#أقلام وأراء

السفير ملحم مسعود يكتب – الدبلوماسية … والعلاقات الدولية 3

بقلم السفير ملحم مسعود – 10/12/2020

أصبحت الدبلوماسية تشكل للدول على إختلاف نظمها حجر الرحى في علاقاتها الدولية , لا يوجد مبدئيا ما يُلزم المؤرخين بتبني هذا التفسير او ذاك للأحداث الدولية . ففي حين يميل رجل القامون مثلا عندما يجد نفسه أمام مجموعة من الظواهر غير المميزة إلى تفضيل الأحداث والتصرفات التي يحكمها القانون , وهنا يبقى المؤرخ محايدا نظريا أمام أحداث الماضي وذلك على الأقل من وجهة نظر معالجتها المنهجية العلمية . لذا كان ينبغي أن ننتظر التاريخ أن يقدم لنا عرضا للأحداث الدولية لا يخضع بالضرورة لوجهة نظر الفلاسفة أو القوانين … لكن الواقع على نقيض ذلك إذ تبنت كثير من الكتب التدريسية و التاريخ المتخصصة في هذا المجال وجهة نظرهم إن لم يكن ذلك صراحة فضمنا على الأقل . ويظهر تطور محسوس في هذا الميدان إذا  ما وازنا بين أعمال المؤرخين من أنصار ( التاريخ الدبلوماسي ) المعزول عن محيطه عن عمد وأعمال المؤرخين وأعمال من انصار ( تاريخ العلاقات الدولية ) الذين هم اكثر إنفتاحا للظواهر الدولية واكثر حيدة في تفسيرها .

في نظرة سريعة على تاريخ الدبلومايبة , شكلت  العلاقات الدولية خلال زمن طويل ميدانا لبحث المؤرخين المتخصصين مما أدى إلى ظهور التاريخ الدبلوماسي الذي قام في البدا على حجة فنية لا يمكن مناقشتها … ويجب تجاوزها .

وإذاعُدنا قليلا لتعبير ( الدبلوماسية ) فقد تعددت تعاريف الدبلوماسية، وتستخدم الكلمة للإشارة إلى معانٍ مختلفة لدرجة يصعب جمعها كلها في تعريف واحد، فقد إختلف المهتمون من أساتذة القانون الدولي والعلاقات الدبلوماسية في تحديد معنى الدبلوماسية وذهبوا في ذلك مذاهب شتىى …

وربما الأكثر دقة هنا  فهي  مشتقة اصلا من أصل الكلمة اليونانية ( دبلوما ) وما زالت تستخدم في اليونان بمعنى شهادة… أو وثيقة ما … مثل رخصة قيادة السيارة أوشئ من هذا القبيل على سبيل المثال … الخ. وإستخدم هذا التعبير في الماضي بانها  ( الوثيقة المطلوبة عن أصحاب السيادة ) والدبلوماسيون هم بالتالي ( الأشخاص المؤهلون لنقل هذه الوثائق ) . أما مهمة التاريخ الدبلوماسي فتنصرف إلى جمع الوثائق الدبلوماسية والتعليق عليها . والوثائق الدبلوماسية هي مجموعة الوثائق الرسمية والعلنية و التي تخص في  تداولها الأمراء وكبار القوم بعضهم بين بعض أو بمن يمثلهم في الخارج . 

ولأهمية ذلك كانت تتطلب دراسة خاصة تسوغ على ما يبدو إستقلالية التاريخ الدبلوماسي عن علم التاريخ.  .

ومع هذا الإهتمام توسع حيز تحقيقات المؤرخين المتخصصين ليشمل مجموع العلاقات الخارجية . وبإختلاف الفترات التاريخية والظروف كانت الأهمية تولى إما لإعتبارات جلوس العائلات المالكة على العروش أو لإعتبارات عسكرية او سياسية . إلا أن التاريخ الدبلوماسي ظل تاريخ العلاقات الخارجية للدول او لحكومات الدول بتعبير ادق .

وبدا  واضحا إختلاف هذا المنظور الضيق للتاريخ في بدأ القرن التاسع عشر … حيث طرأت التغييرات على العلاقات بين الدول التي غدت لا تقتصر على التصرفاتالحكومية البحتة , بل تجاوزتها لتشمل الحركات الإجتماعية والمذهبية التي لم تستوعبها الدبلوماسية ( القديمة) الخاصة بشعوب في حالة رقود .

وإذا كان المؤرخون لم يتنبهوا إلى هذه التحولات فورا فلأسباب عدة … فقد إستمر الخلط بين الدبلوماسية والسياسة الخارجية والعلاقات الدولية على صعيد الوقائع خلال زمن طويل وعلى الأقل حتى الحرب  العالمية الأولى . وإذا ظهرت بعض العوامل التي هددت إحتكار الحكومة لسلطة إتخاذ القرار خلال القرن التاسع عشر كحركة القوميات في ألمانيا و إيطاليا فقد عدت حالة طارئة . وبقيت أوروبا أسيرة صيغ دبلوماسية تؤمن تسلط هذه الدولة أو تلكأو تكرس المهارة المتفوقة لهذا الرجل السياسي أو ذاك … ولا تطرأ التغييرات فيها إلا عندما يتم تبدل نظام سياسي بنظام آخر ومثال ذلك إنتهاء نظام ” مترنيخ ” بنظام  بسمارك ” وما دام المؤرخ لا يقوم بتجاوز هذا المظهر الخارجي ليبحث في الكواليس عن الدوافع الحقيقية لقرارات الحكومات على غرار ما يفعل  ” الماركسيون ” فإنه يلتزم بالوصف الرسمي الحكومي للأحداث  ويخلط بالتالي تحت إسم التاريخ الدبلوماسي بين دراسة السياسة الخارجية ودراسة العلاقات الدولية .

وظهرت تحولات فرضت منطقيا على المؤرخين تغيير منظورهم , فلقد نتجت عن صدمة الحرب العالمية الأولى وما تبعها , شروط لا  تسمح بالمزج بين العلاقات الدولية والمناورات الدبلوماسية , إذ أدى ظهور نماذج جديدة للدولة ذات ايديولوجية ثورية كالإتحاد السوفيتي في روسيا والنظام الوطني الإشتراكي في ألمانيا إلى تغيير قواعد العلاقات الدبلوماسية تغييرا واضحا , وإتسع ميدان العلاقات الدبلوماسية التقليدية لتغييرا واضحا لدول فاعلة على الصعيد الدولي من آسيا وأفريقيا .

وشجعت التحولات التي طرأت على منهج البحث التاريخي على التغيير … وحل بذلك تعبير تاريخ العلاقات الدولية محل تعبير التاريخ الدبلوماسي  . ويشير التعبير الجديد إلى الرغبة في فهم الظاهرة الدولية من جميع جوانبها وليس من زاوية العلاقات الدبلوماسية فقط .

ملخّص القول  … وبعد هذا التحليل التاريخي  المختصر أصبحت الدبلوماسية اليوم … أو العلاقات الدولية ذات مـفـهـوم مـتعـدد الجوانب والإستخدامات، وأنها مرتبطة بالأهـداف، ولم تعد تقتصر على العلاقات الثنائية بين الدول، بل امتدت لتشمل اتصالات الدول بالمنظمات الدولية والإقـلـيـمـيـة وغيرها من المؤسسات والوحدات السياسية في المجتمع الدولي، وبالتالي :

إن الدبلوماسية أصبحت عملية سياسية مستمرة توظّفها الدولة من خلال ( آلة بشرية … نوعية ) بشكل رسمي في تنفيذ سياستها الخارجية وفي إدارتها لعلاقاتها مع غيرها من الدول والأشخاص الدولية الأخرى .. وهذا حديث آخر.. 

وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ

وللحديث بقية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى