أقلام وأراءدراسات وتقارير خاصة بالمركز

السفير ملحم مسعود يكتب – العلاقات الفلسطينية اليونانية….. وأهميتها

السفير ملحم مسعود، اليونان 26.7.2019

إستكمال لمقالنا الاخير   عن مفهوم العلاقات الدولية , واهمية ذلك , والحالات الخاصة …. التي  تشكلت من قامات وشخصيات واسماء سياسية لرجال دولة … من  بلاد مختلفة ساعدوا ودعموا الحركة الوطنية الفلسطينية في مسيرتها المبكرة وخصوصا في السبعينيات من القرن الماضي على سبيل المثال النمسا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا والسويد …الخ.

وصلنا في مقالنا المذكور إلى ظاهرة وخصوصية الحالة اليونانية من تضامن كلي مع فلسطين , والزعامة المرموقة لأندرياس باباندريو , وحضوره الطاغي  في الساحة الأوروبية وخصوصا منظمة الوحدة الاوروبية ….. وهي الأكثر قوة وإندفاع وتاثيرا … بهذا الدور المتقدم الذي قام به لدعم منظمة التحرير والشعب الفلسطيني رغم تحديات داخلية وخارجية لم يعبا بها …

هنا سنتوقف عند هذه المنحنيات المتصاعدة التي عاشها جيلنا  في هذا البلد وخارجها ,  كانت أحد أهم عوامل إستقطاب الدعم الدولي للمسيرة الفلسطينية.

اكتب اليوم والشعب الفلسطيني يواجه تحديات غير مسبوقة من سلطات الإحتلال حيث جرى جري فيه هدم عشرات المساكن في القدس العربية وتشريد عشرات العائلات، في حملة هدم هي الأكبر منذ عدوان يونيو/حزيران عام 1967. … في الوقت الذي استضافت به اسرائيل ما وصفتهبوفد إعلامي عربي ”  بتوقيت تزامن مع هذه المجزرة التي اقترفتها السلطات الإسرائيلية كان المشهد  … مضحكا  وبائسا …  لم يحسن إخراجه , بطلها  مدوّن ومطبع سعودي . … في ظل ضبابية المسرحية …. والله أعلم .

وفي هذا الظرف كان هناك مشهد آخر خلط الاوراق …. لقاءات  وإستقبالات  لوزير الخارجية الإسرائيلي في عواصم عربية … سرية وغير سرية …. لا تنتهي , وإجتماعات …  وإلتقاط الصور التذكارية في واشنطن وغيرها         ….والكل ” يغرد ” على ليلاه….  والقادم  أعظم .  هنا  ” حديثيقول :

إذا ابتليتم فاستتروا

أما الشعر إبراهيم المنذر فيقول :

يُقضى على المرء في أيامِ محنتهِ **حتى يرى حَسَناً ماليسَ بالحَسَنِ .

أصبحنا اليوم في أمس الحاجة للعلاقات والإتصالات الدولية وإحيائها وتشغيلها , بتحريك كافة الفعاليات والصداقات التي نملكها , وسبق ان تضامنت على هذه الخلفيات التاريخية المذكورة أعلاه وبنينا عليها طوال سنوات…. و” قاتلنا ” بحرابها .

كذلك ضرورة إعادة تفعيل الاليات الدبلوماسية الفلسطينية ” المتهالكة”  في معظمها , وإعادة تاهيلها …. لان جل إهتمامات القائمين عليها اليوم تنحصر عند اكثرهم في الحصول على جواز سفرأو على الاقل هوية إقامة دائمة ….. ودراسة الأولاد … وتأمين الوظائف للأولاد … وتوفير الخدمات والإمتيازات الدبلوماسية للأولاد …. من سيارات , وشراء بيت … وغيرها …. لأن الجميع في مهمة …الأولاد ومشتقاتها ….  

عودة للدور اليوناني وشخصية بابندريو .. ودوره في دعم القضية الفلسطينية .وما يمكن أن نبنيعليه …

تمهيدا لمتابعة الوضع الحالي في اليونان , بعد الإنتخابات الأخيرة والتي عصفت ” بمخلفات  ” السنوات السابقة  , الأمر الذي سنوليه إهتمامات خاصة على صفحات مركز الناطور للدراسات والأبحاث . حيث قدم رئيس الوزراء  الجديد برنامجه للمرحلة القادمة , واشار إلى الأولويات ….

الامر الذي يتطلب من القائمين على التخطيط ورسم السياسات الفلسطينية  على الساحة الدولية في الوطن , ومهمة الإشراف على الأداء الدبلوماسي الفلسطيني المتعثر في معظمه !!!

إعادة النظر في ملفات قديمة  إنتهت صلاحياتها … واصحابها …. وللحديث بقية . 

أندرياس باباندريو  

كان أندرياس باباندريو رافضا لإنتماء اليونان وقبولها في عضوية المنظومة الاوروبية قبل وصوله الحكم 1981 . ثم انخرط فيها وفرض شروطه … وكان سياسيا من العيار الثقيل في هذه  المنظومة , كما في غيرها .

ليس في بلده وأوروبا وحسب , والأهم في الساحة الأمريكية ايضا وبإمتياز , حيث عمل في جامعاتها ومراكز أبحاثها وله العديد من المؤلفات والابحاث , قبل عودة الديموقراطية لليونان في 24.7.1974 قبل 45 عاما , حينما فشل العسكر في محاولة الإنقلاب ضد مكاريوس . وعودة باباندريو لليونان وتاسيس الحزب الإشتراكي .

الجدير بالذكر أن الآباء المؤسسين للوحدة الأوروبية , بداية بالجماعة الأوروبية للفحم والحديد بموجب معاهدة باريس 1951 وتوقيعها من جانب 6 دول بدءا من المانيا وفرنسا …الخ . تعتبر الجماعة اول منظمة تستند إلى مبادئ أعلى من مبادئ القوميات …. وليس جعل الحرب لا يمكن تصورها فحسب , بل جعلها مستحيلة ماديا …

في ظل هذه المفاهيم إستعانوا بالفلسفة اليونانية وتاريخ اليونان …. وإذا كانت إمبراطورية جنكيز خان وتيمورلنك , التي لم تترك خلفها سوى أكداس الجثث ونزف الخراب …. تركت الهيلينية أثرا بُينا في كل حضارة , وملامح عمران وثقافة في كل مكان .

بيت القصيد …

كان الشعور العميق لدي هؤلاء المؤسسين مبكرا ….  ان الحديث عن …تعاون …. اوروبي ولاحقا  مع نضوج المشروعالأوروبي وتطوره بإتجاه الوحدة الأوروبية , لا بد للدولة اليونانية الحديثة أن يكون لها مقعدها في القاطرة الأوروبية  , وهذه المشاعر الأوروبيةالعميقةسرُعت في عضوية اليونان لاوروبا  ( رغم شروط الإنضمام لديها لم تكن  ناضجة بعد ) لأن  الآباء …. التي يعتبرونها أم الحضارة الغربية , التي بدأ فيها الشعر والرواية والفلسفة وعلم السياسة وفضائل الجمهورية والمسرح والرياضة الجماعية ( الدورات الأولومبية )  …. كانوا مصممون على إستكمال مكونات ” أيقونة ” الوحدة الأوروبية وفلسفتها …

وفي نظرة سريعة  ( للهيلينية ) خارج اليونان في امريكا على سبيل المثال ” لوبي ” يوناني قوي . سبق له وأن أوصل اليونانيسبيرو اجنيونائبا للريئس الأمريكي نيكسون   ( وتم إزاحته لاحقا عن منصبه )  وكان على ابواب تولي منصب الرئاسة ….. بعد فضيحة نيكسون وإستقالته .

كذلك حاكم ماساتشوستس السابق اليوناني مايكل دوكاكيس، مرشح الحزب الديمقراطي في انتخابات الرئاسة عام 1988وخسر الإنتخابات .. امام جورج بوش الأب .

كانت هذه العلاقات , والإمكانيات للوبي اليوناني في امريكا تصب في صالح السياسي المخضرم أندرياس بابندريو في مسيرته الطويلة في القيادة اليونانية والأوروبية … وبعد توليه الحكم في اليونان 1981 كانوا ياتون للحجإلى اثينا للتنسيق والتعاون معه في رسم وتخطيط السياسات , وطرح اولوياته على الساحة اليونانية والإقليمية والدولية ….

وهنا كان للقضية الفلسطينية  نصيب في هذا النسيج السياسي اليوناني من العلاقات الدولية …  

العلاقات التي حصدناها في الاوقات المبكرة والصعبة ….

بنضال أجيال فلسطينية جاءت إلى هذا البلد  للدراسة في الستينيات وبداية السبعينات وفي ظل الدكتاتورية اليونانية  … عملت بصمت لكن بإصرار  في هذه الظروف الصعبة….  وبنينا على إنجازاتها إلى حد كبير في الوقت الذي بدات إهتمامات  الزعيم اليوناني بالحركة الفلسطينية , وارسل رسله إلى قبرص  , وكانت ارض رحبة للمعارضة اليونانية على إختلاف مشاربها …. وفي ظل ترحيب مكاريوس لها الذي كانت علاقاته مع النظام في اثينا عدم الثقة المتبادل … للإطلاع ومعرفة التطلعات الفلسطينية المشروعة , وزارت وفوده بيروت وأقامت علاقات هامة ….

ولعبت هذه الشخصيات اليونانية في فترات لاحقة ادوار سياسية هامة ... وكم نحن في امس الحاجة إليها اليوم . 

لكن الأهم في هذا السرد التاريخي السريع  … الولوج في احداث العصر , وكفلسطينيين , نتوقف في محاولة إجترار أحداث لها اهمية خاصة في علاقاتنا الدولية تتذكره  الأجيال القادمة مثل اللقاء التاريخي الأول بين اندرياس باباندريو وياسر عرفات…. وكليهما قامات سياسية لا تضاهى.

كانت هناك دعوة من حزب البعث السوري لأندرياس باباندريو زعيم الحزب الإشتراكي وزعييم المعارضة في البرلمان اليوناني عام 1975 .

إتصل بي أندرياس باباندريو وأبلغني بموعد الزيارة  وإستبقته إلى دمشق ( للتحضير ….) الذي وصلها على راس حزبي كبير .

كان ياسر عرفات ذلك اليوم الذي تمكن فيه أندرياس باباندريو من إيجاد الفرصة الممكنة لهذا اللقاء …. في ظل برنامج ملئ بالزيارات …. يعد العدة للتوجه للمطار في رحلة رسمية إلى موسكو وكانت الطائرة السوفييتية رابضة على ارض المطار في إنتظاره والوفد المرافق له .

وبهذه الحجة حاول ابو عمار رحمه الله  تاجيل لقائه مع اندرياس باباندريو لفرصة اخرى تكون اكثر مناسبة للطرفين       ( ولا أريد هنا الان ان اقول لم يكن أبو عمار  راغبا بذلك رغم إبلاغي له أهمية ذلك اللقاء فبل زمن كاف … والله اعلم )

وهنا أكثر من تفسير …. هل كانت رغبة أبو عمار وتفضيله  لقاءات من عيار رؤساء بلاد أو حكومات …..ويفضلها على زعامات من  المعارضة تجنبا لمماحكات الأنظمة في الحكم …. وكاننا في دول العالم الثالث …...؟؟؟

رغم إتمام اللقاء أخيرا في مكتب القائد الفلسطيني المعروف بإسم ال 23  بالطريقة الممكنة …. ومعنى ذلك  واهمية ذلك…. ولو لإلتقاط الصور التذكارية …. ( وكنت قد ألمحت للزعيم اليوناني لدي وصوله وقبل صعوده إلى المقر , ان هناك طائرة في إنتظار ياسر عرفات للسفر إلى موسكو ) بدون زيادة ولا نقصان وتركت الإمور تأخذ مسارها .. وفهمها … الذي يحمل من معنى .… إيجابي بطبيعة الحال .

إستغرق اللقاء أكثر من ساعة , وصار له تغطية واسعة ليس على الساحة اليونانية , لكن على مستوى أوروبا … وأمريكا . لمست ذلك من ” زحمة ” الصحافة والمراسلين الأجانب الذين رافقوا باباندريو على الطائرة , والتي إنبهر منها ياسر عرفات نفسه .…. وكانت علامات الرضى واضحة على محياه بعد اللقاء وباباندريو ايضا .

وعلى  هامش الزيارة والتواصل مع قيادات فلسطينية إلتقى في مساء اليوم نفسه بالأخ ابوجهاد  في منزله وبمشاركة ابو الوليد  سعد صايل رحمهم الله جميعا لمزيد من الحوار …. ولدي مغادرته المنزل وقبل توديعه  سالني إذا كان لديهم وقتا في الغد لمواصلة الحديث … وهذا حصل في الليلة الثانية واعتقد انه غادر سوريا اكثر دراية وخبرة في الشان الفلسطيني .

لتسجيل هذه المسيرة وتوثيقها ربما يحتاج الامر  إلى اكثر من  كتاب …. إذا بقى في العمر بقية .

وختاما

هذا الفصل السريع يذكرني ما حدث في احد خطابات  باباندريو  ” النارية ” عشية إنتخابات 1981 الذي فاز فيها باغلبة مطلقة حيث قال وسط الحشود الغفيرة وقدد ألهب الجماهير الانتخابية برؤيته عن يونان حرة من الإذلال الأجنبي : 

( ساعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية …. وسيكون لها بعثة دبلوماسية …. هاجت وماجت الجماهير بالهتاف والترحيب اكثر من أي وقت سبق …. )

واضاف قائلا سادعو الرئيس ياسر عرفات لزيارة رسمية لليونان ….. وراحت الجماهير اليونانية تهتف لفلسطين واصواتها  تشق عنان السماء …. كانت لحظات تاريخية حقا ويصعب وصفها …

بعد يوم او أكثر تم الإتصال معي طالبا حضوري على عجل … اخبرني في ذلك اللقاء بوجود وفد من الكونجرس الأمريكي               ( 4 أشخاص )  في زيارة لليونان , ومتابعة التحولات السياسية المنتظرة قائلا ( هذه الزيارة من عادات وتصرفات الأجهزة الامريكية ) واضاف :

دار النقاش حول تصريحاتي بالإعتراف بالمنظمة الفلسطينية  …. لم يذكروا أي وصف لها … لا فلسطينية … ولا إرهابية …. الامر الذي لم أكن اسمح به على اي حال .

وفي نهاية المقابلة مع الوفد الأمريكي قال لهم : أنا اليوم أدعو ياسر عرفات لليونان , وسوف ياتي اليوم الذي ستدعون ياسر عرفات ورجاله إلى أمريكا والبيت الأبيض

.عاش باباندريو وتحققت رؤيته قبل رحيله عام 1996

زار ياسر عرفات ورجاله البيت الأبيض .

قال شاعرنا توفيق زياد :

تمشي وامشي والليالي بيننا     ستريك من يهوي ومن يظفر

* السفير ملحم مسعود من أسرة مركز الناطور للدراسات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى