  امام أقوى الزلازل … إلا أنه في حالة (غضب الطبيعة ) وما يعني ذلك من كارثة بشرية تؤدي  أو تهدد حياة ملايين السكان الذين يعيشون من حوله.

كذلك شيدت الكثير من السدود الضخمة مثل سد إيتايبوعلى نهر بارانا في البرزيل  الذي يصنف على أنه سابع اطول نهر في العالم , وياتي السد في المرتبة الثانية بعد سد الممرات الثلاثة المذكور اعلاه , كذلك سد هوفرعلى نهركولورادو في الولايت المتحدة ويأتي في المرتبة الثالثة , وهناك اليوم العشرات من السدود على أنهار عابرة للحدود تنظم حصص المياه وتوزيعها بين دولة او دول المنبع … حتى دولة المصب ضمن نظم وتشريعات أممية معروفة للحفاظ على كافة الحقوق  المائية لدول الحوض .

كما ان هناك الآن مشاريع تشييد سدود في مناطق مختلفة في العالم في إنتظار  الدراسات والتصميمات والأبحاث الضرورية … وتامين مصادر التمويل .

قبل أيام أغرقت مياه الفيضانات الناتجة عن ( ثغرات ) في سدين أجزاء من مدينة ميدلاند في وسط ولاية ميشيغان الأميركية مما تسبب في تشريد آلاف السكان ووصول المياه إلى مصنع تابع لشركة داو كيميكال في المدينة المطلة على النهر . لا اعتقد أن الدراسات والتصميمات لتشييد هذه السدود ينقصها التقنية والدقة … لكن كما يبدو أنغضب الطبيعة في مثل هذه البلاد لا يمكن التكهن بها مهما بلغت الدقة والحسابات في تشييد السدود .

أقول ذلك بعد أن سمعت وقرأت تصريحات  “آبي أحمد ” رئيس وزراء أثيوبيا الحائز على جائزة نوبل  يقول فيها ما معناه : هذه هي مياهنا … ولنا الحق فيها وطريقة إستغلالها … في ظل ( بلادة ) ومواقف ضبابية  شبه كاملة من الممولين لمشروع سد النهضة والشركات الأجنبية التي تنفذ المشروع لما له من خطورة وتهديدات  لحقوق كل من عاشوا وصنعوا الحضارات في حوض النهر ... وإثيوبيا تلعب لعبة المفاوضلت منذ سنواتوما زالت تفاوضوتفاوض  من اجل كسب الوقت وفرض الأمر الواقع .. وينسوا غضب الطبيعة ... وغضب البشر يوم تهدد حياتهم وحضورهم على  ضفاف النهر العظيم .

وللحديث بقية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى