#أقلام وأراءدراسات وتقارير خاصة بالمركز

السفير ملحم مسعود يكتب – حروب المياه (11) : ” الأمن المائي ” – الحلقة الأخيرة

السفير ملحم مسعود – اليونان 8.10.2020

لا نعني هنا ( بالحلقة الأخيرة ) في هذا الفصل الطويل من مقالات (حروب المياه   ) على مدى الشهور الماضية التوقف في متابعة كل جديد في قضية تتفاعل وبشكل مستمر … ولا تنتهي أبعادها  سواء في فلسطين  أو الشرق الأسط , وربما في العالم   وسوف يكون لنا عودة دائمة  إلى ملفات المياه القضية التي تتداخل فيها عوامل كثيرةإضافة للإنسان نفسه , وعوامل أخرى  خصوصا الطبيعة التي لها قوانينها وتتقارع مع بني البشر … ,  لذلك لن تكون هذه  آخر إهتماماتنا في قضية من هذه الأهمية حافلة بالمخاطر والمستجدات , وكانت  المقالات  السابقة أقرب ما تكون بمثابة عناوين لأبحاث ودراسات , إستعنتُ من خلالها بالمعلومات ,  كذلك مؤتمرات ونشاطات ودراسات ومقالات …حاولنا خلالها تناول الشأن (المائي ) من جوانب عديدة  بقدر المستطاع عن أحد القضايا الأكثر تعقيدا في عصرنا هذا … ويمكن الإطلاع عليها في موقعنا هذا تحت عنوان ” حروب المياه “

نعني هنا بمفهوم الأمن المائي إذا تركنا النزاعات والحروب جانبا , هذا الأمن  يُنظر إليه في الأساس على أنه الحال الذي يكون فيه عند كل شخص فرصة أو قدرة على الحصول على مياه نظيفة ومأمونة بالقدر الكافي وبالسعر المناسب حتى يتمّكَّن من أن يعيش حياة ينعم فيها بالصحة والكرامة والقدرة على الإنتاج مع الحفاظ على النظم الإيكولوجية التي توّفر المياه وتعتمد عليها في الوقت نفسه، بينما يؤدي انقطاع سبل الحصول على المياه إلى تُعرّض البشر لمخاطر كبيرة تتعلَّق بالأمن البشري أبرزها انتشار المرض وانقطاع سبل المعيشة ... الخ .

وإذا نظرنا إلى الإمدادات المائية في الشرق الأوسط فهي تتعرض لضغوطات هائلة , على سبيل المثال سكان مصر يزداد بأرقام مذهلة سنويا …

عدد كبير من المدن الأردنية تعاني من شح المياه مرة أو مرتين في الأسبوع ( مع الأخذ بعين الإعتبارضغوط الإزدحام البشري الكثيف والطارئ … وإضطرار أكثر من نصف مليون مواطن بالنزوح من الكويت عام 1990 بعد إجتياح العراق للكويت , واخيرا المخيمات التي أقيمت على عجل لإستقبال اللاجئين السوريين في الاردن…) وتداعيات كل ذلك … ونحن نتحدث فقط على الحاجة المتزايدة للمياه.

كذلك موجات الهجرة اليهودية للأراضي الفلسطينية … وإقامة المزيد من المستوطنات في الضفة الغربية , وإزدحام بشري مضطرد ,  مما  يشكل هذا ضغطا هائلا على موارد ( دولة الإحتلال ) المائية المستنفذة في الوقت الحاضر … مما يفتح شهيتها للتوسع ,  والإستيلاء على مصادر مياه جديدة , وتأجيج صراعات لا تنتهي … في منطقة لا تحتاج صراعات اخرى  أكثر مما هي عليه .  

في المقابل في قطاع غزة حدٍث ولا حرج وعلى سبيل المثال أيضا وصل معدل ملوحة الأراضي الزراعية وآبار المياه العذبة أعلى المستويات واشدها خطرا … ووطأة الحصار… ليصبح ” الأمن المائي “ هناك  من سئ  إلى أسوا , ضمن أشياء أخرى . ووضع اليد على الآبار الإرتوازية في الضفة الغربية للسيطرة على المياه الجوفية  هناك  وتداعيات ذلك  على إستهلاك المياه للزراعة والإستخدام المنزلي .

إنخفاض منسوب نهر الفرات مع التلوث من المبيدات والكيماويات والملوحة دفع بالحكومة السورية قطع إمدادات مياه الشرب  والكهرباء عن دمشق في اوقات متقطعة ( هذا يوم كانت هناك دولة) وتخسر شبكة المياه في العاصمة و بعض المدن الأخرى  30%  من المياه نتيجة شبكة الانابيب القديمة … ألخ .

أكثر من 50% من سكان الشرق الاوسط وشمال أفريقيا ( بإسثناء المغرب ) يعتمدون إما على مياه الأنهار العابرة للحدود الدولية قبل وصولها إليهم , او على المياه المحلاة والمياه الجوفية.

الأكثر إجفالا أن ثلثي الشعب الناطق باللغة العربية في الشرق الأوسط يعتمدون على مياه الأنهار القادمة من دول لا تنطق باللغة العربيةو24% منهم يعيشون إما على مياه الآبار المكلفٍة في التنقية بكميات كبيرة , كذلك ضخها إلى أماكن بعيدة .

هذه الصورة وأسباب اخرى … هل تتفق مع الإعلان الذي أطلقته لجنة الأمم المتحدة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ؟؟؟

والذي نصّ على أن : “حق الإنسان في المياه يجب أن يكفل للجميع إمكان الحصول على المياه بشكل كافٍ وآمن ومقبول وبسعر مناسب مع القدرة على الوصول إليها وذلك لأغراض الاستخدام الشخصي والمنزلي”.  

إذا الحصول على المياه وفق هذا المنطق حقًا من الحقوق الأساسية للإنسان إذأنّ التمسك بالحق الإنساني في المياه هو غاية في حد ذاته ووسيلة لاستنهاض حقوق أكثر شمولاً وردت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفي غيره من الوثائق الملزمة قانونيًا، بما في ذلك الحق في الحياة والتعليم والصحة والمسكن اللائق”. 

بالمقابل، يُعتبر انعدام الأمن المائي انتهاكًا قويًا لبعض أهم مبادئ العدالة الإجتماعية والمواطنة إذ من المفترض أن تكفل المواطنة العادلة لكل شخص الحق في قدر متكافئ من الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية بما في ذلك ممارستها بفاعلية، بينما يُعّد انعدام الأمن المائي تهديدًا لها لأنه يقلّل من تكافؤ الفرص الذي هو شرط أساسي لتحقيق العدالة الإجتماعية.

وفي وقتنا الحاضر لم يعد يُنظر إلى انعدام الأمن المائي من زاوية الندرة المادية للمياه والتي تعرف بعجز الموارد المائية عن تلبية الطلب فحسب (الزراعة … وتوليد الطافة … الخ . ) بل كنتاج لسياسات سوء إدارة الموارد المائية أيضًا.

كما أن تغيّر المناخ في العقدين الأخيرين، وما رافقه من تغيّر في أنماط سقوط الأمطار، لا تخلو من حدوث مظاهر طقس متطرِّفة ، وارتفاع مستوى البحر، كل هذا سلّط الضوء بشكل جليّ على الخصائص التدميرية للمياه ( حينما تغضب الطبيعة ) والتي تتجلّى في العواصف والأعاصير والفيضانات والجفاف أيضا .

وهذا ما دفع علماء المياه إلى اعتبار أمن المياه مرتبطًا أيضًا بالقدرة والإمكانية  على التنبؤ بالمخاطر وإمكانية المواجهة للحد من الضرر الناتج عن القدرات التدميرية للمياه... أو ما تقوم به الطبيعة التي لها (  حقوقها ) أيضا .

وطالما الشئ بالشئ يذكر هنا ماحدث في السودان الشهر الماضي , حيث غمرت مياه الفيضان اجزاء كبيرة من البلاد في أسوأ كارثة منذ قرن مضى … وما زالت البلاد تعاني من تداعياتها … وعلى الجانب المصري أيضا حيث كانت مظاهر فيضان النيل في البلاد واضحة لولا السد العالي وبحيرة  ( ناصر ) من خلفه , وإستنفار  الأجهزة لمواجهة الأزمة كانت فاعلة ونجحت مصر في                  (  ترويض  ) فيضان النهر … وكانت قادرة على مواجهة مخاطرفيضان النيل هذا العام ... بعكس ما حدث في السودان .

وكما يقولون الإخوة في مصر الشقيقة : مصر هبة النيل… عاشقها وحاميها . ورضوانها وصاحبها وهانيها , وراويها وأبدا وأبدًا لن يعطًش أراضيها , وعناية الله بها ابدًا في احلك أوقاتها فتحيل الظمأ إرتواء والجفاف ماء والخيفة أمنا , والظلمة إشراقا ونورا … وبعد ما سجل فيضان النيل قبل سنوات قليلة أقسى إنخفاض منذ قرابة مائة عام… مكثنا نبتهل للغيث إنهمارًا وللشمتانين خذلانا  …  وللصلف نهاية ولأهل الشر إنحدارا , فإذا ببشائر الخير قادمة , وإذا بآيات الله تترى لأهل ” المحروسة “… الخ

وبهذا المعنى فإن أمن المياه أصبح يتمثّل بالقدرة على الحصول على المياه من أجل الاستهلاك البشري وكمصدر إنتاجي من جهة، وفي الحد من الإمكانات التدميريّة للمياه والحماية من المخاطر المرتبطة بها من جهة أخرى ,  كالفيضان  من جهة …  والجفاف  … من جهة أخرى أيضا .

من ناحية أخرى ، فقد أدّت الصرخات المدوِّية، والتي حذًرت في السنوات الأخيرة من حتميّة نضوب المياهفي العالمإلى توسيع دائرة الاهتمام بأمن المياه حيث يعتبر العديد من المنظمات الدولية والجمعيات الحقوقية والبيئية أن الحق في الحصول على المياه وتكافؤ الفرص في الحصول عليها ضمن الجيل الحالي يجب أن لا يعرٍّض للخطر قدرة الأجيال المقبلة على تلبية حاجاتها من هذا المورد الحيوي  , وينسجم هذا الطرح مع إحدى الخلاصات التي خرجت بها قمة الأرض الأولى التي عقدت في ريو دي جانيرو العام 1992 حين اعتبرت أن كوكب الأرض ليس ملكية خاصة للأجيال الحاضرة، بل هي تشغلها على سبيل الإستعارة من الأجيال القادمة”.

لقد كانت المياه دائما مصدرا للصراع في الشرق الأوسط ( كما هو حال مناطق اخرى ) لكن الضغوطات المتزايدة على المصادر المستنفذة فاقمت هذه الاوضاع , فخلال الفترة التي سبقت حرب 1967 بدأ صراع مسلح بين إسرائيل وسوريا حول مصادر مياه نهر الاردن

كذلك كان هناك توتر ( وما زال ) في حوض نهر النيل حيث تعمد أكثر الدول الحوضية العشر ( مصر , السودان , اثيوبيا , أفريقيا الوسطى , تنزانيا , زائير , اوغندا , كينيا , رواندا , وبورندي ) على التخطيط لمشاريع تطوير مائية وتطبيقها … دون الاخذ بعين  الإعتبار حاجات الدول الاخرى … فالمياه التي تاخذها دولا لمجرى النيل  الأعلى لحاجاتها الخاصة … تعني مباشرة من جهة اخرى نقصالموارد مياه دول المجرى الأسفل ( دول المصب ).

واليوم ازمة سد النهضة ( الإثيوبي) مع مصر والسودان ما هي إلا سوى مثال  واضح , لمثل هذه السياسات وتداعيتها .  كذلك هناك عوامل وأسباب عديدة ايضا تسهم في اختلالالأمن المائي أو فقدانه في البلدان النامية وأبرزها: ندرة المياه بسبب تسارع الزيادة السكانية و يمكن القول إنّ ندرة المياه في العديد من البلدان النامية هي نتاج بعض العوامل أبرزها سبب تسارع الزيادة السكانية … وإزدياد سكان المدن وعمليات التحضَر … وإرتفاع مستوى المعيشة , وضرورة الزراعة الكثيفة … وإنتشار التصنيع …  واسباب سياسية ومؤسساتية …  وأخيرا الهدر والتوزيع اللامتكافئ للمياه  وإخفاق طرق وإدارة المياه …  وقضايا أخرىفي المناطق  المختلفة .

وللحديث بقية … دائما

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى