السفير ملحم مسعود يكتب – الحكاية الأوروبية (1)
السفير ملحم مسعود – اليونان 23.7.2020
اخيرا إجتمع قادة اوروبا وجها لوجه في بروكسل بعد تدابير الإغلاق المتشددة التي فرضتها أغلب الدول الأوروبية لبحث سبل دعم الإقتصادات الوطنية المتضررة من جائحة فيروس كورونا وجاء في العنوان الرئيسي لجريدة “لوموند ” الفرنسية : ميركل في خط المواجهة الأول … وعن القمة :
القمة الأوروبية :
“لم يكن أحد يتصور قبل 4 شهور أن تصبح المستشارة الألمانية في مقدمة المدافعين عن خطة إنعاش مقترحة بهذا الحجم 750 مليار يورو، من القروض تسدد بتسهيلات لمن يطلبها … ومنح لن يتوجب إسترددها من الدول المستفيدة منها وهي الاكثر تضررا مثل إيطاليا وإسبانيا .
وفي قاعة إجتماعات الزعماء الأوروبيين , التي تم تجهيزها بما تتطلبه الإجراءات المتخذة , سادته اجواء إنشراح , كبداية طيبة وقبل ( الإجتماعات المصيرية التي إستمرت أربعة أيام واربعة ليالي متتالية … كانت حامية الوطيس ) عندما إنهالت الهدايا على المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي كانت قد إحتفلت بعيد ميلادها ال 66 وسط إحتفاء وتكريم قادة وزعماء الإتحاد ( وطلب الرضى … ) وقدموا لها الهدايا على مختلف أنواعها … المشروبات الفرنسية … والتورتا النمساوية التقليدية التي صُنعت خصيصاً للأمير ” كليمنس فون مترنيش “ الذي ترأس قمة مهمة في عهده لتقسيم أوروبا بعد حروب نابليون …
وشاهد القوم أيضا … ما يجري داخل قاعة انعقاد القمة وبينما كانت الكاميرات لا تزال تنقل وقائعها، انتحى رئيس الوزراء البلغاري، بويكو بوريسوف، بميركل، ليريها علبة هدية تحمل قارورة فضية من زيت الورد، بينما بدا وهو يشرح لها تفاصيلها بدقة .
وتبادلت ميركل رئيس وزراء البرتغال، أنطونيو كوستا، الهدايا بينهما. ووفقاً لناطق باسم الحكومة الألمانية، أهدت المستشارة رئيس الوزراء البرتغالي صورة طبق الأصل من خريطة لمدينة ( غوا ) في الهند يعود تاريخها إلى القرن السابع عشر. وكان أسلاف كوستا من ناحية الأب ينحدرون من جوا، المستعمرة البرتغالية السابقة. كما حصل كوستا من ميركل على قائمة معروضات أحد المعارض في متحف التاريخ الألماني في برلين عن البحارة البرتغاليين.
إنها اوروبا … حكاية لا تنتهي , وسوف نعود لتفاصيل إجتماعات تلك الأيام و الليالي الطويلة , قبل رؤية الدخان الأبيض … وتكون لأول مرة في تاريخ التكتل، خطة تمويل بواسطة قرض جماعي، تضاف إليها ميزانية طويلة الأمد للاتّحاد الأوروبي (2021-2027) بقيمة 1074 مليار يورو، وكيف رحب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالتوصل إلى الاتفاق معلنا في تغريدة أنه : “يوم تاريخي لأوروبا “
ونعود لحكايتنا الأوروبية …
عندما إندلعت الحرب العالمية الثانية , كانت وأنها تـُكمل عمل لزوم ما يلزم من اجل إستقرار عالمي حقيقي , رغم كل المآسي الإنسانية التي لحقت بعالمنا , وتداعيات ما زلنا نعيشها … ونتعايش معها , وإذا تركنا تطورات وإنجازات علمية واخرى كثيرة , أتوقف هنا إلى ما آلت إليه الآلة العسكرية والتطور المستمر مما جعلت هذه الصناعة ” تتحكم ” في السلاح وحصاد الأرباح والأرواح . .. وأتذكر ما قاله الرئيس الامريكي ايزنهاور (رئيسًا لأمريكا من 1956 إلى 1961) في خطابه الوداعي الاخير في نهاية ولايته الذي حذر فيه من خطورة ( المجمع العسكري _الصناعي ) في امريكا كما قال إن نزع اسلحة الدول , مع حفظ كرامتها وامنها , هو امر ضروري واساسي … معا , سوف تتعلم كيف نسوي خلافاتنا من دون إستخدام اسلحة … الخ .
العودة إلى اوروبا … ونفس الموضوع عندما خرجت اوروبا من الحرب العالمية الثانية بتركة سياسية مثقلة , دفعت ساسة فرنسا وألمانيا إلى النظر في كيفية الحفاظ على السلام المستقبلي من خلال فكرة التكامل بين الدولتين لدرء الحرب بينهما … وهو ما اسفر عن سلسلة من المبادرات التكاملية المختلفة والهامة , اعطوا أهمية خاصة وربما ألأولوية لمبادرة فرنسا لإنشاء ” جماعة الفحم والصلب ” ( الفولاذ ) ومن جانبها كانت فرنسا تهدف من هذه المبادرة السيطرة على صناعة الصلب التي مثًلت المكوٍن الأول للصناعات العسكرية من خلال إيجاد إدارة فوقية تستطيع منها أن تضمن لها عدم خروج المانيا وتسلك طريق منفرد لإعادة بناء قواتها المسلحة … إنها ألمانيا .
بالفعل جرى إعلان تأسيس الجماعة بإنضمام إيطاليا ودول ” البنيلوكس ” الثلاثة ( بلجيكا , وهولاندا , ولوكسمبورج ) ليصار تنسيق السياسات ورفع الحواجز في تجارة هاتين السلعتين ... هذه هي البدايات
هكذا بدات الرؤية التي وضعها وبلورها لأوروبا ( الآباء ) المؤسسين وإستمرت الدول الست على تطوير التكامل في مجالات أخرى … مما فتح الباب على مصراعيه أمام حلم أوروبي تدريجي جديد، وهنا اختلفت بعض الآراء في الخطوة التالية. جان مونيه «مهندس» الجماعة كان يسعى للتحرك العرضي من خلال إيجاد مجالات أخرى للتكامل تدريجيًا، وبعض الآراء سعت لبناء اتحاد جمركي ، وهي الخطة التي تسبق السوق المشتركة عادة ، إلا أن الهولنديين كانوا الأكثر طموحًا إذ تقدّموا بمقترح لإنشاء جماعة اقتصادية كاملة أي مرحلة ( السوق المشتركة ) وامام هذه الطموحات المتسارعة وتعدد المقترحات قررت الدول الستة إنشاء لجنة خاصة عُرفت بإسم ” لجنة سباك ” نسبة إلى وزير الخارجية البلجيكي الذي كان اكثر المتحمسين لفكرة التكامل الأوروبي … اي ” السوق المشتركة” .
وقد دعت اللجنة أكثر من دولة للإنخراط والمشاركة والمفاوضات من ضمنها ” بريطانيا ” و تسارعت التطورات ولم تكن هناك اسبابا لإنتظار الحسابات والسياسات (المرواغة) البريطانية المعروفة … أما الجانب الألماني فقد كان “ أديناور” الزعيم الالماني أكثر طموحًا من مجرّد منطقة تجارة حرة فقد كان يسعى إلى سوق مشتركة أيضا ، فقد كان يريد أن يربط أوروبا برباط قانوني لضمان مستقبل التماسك الأوروبي والتنسيق المستمر بما يُبعد شبح الحرب على المدى الطويل، وقد كانت الولايات المتحدة في ذلك الوقت أكثر قبولاً لفكرة التكامل الأوروبي من أي وقت وشجعت هذه الخطوات , وقد خرجت ” لجنة سباك ” بمقترحين اساسيين :
الأول هو تاسيس ” الجماعة الإقتصادية الأوروبية ” والهدف منه التكامل الإقتصادي بين الدول الأوروبية بلا إستثناء.
الثاني تأسيس ” الهيئة الأوروبية للطاقة الذرية ” والهدف منه إنشاء مؤسسة أوروبية تدير الطاقة الذرية لضمان التكامل في هذا المجال خوفا من تصنيع تصنيع السلاح الذري في ذلك الوقت والتنسيق في سياسات الإستخدام السلمي للطاقة الذرية .
وعقب تبني الدول لمقترحات اللجنة ولتفعيلها بدات المفاوضات الجادة في عام 1957 والتي تمخضت في العام التالي على ” إتفاقية روما ” رغم خلافات على بعض التفاصيل الثانوية , بإعتماد أربعة هياكل أساسية تقوم على إدارة السوق لا تزال قائمة حتى يومنا هذا وهي :
مجلس الوزراء الذي يعد أعلى سلطة ويضع السياسات المشتركة عبر المفاوضات ومقره بروكسل . و اللجنة الأوروبية أو ” المفوضية ” وجرى إنشاء ” محكمة العدل الدولية ” مقرها في لاهاي وكذلك ” البرلمان الأوروبي ” ومقره في ستراسبورغ ( فرنسا ) ويعقد أيضا في لوكسمبورج وقد توسعت صلاحياته مع مرور الوقت وتكاثر” المشاريع ” السياسية وغيرها مثل الإشراف على اعمال المفوضية …
وسرعان ما بدا الإتحاد يتوسع تدريجيا ليضم اليوم 27 تسعى إلى إقامة فيدرالية اوروبية (بعد خروج بريطانيا) الغير مأسوف عليه .
وللحديث بقية
