#أقلام وأراء

السفير ملحم مسعود يكتب – الدبلوماسية … ورُسل المهمات الصعبة (5 )

السفير ملحم مسعود – اليونان 14.1.2021  

خيارات الدول للرُسل والمندوبين حسب المهمات واهمية المهمة , وقد لا تكون السفارات كافية لمثل هذه المهمات بإستثناء حالات خاصة … حيث ترى الدولة ضرورة إرسال رسول أو مندوب ذات شخصية متميزة لدولة هي في حاجة إلى التفاهم  والحوار معها على قضايا مزمنة اصبحت مصدرا للتوتر والتصعيد … مثل ( التجاور ) والتي تتشارك وتتشابك وتتداخل معها في الحدود , أو مياه الانهار … وربما البحار أو تواجد الأقليات في كلا الطرفين . ويكون إختيار هذه الشخصية من الأهمية بمكان على سبيل المثال : المعرفة التامة لأوضاع الدولة المجاورة وثقافته , وربما معرفته للغة الدولة , وأوضاعها الداخلية … أو يكون له جذور عائلية قديمة في المنطقة … و عوامل اخرى مهمة تؤهله بلا شك لضمان نجاح مهمته .

وهذا لايعني فقط للدول المجاورة وطبيعة الإختلافات … إنما أيضا مع بلاد ومناطق أخرى تشكل فيها حروب واحداث … تدهور العلاقات  معها … وربما لأسباب اخرى كتهديد الأمن والإستقرار في المنطقة من الأهمية في إختيار هذه الفئة من الرُسل والمندوبين … وتكون مثل هذه المهمات علنية ومعروفة , وربما سرية لاسباب سياسية مختلفة ( المنطقة العربية تعٍج بمثل هذا النوع … حدث ولا حرج … وهذه حكاية أخرى )  هنا نتذكر على سبيل المثال بعض الحالات التي إقترن نجاحها وشهرتها بأسماء الرُسل والمبعوثين التي اداروا دفة الإتصالات , والمفاوضات إلى أن تكللت مهماتهم بالنجاح .

وهذه هي بعض الأمثلة  :

فيليب حبيب ذو الأصول العربية،  والذي ينسب إلى والد لبناني .

المبعوث الأميركي إلى لبنان خلال العامين 1981 و1982، لما يتمتع به من خبرة طويلة في المهمات الخاصة كمبعوث خاص للولايات المتحدة الأمريكية إلى لبنان، والدور الذي لعبه في التوصل إلى ترتيب لوقف إطلاق النار بين القوات الإسرائيلية وقوات منظمة التحرير الفلسطينية، وكذلك المفاوضات التي أجراها خلال تلك الفترة حول اتفاقية للسلام مكونة من ثماني عشرة نقطة، تتضمن انسحاب القوات الفلسطينية والسورية من بيروت الغربية، وهو ما اعتبر إنجازاً استحق عليه تكريماً من الرئيس رونالد ريغان بمنحه، في عام 1982، ميدالية الحرية الرئاسية .

وعلى صعيد الشرق الاوسط ساهم في ترتيب لقاءات إسرائيل ومصر والولايات المتحدة … التي أفضت في النهاية إلى إتفاقيات كامب ديفيد . وعمل  فيليب حبيب رئيساً للوفد الأمريكي إلى محادثات السلام المتعلقة بالحرب الفيتنامية، والتي عقدت في باريس خلال الفترة 1969-1970 ضمن مهمات اخرى ..

زلماي خليل زاده … البشتوني الأصل

الأفغاني الأصل المولود في مدينة   مزار الشريف الأفغانية لأب يعمل في الحكومة التي كانت ملكية آنذاك، وانتقل مع أسرته التي تنتمي إلى طبقة عليا إلى كابل... واتم دراسته الجامعية في الجامعة الامريكية في بيروت ( الرئيس الحالي لأفغانستان أشرف غني أحمدزي درس في الجامعة الأمريكية في بيروت … ومتزوج من لبنانية )

  ثم أتم دراسته في  شيكاغو عام 1979العام الذي غزا فيه  الإتحاد السوفييتي بلاده … وتنقل في المواقع العلمية في الجامعات الامريكية و ثم العمل في وزارة الخارجية مستشارا لشؤون الحرب الإيرانية العراقية والغزو السوفييتي لأفغانستان … الخ.

وكان تكليفه بمنصب سفير الولايات المتحدة في أفغانستان مباشرة بعد الغزو الأميركي قبل أن يعين سفيرا في العراق... ثم الممثل الخاص للمصالحة في أفغانستان ضمن مهمات عديدة في المنطقة . 

دبلوماسية البنج بونج  

أما الحكاية الأهم والأشهر  في تاريخ المهمات الدبلوماسية ( السرية ) هي الرواية التي نحن بصددها كانت لهنري كيسنجر ودورهالبطوليفي حبك القصة وإخراجها و نجح فيها بالتخفي في مهمته السرية  لضرورة نجاحها  … وتفاصيلها بوليسية ومشوقة …

كانت العلاقات الأمريكية بين الصين والولايات المتحدة مقطوعة إن لم تكن متدهورة منذ عقود … واذكر خلال زيارتي للصين ضمن وفد من الإتحاد العام لطلبة فلسطين بدعوة رسمية من جمهورية الصين عام 1964 كنا نسمع عبارات دارجة في نعت و وصف الولايات المتحدة اقلها ” نمر من ورق ” طبعا كان هناك من يقول لكن انيابه ذرية  …

( وطالما الشئ بالشئ يذكر … كان  قد سبقنا في زيارة الصين وفد من حركة فتح يقيادة ياسر عرفات وعضوية أبو جهاد وشخصية فلسطينية ثالثة !!! … كما زار الصين ايضا في نفس العام الصحفي والكاتب  الفلسطيني ناصر الدين النشاشيبي , والًف كتابه  ” عربي في الصين “ الصادر في بيروت  وكنت قد تمكنت من الحصول على نسخة منه قبل سفري إلى الصين وقرات الفصول الاخيرة منه على الطائرة في طريقنا إلى الصين . اما أول زيارة فلسطينية رسمية كانت لرئيس منظمة التحرير الفلسطينية بعد تاسيسها احمد الشقيري في مارس 1965 حيث إستقبل من قبل الزعيم الصيني … ماو تسي تونج وتم الإعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية … ) كل هذا يدل على الإهتمامات الصينيةوإنفتاحها على العالم , كذلك بحركات التحرر الواعدة خصوصا بعد مؤتمر باندونج في إندونيسيا عام 1955بحضور وفود 29 دولة أفريقية وآسيوية، واستمر المؤتمر لمدة ستة أيام، وكان النواة الأولى لنشاة حركة عدم الانحياز والتعارف والحوارات للزعيم الصيني شوان لاي مع الزعيم المصري جمال عبد الناصر وغيره … ساعدت في تدشين هذه المرحلة من سياسات الصين الخارجية والعربية ).

 كما هو معروف فالدبلوماسية هي ( العتلة … والوسيلة ) الضرورية التي ترفع وتعمل على تقريب وتسيير وتدوير السياسات … مستفيدة من كل الإمكانيات والظروف والفرص المتوفرة …  حتى حانت فرصة هامة لكل الأطراف التي نتحدث عنها ( أمريكية وصينية ) في حكاية :

دبلوماسية …البنج بونج   

التي بنى عليها الطرفينكفرصة في لقاءات ومباحثات سرية , طويلة ثم علنية … وزيارات … وإعترافات … مازال جيلنا يتذكرها , كذلك ايضا   كيف كانت دعوة الفريق القومي الرياضي الأميركي للبنغ – بونغ (كرة الطاولة) إلى بكين .

كُتب الكثير من التوقعات والتحليلات حول  دبلوماسية ( البنغ – بونغ ) في إطار التوافق مع حقيقتين دوليتين .

الأولى هي سياسة الرئيس الاميركي نيكسون لتحسين العلاقات مع الصين المرسومة عام 1969 والموضوعة في ضوء الاعتبارات الاستراتيجية الأميركية بعد الهزائم المتتالية في فيتنام , ووضوح النتائج السلبية  المحلية و الكونية لذلك بالنسبة لهيبة أميركا الدولية ، وما لذاك من أثر على التوازن الاستراتيجي مع الاتحاد السوفييتي ، وبالتالي وضوح حاجة أميركا إلى تحالفات دولية جديدة للمحافظة على التوازن الاستراتيجي في منطقة جنوب شرق آسيا وعلى الصعيد العالمي .

أما الحقيقة الثانية ، فهي الخطة او الطموح الصيني للعب دور دولي أكبر وعقد تحالفات جديدة  يكون فيها التقارب مع الولايات المتحدة حجر الزاوية وذلك لتعزيز الموقف الصيني في ضوء تطور الصراع الصيني السوفييتي( حينذاك ) وتفاقمه وهكذا أخذ الموقفان الصيني والأميركي يتحركان بعد عقدين من المقاطعة . وقد تمثل ذلك في تصريحات على لسان المندوب الأميركي ومن ثم المندوب الصيني في الجولة 135 ‏من المباحثات الصينية الأميركية في وارسو ( و التي كانت قد بدأت في جنيف عام 1954‏على أثر الحرب الكورية ) في مطلع عام 1970، ومن ثم سلكت محاولات التقارب أقنية  دبلوماسية سرية أخرى على يد الباكستانيين والرومانيين خوفاً ، إما من الاستغلال ‏والإحراج على يد أحد الطرفين أو من العرقلة على يد السوفييت أو الفيتناميين .  ويذكرهنري كيسنغر في مذكراته أن الأميركيين لاحظوا بكثير من الاهتمام أن الصين بدأت منذ عام 1969تحركاً دبلوماسياً واسعاً بعد الشلل الذي أصاب علاقاتها بالعالم الخارجي أثناء الثورة الثقافية ، فأخذت تعيد تعيين السفراء وتقييم علاقات دبلوماسيته مع دول لم يسبق لها أن تبادلت التمثيل الدبلوماسي معها ، وأقدمت على تحسين علاقاتها ببريطانيا واليابان و مع دول أوروبا الشرقية وقد فسرت وزارة الخا رجية الأميركية ذلك بأن الهدف ربما كان حشد الدعم لدخول الصين الأمم المتحدة  

وقد أكد  شو إن لاي ( القائد الفعلي للدولة الصينية حينذاك) ذلك في مقابلة له مع القائم بالأعمال البريطاني وفي آذار – مارس 1971 .

كما أخبر شو إن لاي وزير الخارجية الياباني الأسبق إياشيرو فيوجياما بأنه من الممكن أن يحصل تحسن درامى مفاجئ في العلاقات الصينية –  ‏الاميركية .

واشار في سياق الحديث إلى أنه لاحظ إقدام الرئيس نيكسون على تسمية الصين باسمها الرسمي ( جمهورية الصين الشعبية ) في تقريره حول السياسة الخارجية الأمريكية ، وذلك ما لم يفعله أي رئيس أميركي ‏من قبل و في هذه الفتره أقدمت الصين لأول مرة منذ سنوات، على إرسال فريق لكرة الطاولة ( البنغ بونغ ) للمشاركة في المباريات الدولية هناك رغم وجود مصاعب في العلاقات الصينية اليابانية .

وفي نهاية الدورة قدم الفريق الصيني دعوة للفريق الأميركي لزيارة الصين .

وعلى الأثر راجع رئيس الفريق الأميركي السفارة الأميركية في طوكيو وكان الرأي هو قبول الدعوة فوراً و قد تمت هذه الزيارة في نيسان – أبريل  1971، فاستقبل الوفد استقبالاً وصف بمنقطع النظير وسط اهتمام عالمي كبير لما تتضمنه هذه الدعوة وهذا الاهتمام من تغيير جوهري في العلاقات الدولية وقد توج الصينيون اهتمامهم بالوفد عندما استقبل شو إن لاي أعضاء الوفد في قاعة الشعب الكبرى ، و اتضح هدفه عندما فاجأهم بالقول ان زيارتهم دشنت عهداً جديداً من الصداقة التي تحظى بتأييد الغالبية العظمى من الشعبين .

وكانت استجابة الحكومة الأميركية للبادرة الصينية فورية ، إذ أعلنت الحكومة على لسان الناطق الرسمى بأن الإدارة قررت إباحة التجاره والسفر مع الصين ، وأن ذلك القرار يجىء ضمن إطار السياسة المرسومة عام 1969،.

إلا أن دعوة الفريق الأميركى ( للبنغ بونغ ) أسهمت في التعجيل في الوصول إلى ذلك القرار ويذهب كيسنغر في تفسير لجوء الصين إلى دبلوماسية الرياضة وكوسيلة لتحقيق التقارب ، إلى أن تلك الخطوة عبرت عن التزام الصين في تحسين العلاقات مع أميركا وأكدت بشكل أعمق مما يمكن أن تعبّرعنه من خلال الأقنية الدبلوماسية السرية ، أنها سوف تحسن وفادة أي مبعوث أميركي إلىبكين هذه الحالة لم تنشأ ضمن إطار الدبلوماسية المثلثة الأضلاع مع الاتحاد السوفييتي ، إذ ‏سرعان ما أدت ( دبلوماسية البنغ بونغ ) إلى زيارة الرئيس نيكسون للصين الشعبية ونمو العلاقات الصينية الأمريكية بما يخدم الأهداف الأميركية و الصينية إزاء تعاظم النفوذ السوفييتي في العالم.

مجموعة الخطوات والأحداث والأساليب السياسية التي أدت إلى التحاور العلني في اتجاه إنهاءالقطيعة وتوليد التقارب في العلاقات الأميركية – الصينية ، وبالتالي إحداث تغيير أساسي في العلاقات الدولية من خلال الأهداف الأميركية و الصينية إزاء تعاظم النفوذ السوفييتي في العالم .

تجدر الاشارة إلى أن كيسنجر كان قد قام بزيارة سرية إلى الصين في يوليو 1971، والتي قال عنها بعد سنوات إنها كانت تهدف إلى “اعادة الاتصال بدولة محورية فى تاريخ آسيا والتي لم تجر اتصالات رفيعة المستوى معها ( الولايات المتحدة ) منذ 20 عاما“.
وقد مهدت زيارة كيسنجر لزيارة الرئيس الامريكى ريتشارد نيكسون الهامة للصين … حيث تعاون الزعيمان الصينيان ماو تسي تونج وتشو ان لاي مع نيكسون وكسينجر لفتح الباب للعلاقات الصينية-الامريكية كما كانت هذه الزيارة تمثل بداية فصل تاريخى فى تحسين العلاقات الصينية الامريكية ونموها، وكان لها تأثير ايجابى للغاية وبعيد المدى على العلاقات الثنائية … والعالم .

ثم اقامة العلاقات الدبلوماسية الصينية الامريكية فى وقت لاحق1972. ..
هذا ضمن حكايات ومهمات دبلوماسية اخرى … علنية وسرية .

وللحديث بقية

السفير ملحم مسعود

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى