#أقلام وأراء

السفير ملحم مسعود يكتب – تونس التي نعرفها ..!!

بقلم السفير ملحم مسعود – 7/10/2021

في صباح يوم 21 أغسطس 1982 توجه أبو عمار  إلى ميناء بيروت وسط وداع شعبي ورسمي ” مهيب ” وصفه أخي نبيل عمرو  في كتابه ( أطول  أيام الزعيم  ) يظهر  “وفاءً من النوع الذي قلّ نظيره، لبيروت وأهلها الذين يحبّون الحياة”، بحسب خير الله  كذلك  وصف إستقباله الكبير لاحقا  في تونس أيضا  ”  وقبل صعود عرفات   على الباخرة اليونانية ” اتلانتيك ” في إتجاه العاصمة اليونانية، حيث كان في إستقباله على ظهر الباخرة  بعثة يونانية  رفيعة المستوى لمرافقتة في رحلتها  إثر الحصار الإسرائيلي الذي فُرض على بيروت ومنظمة التحرير   وفي هذه الأجواء ووسط حشد إعلامي عالمي لتسجيل هذه اللحظات التاريخية التي عبًرت عن نفسها .

كان في إستقبال الزعيم  الفلسطيني لدي وصوله  على رصيف الميناء رئيس الوزراء اليوناني الراحل أندرياس باباندريو وكافة أركان الدولة اليونانية  وزعماء الأحزاب ووسائل الإعلام المحلية والعالمية وقيادات فلسطينية جاءت لإستقباله  اذكر منها الأخ الرئيس أبو مازن ، وكُنت قد خرجت من الحصار على أول باخرة غادرت بيروت  للتحضير وترتيب برنامج الوصول واللقاءات في اليونان  على عجل قبل مغادرة  الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ومرافقيه متوجهين  إلى تونس   ( التفاصيل في مقال سابق تحت عنوان : تونس والطريق إلى فلسطين على الموقع ) 

وفي إنتظار  وصول الباخرة عى رصيف الميناء ،تجاذبت أطراف  الحديث مع رئيس الوزراء اليوناني الذي كانت تربطني به صداقة قديمة  منذ نضاله ضد الحكم العسكري وكُنت حينها ممثل الثورة الفلسطينية ( بشكل سري )  أنسق مع المجموعات المعارضة  المتواجدة في الداخل ، والخارج وقال لي   : 

يا لها من صدفة يصادف اليوم   أن نستضيف  الرئيس الفرنسي ميتران في زيارة رسمية … نظرت إليه دون أي تعليق … وواصل حديثه لكن سوف  تكون لدينا الفرصة للمحادثات مع الرئيس عرفات والتطورات القادمة … الخ.  وكرر يا لها من صدفة …  وكانه يكٍن  أو يضمر شيئا . فقلت له في محاولة مني  سبر أغواره بما في  صدره  : 

 أن زيارة عرفات لأثيتا  ستكون بالتأكيد على شكركم والموقف اليوناني بشكل عام … وهو سوف يتفهم إنشغالكم بضيفكم الكبير وصديق فلسطين  أيضا الرئيس الفرنسي ومعلوماتي انه سيغادر غدا إلى تونس … وداعبتني هنا …  أفكاري هل يفكر رئيس الوزراء اليوناني بترتيب لقاء يجمع الزعيم الفرنسي مع الفلسطيني !!! 

وصل ابو عمار وغادر في اليوم التالي على متن طائرة خاصة أرسلها له الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة  إلى أثينا .

وبقى كلام رئيس الوزراء اليوناني  ونظراته في ذاكرتي إلى أن  ألتقيت به يوما … قال لي أو أراد تذكيري  …  بزيارة ميتران يوم وصول عرفات , أن القضية الفلسطينيية كانت حاضرة في صلب محادثاته مع الرئيس الفرنسي وتناولا كافة التطورات  المستقبلية بالشان الفلسطيني  بعد الخروج من بيروت وكان مرتاحا ( ميتران )  بإتخاذ تونس مركزا لمنظمة التحرير . 

 لكن ” الطبخة ” الناجحة  كانت  قد نضجت له لاحقا للعب دور تاريخي عندما رتًب لقاء القذافي وميتران في جزيرة كريت ( كان تحديد المكان حسب رغبة القذافي) في عام 1984 حسب ما ذكر ” قذاف الدم ” ضمن أشياء أخرى في مقالاته ومذكراته ( حينما يتذكر ).

كانت قمة كريت إنجاز سياسي هام يحسب له ,   و جوهرها وقف النزاع  حول حدود تشاد الجنوبية وتورط الطرفين , ومرة أخرى   ذكر لي أندرياس باباندريو  ونحن نجتر ونراجع بعض الذكريات … حكاية كريت ونوادرها من تصرفات القذافي …  قلت له يا لها من صدفة …    ياسر عرفات وميتران كانا متواجدان على الأرض اليونانية  دون لقاء يجمعهم في كريت … او غيرها من الجزر اليونانية الجميلة .

 إبتسم وقال لي :  إنك كنت تقرا أفكاري … لكنني أعتقد ان الإمور لم تكن قد نضجت بعد … وحضوركم في تونس فتحت آفاق وأبواب … للقضية الفلسطينية أكثر من أي وقت مضى  .

بورقيبة في القدس وأريحا

 في الثالث من مارس عام 1965 زار الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة القدس وأريحا وتفقد مخيمات اللاجئين فيها والتي كانت وقتها ضمن المملكة الأردنية ، وألقى خطابه الشهير الذي نختار بعض ما جاء فيه : 
ما كنا لننجح في تونس، خلال بضع سنوات، لولا أننا تخلينا عن سياسة (الكل …  أو لا شيء)، وقبلنا كل خطوة، تقربنا من الهدف، أمّا هنا فقد أبى العرب الحل المنقوص، ورفضوا التقسيم وما جاء به الكتاب الأبيض. ثم أصابهم الندم، وأخذوا يرددون :  “
ليتنا قبِلنا ذلك الحل، إذاً لكنا في حالة أفضل من التي نحن عليها”.
ولو رفضنا في تونس، عام 1954، الحكم الذاتي، باعتباره حلاً منقوصاً، لبقيت البلاد التونسية، إلى يومنا هذا، تحت الحكم الفرنسي المباشر ولظلت مستعمرة  تحكمها باريس. هذا ما أحببت أن أقوله لكم في هذه الزيارة، التي سيتذكرها، دائماً، هذا الرجل المتواضع أخوكم الحبيب بورقيبة….  وهذه هي نصيحتي  التي أقدمها لكم ولكل العرب، حتى تضعوا في الميزان، لا العاطفة والحماس فقط، بل كذلك جميع معطيات القضية. وهكذا نصل إلى الهدف، ولا نبقى سبع عشرة سنة أخرى، أو عشرين سنة  نردد:

الوطن السليب الوطن السليب …  دون جدوى ..

مراجعة تاريخية لزيارة بورقيبة للقدس وأريحا …

كنت في ذلك الزمان قد إنخرطت بالعمل السياسي الفلسطيني من خلال الحركة الطلابية الفلسطينية  … في فترة ما قبل إنشاء منظمة التحرير وما بعدها , سمعت خطاب بورقيبة  … وراودتني افكار كثيرة أهمها شعوري بالتوافق مع هذه الافكارلزعيم عاقل وصاحب رؤية متقدمة , ونحن مشردين في كل مكان بلا هوية وملاحقين من كل الأنظمة ( الثورية ) وغيرها  . 

وإذا تذكرَت اجيالنا في ذلك الزمان  كيف كانت ردود  فعل  أنظمة عربية …  التي طالما ما باعت وإشترت بالقضية الفلسطينية  واهلها …على تصريحات بورقيبة  ما بين الشجب والإدانة والإستنكار … وما بين التزييط والتطبيل لبعض الأنظمة   …  ما الذي كانت  تستطيع فعله منظمة التحرير …  والتي لم يمضي على تأسيسها  سوى القليل  اكثر من  إصدار بياناً بتاريخ 23 أبريل 1965، شجبت فيه تصريحات الرئيس بورقيبة … وماذا كان يستطيع أن يفعل ” أبومازن ” …  أحمد الشقيري رحمه الله  غير ذلك ؟؟؟

وجاءت  تصريحات  بورقيبة كما من يلقي بحجر في بركة مياه راكدة … تثور عليك بعد الإختيار والإختبار … 

مضت سنوات طويلة على هذه ( التصريحات ) ليعيش بورقيبة الحدث …

 كان بورقيبة صادقا في ما سبق و قاله و نصيحته التي كانت صادرة عن محبة للفلسطينيين  أصحاب والفرص الضائعة وضحية تجاذبات الأنظمة  العربية   … وحزن على ما آل إليهم وضعهم , وهو نفسه الذي استضاف لاحقا  قيادة فتح وعلى رأسها الزعيم الراحل ياسر عرفات وقدم لهم من تونس دعما وإطارا لم يسبق أن توفر إلى القيادة الفلسطينية .

( لتلميع الذاكرة … سبق للحبيب بورقيبة أن  إستضاف على ارض تونس قرابة 25 الف مقاتل  من المجاهدين الجزائريين أيام الثورة , وكان لهذا العدد الكبير بعض تجاوزات وتصرفات … فلا يشتكي منهم احداً وإذا إشتكى أحدهم … أجابه بورقيبة : هذه إمور فردية من جنود أفراد … ونحن في تونس نؤيد ثورة الشعب الجزائري بأسره … فلا يجوز أن تصرفنا مثل هذه الحوادث الفردية عن مناصرة شعب وثورة عادلة ) 

عودة إلى تونس 

وصل ياسر عرفات إلى  تونس وقد أعد له إستقبال حافلا   ( أراد له بورقيبة أن يكون  خاصا ومتميزا … ) كما هو الحال في إستقبالات أكبر الشخصيات والزعامات …  ليؤكد الزعيم التونسي وشعب تونس العظيم  حجم الترحيب والقبول  بوجود منظمة التحرير في تونس والتضامن مع الشعب الفلسطيني , وصف أجواء تلك الإستقبالات ,  وبإسلوبه الشيق والموضوعي في كتاب الأخ  ” نبيل عمرو ”  “أطول أيام الزعيم” … ” كشهادة  رجل رسم  ياسرعرفات  بدقّة وموضوعية تجعله أقرب إلى كاميرا تلتقط الصورة والعواطف الإنسانية في الوقت ذاته”  وما كان في إنتظاره في تونس .

وهنا بعض ما جاء على موقع ( أساس ) في كتاب نبيل عمرو في وصفه لحظات وصول ياسر عرفات ارض تونس : (وتحت قدمي الحبيب بورقيبة وشريكته ورفيقة حياته ورئاسته السيدة وسيلة بن عمار، سجادة حمراء فرشها رجال المراسم ليخطو عليها أهم لاجئ يطأ أرض عاصمة البلد الأخضر).

كان المجاهد الأكبر قد أعدّ استقبالًا رئاسيًا لعرفات، حرس شرف، وفرقة موسيقية ومنصة للاستعراض وأحضر كل رجالات الدولة التونسية وكل رجال ونساء السلك الديبلوماسي وعدد من القادة الفلسطينيين الذين لم يكونوا في بيروت أثناء الحرب المجيدة.

انتهت المراسم الصاخبة وانتهت المصافحات والمعانقات واصطحب المجاهد الأكبر والسيدة وسيلة الضيف في سيارتهما الخاصة وتقدما موكبًا يضم عشرات السيارات السوداء فيما يوحي للمتشائمين بجنازة. ) 

وكتب أيضا : وصل الموكب إلى ضاحية قرطاج الشهيرة في التاريخ والواقع، وفي قصر صغير أقيم على شاطئ البحر واسمه ويا للمفارقة “ قصر السعادة ” جلس المجاهد الأكبر والسيدة وسيلة وياسر عرفات في ركن من أركان القصر الفسيح، أعلن المجاهد الأكبر عن مفاجأته التي لم تكن لتخطر على بال أحد. فلقد قدم قصر السعادة هدية من المجاهد التونسي إلى المجاهد الفلسطيني، متمنيًا أن ينتقل منه إلى أرض فلسطين. 

ولم يخطر ببالنا بعد أن عرفنا بمبادرة المجاهد الأكبر أن نبؤته سوف تتحقق، ولكن، كنا نحن الذين رافقنا الرئيس من مكتبه في “الفاكهاني” إلى مقرّه الجديد في تونس نسرح ونمرح في أرجاء القصر الرخامي، كما لو أننا نزلاء في فندق أعدّ خصيصًا لضيافتنا بعد شظف العيش الذي كابدناه في الحرب.

منذ وصولنا قصر السعادة، إلى أن أمر عرفات مرافقيه باستدعائنا إلى اجتماع فوري، كانت فترة مكوثنا في القصر لا تزيد عن ساعة. تساءلنا ما الذي يريده هذا الرجل من اجتماع عاجل، أم أنه راغب في بدء العمل ولو بإجراء شكلي …  ما إن اكتمل جمعنا وقوفًا وجلوسًا حوله، حتى بادرنا قائلًا وبصيغة أمر لا يقبل النقاش:  “كل واحد منكم يشيل أغراضه وعلى السيارات”.

أمر سفيرنا حكم بلعاوي رحمه الله  بنقل رسالة من عرفات إلى المجاهد الأكبر شكره فيها على تخصيص قصر السعادة كتقدمة من الشعب التونسي إلى قائد الثورة الفلسطينية مشفوعًا باعتذار عن قبول القصر.

كان محقا ياسر عرفات عندما أجاب على سؤال احد الصحفيين  وهو يصعد على الباخرة ” إتلانتيك ” متوجها لليونان  قائلا :  والان  إلى اين يا أبو عمار ؟  واجابه ياسر عرفات :

إلى فلسطين …

هذه هي تونس وشعبها كما عرفناها … وهنا القليل … في الشان الداخلي , رحل بورقيبة مؤسس تونس الحديثة  في عام 2000 وما زال هناك حنينا للرجل الذي يعود له الفضل في إنشاء تونس الحديثة ومنح التونسيين مكاسب غير مسبوقة كالتعليم وحرية المرأة والتوازن السياسي داخليا وخارجيا … كانت  إنجازات الحبيب بورقيبة معروفة وكثيرة … وعلى سبيل المثال اتوقف أمام القوانين والنظم الذي كرسها لتنال المرأة التونسية  حقوقها وما زالت إلي يومنا هذا منار ومثال للمراة العربية في كل مكان … وجهوده لمواجهة تقاليد أكل عليها الدهر وشرب  … من الحجاب …إلى الجلباب .  

حتى أصبحت اليوم المراة التونسية مرشحة لتشكيل الحكومة في البلاد في ظروف وتفاعلات وتحديات غير مسبوقة … سباق مع الزمن حتى لا ( تخطف ) النجاحات والتحولات والإنجازات الإجتماعية والسياسية  لتضيع هباءً … هل إحياء الإرث البورقيبي اليوم موقف شعبي من المشهد السياسي المعقد في تونس … مابعد الثورة ؟؟؟  الإجابة لدي الشعب التونسي …

قلوبنا على تونس وشعبها …

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى