أقلام وأراء

الذكرى (104) لوعد بلفور والارتباط العضوي بين إسرائيل والإمبريالية

نهاد أبو غوش 3/11/2021

لم يكن “وعد بلفور” حدثا أو حادثا منقطعا في التاريخ الاستعماري البريطاني لمنطقتنا، بل كان خلاصة وتعبيرا مكثفا عن المصالح الغربية الاستعمارية في منطقة الشرق الأوسط، وكان حظ فلسطين وشعبها، وقوع هذا البلد في قلب المخطط الاستعماري، قرب قناة السويس والطرق التجاريية والعسكرية إلى الهند والشرق، وفي مكان متوسط في قلب العالم العربي، حيث تركة الرجل المريض الذي كانت عليه الامبراطورية العثمانية المتفسخة وقتها، في انتظار من يتقاسم أملاكها بين مختلف الضواري الأوروبية.

إذن، لم يكن الوعد مجرد بيان لوزير الخارجية البريطاني في ذلك الوقت جيمس ارثر بلفور، والذي أعلن فيه أن “حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي”، فقد سبق بلفور إلى هذا الوعد كل من اللورد شافتسبيري في أربعينات القرن التاسع عشر، وكذلك فعل تشارلز هنري تشرشل (1828-1877) الذي شغل منصب قنصل بريطانيا في سوريا العثمانية، في نصائح لموسى مونتفيوري زعيم الجماعة اليهودية في بريطانيا في ذلك الوقت. علما بأن عدد اليهود لم يكن يزيد حينئذ عن 25 ألف يهودي في فلسطين. وفي العقود الأخيرة من عهد الدولة العثمانية الضعيفة ارتفع عددهم من خمسين ألفا إلى مئة ألف، كما تشير عدد من الوثائق والتقارير التي كشف النقاب عنها، إلى أن الرئيس الأميركي في فترة الحرب العالمية الأولى وودرو ويلسون كان من أشد الداعمين لإطلاق وعد بلفور، بل إنه ضغط على بريطانيا للتعجيل في إصدار هذا الوعد علما بأن اول من أطلق فكرة تاسيس دولة لليهود في المنطقة كان نابليون بونابرت.

ومن الدلائل الدامغة على تأييد الدول الاستعمارية الرئيسية لوعد بلفور الاستعماري، مسارعة عصبة الأمم إلى تضمين هدف إقامة “وطن لليهود في فلسطين” ضمن صك الانتداب الذي كلفت بريطانيا بتنفيذه، وبدا أن الغاية الوحيدة من انتدابها (استعمارها) لفلسطين والذي استمر ثلاثين سنة 1918-1948 لم يكن يهدف سوى لتنفيذ هذا الوعد المشؤوم، حيث تضاعف عدد اليهود في فلسطين خلال نصف قرن نحو سبع مرات، وتعرضت فيه الحركة الوطنية الفلسطينية الناشئة، والخارجة لتوها من ظلام التعسف العثماني، إلى أبشع أنواع القمع والاضطهاد والتنكيل بحيث نفذت بريطانيا آلاف عمليات الإعدام بحق الوطنيين الفلسطينيين، واعتقل عشرات الالاف وهجّر غيرهم، وهدمت آلاف البيوت والنشآت وسخرت كل إمكانيات الدولة العظمى في حينها لمصلحة المشروع الصهيوني الناشئ، كما أن بريطانيا المنسحبة من فلسطين سلمت سلاحها وعتادها ومنشآتها للعصابات الصهيونية ومكنتهم من الاستيلاء بسهولة على فلسطين.”

من الجدير ذكره أن أوائل منظري الحركة الصهيونية وقادتها تحدثوا بجدية عن خيارات عديدة لمكان إقامة الدولة اليهودية من بينها أوغندا والارجنتين وشمال شرق ليبيا وصحراء سيناء بالإضافة إلى فلسطين، التي لم يقو الخيار بشأنها أو يتعزز إلا في السنوات القليلة التي سبقت وعد بلفور.

عند مفترق القرنين التاسع عشر والعشرين، تضافرت ثلاثة عوامل تاريخية ساهمت مجتمعة في نشاة الصهيونية وبلورة خياراتها السياسية، وهذه العوامل هي: أولا تفكك الدولة العثمانية وطمع الدول الاستعمارية الرئيسية في السيطرة على ممتلكاتها الشاسعة، وانتقال النظام الراسمالي العالمي إلى طوره الامبريالي وابرز خصائصه كما شخصها لينين هي اندماج الرأسمال البنكي بالتجاري ونشوء رأس المال المالي، والاحتكارات ثم ضغط هذه الاحتكارات الكبرى على الدول لإعادة تقاسم العالم من جديد، وكذلك التحولات التي جرت على أوضاع اليهود في أوروبا وتاثيرها على جماهير اليهود لجهة تسريع اندماجهم وذوبانهم في المجتمعات الأوروبية من جهة، وخشية البرجوازية الصغيرة والمتوسطة اليهودية ( التي غالبا ما عملت في مراكز المدن في أعمال الصرافة والأعمال المالية وما ارتبط بها)   من انحدارها إلى مصاف الطبقة العاملة، من هنا نشأت فكرة إقامة الدولة اليهودية التي توفر حلا مزدوجا لمشكلة الذوبان من جهة، وتوفر للبرجواية اليهودية حلا في شبكة المصالح الامبريالية العالمية.

يجدر بنا أن نلاحظ عاملين بارزين وهما ارتباط قيادة الحركة الصهيونية دائما بالدولة التي تتزعم العالم الراسمالي: ترددها بين بريطانيا وفرنسا في بداياتها، ثم ميل بعض اتجاهاتها لألمانيا في مرحلة صعود النازية، وأخيرا حسم ولائها للولايات المتحدة الأميركية في مرحلة سيطرة هذه الأخيرة على العالم بعد الحرب العالمية الثانية.

المسألة الثانية هي أن الحركة الصهيونية في بداياتها لم تشمل اليهود الشرقيين، ففي المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا عام 1897،  ومن بين 300 مندوب في المؤتمر لم يشارك من اليهود الشرقيين سوى ثلاثة: اثنان منهما من القدس، والثالث هو حاخام مدينة الجزائر الفرنسي الأصل، في بدايات المشروع الصهيوني لم تشمل موجات الهجرة يهود المغرب والعراق واليمن وغيرها من بلاد الشرق، فقط في الخمسينات بدا الاهتمام بهؤلاء مع حاجة المشروع الصهيوني لمزيد من القوى البشرية، حتى أن يهود اثيوبيا (الفلاشمورا) لم يفكر أحد في استقدامهم الا في ثمانينات القرن العشرين حيث تعاون معهم في ذلك الوقت الرئيس السوداني الأسبق جعفر النميري.

الحركة الصهيونية ومشروعها، دولة اسرائيل، ليست سوى جزء من آليات السيطرة الاستعمارية الغربية، صحيح أنه بعد قيام إسرائيل نشأت وتطورت سيرورات مستقلة لتكوين اجتماعي جديد ومشوّه، لكن فهم نشأتها مهم في فهم حاضرها مع مرور الذكرى 104 لإطلاق وعد بلفور المشؤوم، والأهم من ذلك فهم الارتباط العضوي بين دولة إسرائيل وشبكة المصالح الغربية الاستعمارية في المنطقة والعالم.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى